الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 8-

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

  • العالم الإسلامي.. لماذا لم تنتشر إجراءات الحجر الصحي ضد الطاعون مع معرفة الطب العربي بالنظرية العامة للعدوى؟

والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: لماذا طبقت في الشمال الإيطالي إجراءات الحجر الصحي ضد الطاعون منذ عام 1400، والتي تبعتها الدول الأوربية الأخرى بعد ذلك قبل اكتشاف روربرت كوخ الميكروبات المسببة للأمراض بأكثر من أربعة قرون؟، ولماذا أنشأت المدن الإيطالية أبنية مخصصة للأمراض المعدية، حيث أقيمت أول بناية من هذا النوع في جنوا بعد طاعون 1999/ 1001م، ثم لماذا أمر برنارد فيسكونتي حاكم ميلانو بعزل إحدى المدن المصابة بالطاعون عام 1379م بالكامل مع العلم أن الأطباء في هذا الوقت كانوا يجهلون طريقة انتقال الوباء؟. وعلى الجانب الآخر، لماذا لم تنتشر في العالم الإسلامي إجراءات الحجر الصحي ضد الطاعون مع معرفة الطب العربي بالنظرية العامة للعدوى، وبأن الأمراض المعدية تنتقل من شخص إلى أخر؟، ولماذا لم تنشأ في العالم الإسلامي منذ القرن الرابع عشر معازل خاصة للمرضى الجذام مثل تلك التي أقامها الأوربيون وتركهم يعيشون بطريقة عادية بين الأصحاء على الرغم من تعريف أبي بكر الرازی 899- 920 م في كتابه “الحاوي” الجذام بصورة تفصيلية وذكره أنه من الأمراض المعدية؟. لتفسير هذه الإجراءات الصحية، التي بدأت في مدن الشمال الإيطالي، هناك عاملان:

يتعلق أولهما بالوضع التاريخي لنظام المدنية – الدولة في شمال إيطاليا، ويتعلق الأخر بالجانب الفكري والثقافي الذي أدى إلى ظهور هذه الاستجابة. وبخصوص العامل الأول، فإن نظام المدينة – الدولة ذا الصبغة التجارية – الذي نشأ في الشمال الإيطالي، شأنه شأن المدن الأخرى التي ظهرت إبان العصور الوسطى الإقطاعية – اعتمد بالأساس على قوة الإدارة المحلية والبلدية بجانب السلطة السياسية لأمراء الأسر الحاكمة. هذه المدن كان لها استقلالها الذاتي، فقد كانت لها سلطتها القضائية ولها عملتها وجيشها وعلمها الخاص، وفي هذه الحالة، فظهور أوبئة مثل الطاعون كان يهدد التوازن السكاني لهذه المدن، التي أوكل إليها مراقبة هذه الأوبئة ووضع القوانين وسن التشريعات للحد من انتشارها.

لكن يبقى السؤال، لماذا ظهر في هذه المجتمعات نظام الحجر الصحي بإجراءاته الخمسة لمقاومة الطاعون، دون معرفة القائمين على هذه المجالس الصحية بالنظرية العامة للعدوى، ودون معرفة الأطباء البكتريا المسببة للطاعون
(اكتشفت في عام ۱۸۹۶) ودون معرفة العلاقة بين مرض الإنسان والبراغيث والفئران في نقل العدوى؟، وهو ما ينقلنا إلى الجوانب الفكرية والثقافية التي ساقها المؤلف لتبرير هذا الانتقال المفاجئ في التعامل مع هذا الوباء الخطير بهذه الصورة الثورية

من ناحية الفكر الطبي دون مقدمات منطقية، والذي وضعه تحت عنوان “اختراع مقاومة المرض”.

ويذكر المؤلف أن السبب في هذا الابتكار في التعامل مع وباء الطاعون کان سقوط القسطنطينية أمام جيوش السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1403م، وهجرة العديد من المفكرين والعلماء إلى المدن الإيطالية، وهو ما أدى إلى ظهور ما أطلق عليه المؤلف حركة “الإحيائية. وترى هذه الحركة الفكرية أن المجتمع مماثل في تنظيمه للكائن الحي، فهناك الطبقة الحاكمة على رأس الهرم الاجتماعي، التي تملك هيمنة أبوية على الطبقات الأدنى، العمال والفالحين، وفي المقابل فإن هذه الطبقات الأدنى مدينة بالطاعة لحكامها. وهو ما أدى – حسب رأي المؤلف – إلى اعتبار الصحة العامة شأنا عاما من قبل النخب الحاكمة، وهو ما برر التدخل في حياة الناس العاديين، وهم الأكثرية الذين يعيشون في بيئة ينتشر فيها الطاعون، وكان فرض إجراءات الحجر الصحي من قبل النخب الحاكمة والمجالس الصحية على الأكثرية من الطبقات الدنيا معناه فرض إجراءات صحية جديدة كانت تتعارض مع الأعراف والتقاليد والثقافة الشعبية لدى هذه الأغلبية، ونتيجة لهذا أطلق البعض على هذه الإجراءات القهرية مشروع التحكم والتدخل الاجتماعية. وهو المشروع الذي عزاه المؤلف إلى نشأة فكرة النظام.

هذه العلاقة التي أنشأها المؤلف بين سقوط القسطنطينية وظهور الإحيائية وفكرة

النظام ومن ثم إلى ابتكار إجراءات الحجر الصحي بهذه الطريقة الفجائية

لا تصمد طويلا أمام عدة حقائق، أولها تنظيم المجتمع بهذه الطريقة الهرمية، حيث إن خضوع الطبقات الدنيا للطبقات الحاكمة كان وضعا موجودا بالفعل قبل سقوط القسطنطينية في كل أوربا الإقطاعية.

ثانيا: يذكر المؤلف أنه بحلول عام 1400م طبقت المدن الإيطالية مثل فلورنسا وميلانو إجراءات الحجر الصحي، أي قبل سقوط القسطنطينية بثالث سنوات، كما أن عزل المدن المصابة بالطاعون تم عام 1379م، أي قبل سقوط القسطنطينية بستة وسبعين عاما.

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top