أجمع المشاركون في اللقاء الدراسي الذي أحتضنه مجلس النواب حول “الإعلام الوطني والمجتمع”، خلال اليومين الماضيين، على ضرورة إعادة النظر في القوانين المؤطرة لمهنة الصحافة والإعلام وفي مقدمتها قانون 13/88 المتعلق بالصحافة والنشر، والقانون رقم 13/89 الخاص بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين، والقانون رقم 13/90 المحدث للمجلس الوطني للصحافة.
وأكد المشاركون على الدور الحيوي للإعلام في تعزيز البناء الديمقراطي والمؤسساتي، وهو ما يفرض بحسبهم توسيع فضاءات حرية التعبير والصحافة والنشر، واحترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لسائر العاملات والعاملين في هذا القطاع، بما يساعد على تجويد الخدمة الإعلامية الموجهة للمجتمع.
وفي السياق ذاته، أكد رشيد الطالبي العلمي رئيس مجلس النواب على التحديات التي تواجهها بلادنا والتي تستدعي، في نظره، تقوية الحقل الإعلامي الوطني “من حيث التنظيم والضبط والنموذج الاقتصادي، وأساسا من حيث المحتوى”، مشيرا إلى أن الثورة الرقمية تزيد من حجم هذه التحديات لما تتيحه من إمكانيات لنشر الأخبار دون قيد أو شرط مهني، “إلى الحد الذي يمكن أن نصف معه حالة استعمالات التكنولوجيا الرقمية في تدفق الأخبار على المستوى الدولي، بالفوضى”.
وتوقف رئيس مجلس النواب عند ستة رهانات يرى أنها تشكل أرضية للنقاش، ويتعلق أولها بتأهيل الإعلام الوطني المكتوب، والمرئي والمسموع، والرقمي، ليكون مواكبا للتموقع الجديد للمغرب كقوة ديمقراطية، وركيزة استقرار إقليمي وقاري ودولي، وقوة صاعدة اقتصاديا، منخرطة في رفع التحديات الدولية المشتركة. ويتعلق الرهان الثاني بالتعبئة من أجل ربح رهان الانتقال الرقمي بالنسبة للصحافة الوطنية، والحيلولة دون استغلال الإمكانيات الكبرى التي تتيحها لنشر الأخبار المضللة والتشكيك في مصداقية المؤسسات أو المس بالأمن العام لبلادنا، أو التشهير والتشنيع بالآخرين.
ويرتبط الرهان الثالث باسترجاع الدور الاستراتيجي للإعلام الوطني في بناء الرأي العام الواعي، المدرك لقضايا بلده “بما ييسر المشاركة في الشأن العام، اقتراعا، وتحملا للمسؤوليات، وتقييما للأداء العمومي، وفق ما يكفله الدستور”، مشيرا إلى أن الرهان الرابع يرتبط بالمصداقية والجدية في الممارسة الصحفية والإعلامية.
أما الرهان الخامس الذي أورده الطالبي العالمي فيرتبط بسلطات الضبط السمعية البصرية والمكتوبة (الورقية والرقمية)، مشيرا في هذا السياق إلى تجربة المجلس الوطني للصحافة الذي قال إنه “يتوفر على التصميم والإرادةِ اللَّذينَ يُمَكِّنَانِها من التصدي للانحرافات المهنية وللاختلالات والممارسات التي تَنْتَهِكُ حقوق المجتمع والأشخاص والمؤسسات في سياقِ ممارسةِ التضليل والخلط والتشهير، وفي عدد من الحالات، الابتزاز السياسي”، ويتعلق الرهان السادس، بحسبه، بالتكوين واستكمال التكوين، ودور مؤسسات التكوين في مهن الصحافة والاتصال والإعلام وتقنياتها، العمومية والخاصة.
مراجعة النموذج الاقتصادي للمقاولة الإعلامية
من جانبه دعا وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد خلال هذا اللقاء الدراسي الذي يأتي عشر سنوات بعد انعقاد الحوار الوطني الذي احتضنه البرلمان، حول “الإعلام والمجتمع” (دعا) إلى ضرورة تقييم المرحلة السابقة والوقوف على إيجابياتها وسلبياتها خاصة بعد اعتماد مدونة الصحافة والنشر والتي أصبح من الضروري، بحسبه، مراجعتها بشكل شامل، بهدف الرقي بالإعلام المغربي داخل وخارج الوطن، مشيرا إلى ضرورة القيام بمراجعة النموذج الاقتصادي للمقاولة الإعلامية عبر تشجيع الاستثمار ودعم الموارد البشرية، وتقديم فلسفة للدعم العمومي للمقاولات الصحفية باعتباره استثمارا.
وأفاد محمد المهدي بنسعيد أن الوزير المنتدب المكلف بالميزانية منخرط بشكل قوي في هذا الورش من خلال الرفع من الغلاف المالي المخصص للدعم العمومي من 65 مليون درهم سنويا إلى 200 مليون درهم سنويا، على أن يتم توزيعه بمعايير جديدة ودفتر تحملات واضح ومنطق يقطع مع بعض الممارسات السابقة.
وبحسب الوزير المهدي بنسعيد فإن التوفر على إعلام قوي وموضوعي، يمنح الخبر اليقين ويقدم التحليل الرزين، يفرض بالضرورة النهوض بالوضعية الاجتماعية والمادية للعاملين في القطاع، عبر تحيين الاتفاقية الجماعية، والرفع من الدخل الأدنى للصحافيات والصحافيين والعاملين في المؤسسات الإعلامية، وضمان حقوقهم الاجتماعية، معربا عن رغبته في بلوغ هذا الهدف وذلك من خلال خلق مؤسسة وطنية للنهوض بأوضاع العاملين في المؤسسات الإعلامية الوطنية، تماشيا مع الورش الملكي للحماية الاجتماعية.
تحيين القوانين المنظمة للمهنة
من جانبه، أكد يونس مجاهد، رئيس المجلس الوطني للصحافة، أن المجلس وقف على عدم وضوح النص القانوني في ما يخص شروط الحصول على بطاقة الصحافة المهنية، لاسيما شرط الشهادة أو الدبلوم بالنسبة لطالب بطاقة الصحافة لأول مرة، إلى جانب صعوبة ضبط الوثائق المتعلقة بجذاذات المداخيل في ظل غياب معايير واضحة من الإدارات المختصة، إضافة إلى عدم التزام مجموعة من المقاولات الصحافية بالتصريح بالصحافيين الأجراء لديها لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بشكل منتظم، وكذا عدم احترام الحد الأدنى للأجور في مجال الصحافة وفق ما تنص عنه الاتفاقية الجماعية.
وأفاد يونس مجاهد أن المجلس الوطني للصحافة، على الرغم من كل الإكراهات، قد عمل على ضبط أكثر دقة للولوج إلى المهنة، من خلال اعتماد الصرامة في احترام الشروط القانونية، ووضع حدا أدنى للأجر، كما قام بالتنسيق مع إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للتأكد من سلامة الوضع القانوني لطالب البطاقة المهنية، بالإضافة إلى تطوير تبادل المعطيات بخصوص الدبلومات مع الوزارات والإدارات المختصة.
بدوره شدد عبد الله البقالي، رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، على ضرورة تحيين القوانين المنظمة للمهنة، وعلى رأسها مدونة الصحافة والنشر، وقانون الصحافي المهني، مع الأخذ بعين الاعتبار مقترحات النقابة في هذا الباب، مشيرا إلى أن هذه المقترحات تهدف إلى توسيع فضاءات حرية التعبير والصحافة والنشر، وإلى احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لسائر العاملات والعاملين في هذا القطاع، بما يساعد على تجويد الخدمة الإعلامية الموجهة للمجتمع.
كما دعا نقيب الصحافيين المغاربة، إلى تعديل القانون بمثابة النظام الأساسي للصحافي المهني، والقانون المحدث للمجلس الوطني للصحافة، بما يضمن تعريفا دقيقا للصحافي المهني وللمقاولة الصحافية، مع إضفاء القوة القانونية اللازمة للمجلس الوطني للصحافة، خصوصا فيما يتعلق بالقرارات التأديبية الصادرة عنه وبصلاحيات التحكيم الممنوحة إليه، وفي ما يخص أيضا العدالة التمثيلية، داعيا إلى زيادة عدد الصحافيين في عضوية المجلس الوطني للصحافة وإعطائه الصفة الاعتبارية القوية على غرار باقي مؤسسات الحكامة.
وجدد عبد الله البقالي التأكيد على مطالب النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وفي مقدمتها الاهتمام بالأوضاع المادية والمهنية والاجتماعية للصحافيات والصحافيين، وتجويد النصوص القانونية المرتبطة بالحماية الاجتماعية، ليتم التنصيص بوضوح على أنها تشمل كل العاملين في قطاع الإعلام، بالإضافة إلى ربط الاستفادة من الدعم المالي العمومي بتطبيق الاتفاقية الجماعية الخاصة بالصحافيين، التي قدمت النقابة مشروعا متكاملا بشأنها للحكومة والتنظيمات المهنية للناشرين.
الجلوس إلى طاولة الحوار
من جانبه، عبر نور الدين مفتاح، رئيس الفدرالية المغربية لناشري الصحف، عن رغبته في الجلوس إلى طاولة الحوار مع مختلف الشركاء من أجل بلورة مخارج متوافق بشأنها بخصوص كل القضايا المطروحة للنقاش، مشيرا إلى أن جميع المواضيع الخلافية بين المهنيين يمكن أن تحل بالحوار وليس بالصدام، وأن ذلك من شأنه أن يقصر المسافة بين الفرقاء حول تلك القضايا الخلافية.
وقال مفتاح، في السياق ذاته، “أدعو زملائي وأمد إليهم اليد من أجل توحيد الكلمة، فيما يتعلق بالخلافات حول عدد من المواضيع فيمكن أن تحل بالحوار وليس بالصدام”، مشيرا إلى أن الصحافة المغربية خلال السنتين الأخيرتين فقدت 70 بالمائة من انتشارها وتأثيرها ومواردها، مما أضطر الحكومة للقيام بمبادرة لم تقم بها أي دولة في العالم خلال “كورونا” وهي صرف دعم استثنائي للصحافة يوازي 10 سنوات من الدعم السابق، مضيفا أن هذا الدعم الاستثنائي لم يكن إلا لمعالجة هذه الخطورة، وبمثابة الإنعاش من أجل البقاء.
وفي نظر نور الدين مفتاح فإن قطاع الصحافة والنشر بالمغرب يعاني أزمة هيكلية، وهي أزمة قراءة النافع، لأنه مع دخول الفاعل الإلكتروني، يمكن أن نقول أن قاعدة الزوار توسعت ولكن هذه القراءة النافعة التي تجعل المواطن المتابع معبئا ومعنيا بما يجري في الشأن العام، مشيرا إلى أن القراءة ضعيفة جدا مقارنة بالدول التي تشبهنا وهاته مداخل لإيجاد حل لهذا المشكل قتلناها تشخيصا منذ المناظرة الوطنية الأولى للإعلام”، مبرزا أنه في الحوار الوطني للإعلام أنتجنا 300 توصية، ولو تمت قراءتها لوجدناها آنية.
واعتبر مفتاح أنه لم يكن هناك من مبرر لتمديد مدة انتداب المجلس الوطني للصحافة لمدة ستة أشهر إضافية، بل كان ينبغي أن تراسل الإدارة الهيئة المعنية بالإشراف على الانتخابات طبقا للقانون وتنظيمها، منبها إلى أن الوقت غير كاف لمناقشة مراجعة جميع قوانين الصحافة والنشر قبل تنظيم انتخابات المجلس الوطني، ومشيرا إلى أن الحوار حول تعديل هذه القوانين استمر سنوات في المرحلة السابقة.
بدوره ذكر إدريس شحتان، رئيس الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين بالتوصيات المنبثقة عن الحوار الوطني حول “الإعلام والمجتمع”، المنظم سنة 2010، والتي ركزت بحسبه، على خلاصات تهم إصلاحات في مجال المقاولة الصحافية، ومحيطها الاقتصادي والصناعي والتسويقي، على الصعيدين الوطني والجهوي، والولوج للمهنة والتنظيم الذاتي، وقطاع التكوين، ومحاور أخرى تهم حرية الصحافة والنشر والتكنولوجيات الحديثة… كما تبنت مشروع مجلس وطني للصحافة، تقترح عضويته من طرف الهيآت الأكثر تمثيلية للمهنيين، بالإضافة إلى توصيات أخرى.
وأشار شحتان إلى أن القانون الحالي يعاني من ضعف التأطير القانوني لنظام المعايير الخاصة بإنشاء المقاولات، حيث يمكن لأي كان أن يخلق مقاولة على الورق، دون الخضوع لدفتر تحملات إداري ومالي وضريبي وبشري ولوجيستيكي، مما يستدعي وضع قواعد للشركة المستثمرة في الصحافة، وإرساء نظام لتشجيع إنشاء مقاولات قوية، قادرة على احترام حقوق العاملين، وعلى تقديم منتوج جيد.
وبحسب رئيس الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين فإن القانون الأساسي للصحافيين المهنيين، يتسم بعدم الدقة في الصياغة القانونية لشروط منح بطاقة الصحافة، سواء بالنسبة لصنف الصحافيين أو التقنيين، أو الصحافيين الأحرار والشرفيين، مما كان له أثر سلبي على مستوى تحصين المهنة.
من جهة أخرى، اعتبر المتحدث ذاته أن النظام الانتخابي الحالي للمجلس الوطني للصحافة يتضمن عدة ثغرات مما يفرض في نظره إعادة تشكيل المجلس الوطني للصحافة على قاعدة التوافق بين الهيئات الأكثر تمثيلية للمهنيين في انتداب الأعضاء وليس على قاعدة الانتخاب.
وتفاعل رؤساء الفرق النيابية مع مداخلات المنظمات والهيئات المهنية، مؤكدين على ضرورة مراجعة القوانين المؤطرة للمهنة والرقي بالأوضاع الاجتماعية للمهنيين، داعين، في نفس الوقت، إلى التعامل مع الإعلام كخدمة عمومية، واقتراح حلول عملية لتجاوز العوائق التي يعرفها القطاع.
وفي السياق ذاته، أكد رشيد الحموني رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب على أن المستوى الديمقراطي لأي بلد، وفي أي مرحلة تاريخية، من مؤشراته المحورية هي أوضاع الصحافة ومدى استقلاليتها وجودتها، مشيرا إلى أن الديمقراطية والإعلام لهما مصيرٌ مشترك وتحديات مشتركة أيضا.
وأضاف الحموني أن الإعلام مرتبط بحرية التعبير، وحرية التفكير، والحق في الحصول على المعلومة، كما أنه مرتبط باستقلالية المؤسسة الصحفية، ماليا، ومن حيث الخط التحريري، بالإضافة إلى ارتباطه بجودة تكوين الصحفيين، وحيادهم وأوضاعهم الاجتماعية.
وبحسب رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب فإن حماية المقاولة الصحفية والصحفيين تتطلب النزاهة والشفافية في التمويل العمومي، وفي الولوج إلى الطلبيات العمومية الإعلامية، وفي الولوج المتكافئ إلى الإشهار، مذكرا في هذا الخصوص، بمقترح القانون الذي قدمه فريقه الأسبوع الماضي، والذي يتعلق بتحديد كيفيات وشروط توزيع الإشهار العمومي على المؤسسات الصحفية الوطنية.
كما دعا رشيد الحموني إلى ضرورة إجراء تقييم موضوعي لمختلف القوانين المتضمنة في مدونة الصحافة والنشر، مشيرا إلى أن قانون الصحافة والنشر، الذي تمت مراجعته عدة مرات، أهمل شروط إنشاء المقاولات الصحافية، حيث اكتفى بشرط توفر مدير النشر على الإجازة وبطاقة الصحافة، غير أنه لم يمنح، في نظره، الأهمية الكافية للالتزامات الأخرى التي يجب توفيرها على الصعيد المالي والإداري والمهني، كما أن هذا القانون، يضيف المتحدث، ظل غامضا في العديد من مواده، في حماية الحريات، وفي توفير إطار قانوني واضح في مجال التواصل الرقمي، لحماية حقوق الأفراد والجماعات.
وذهب رئيس فريق التقدم والاشتراكية إلى القول بأن المدخل لأي إصلاح حقيقي، يكمن بالأساس، في توفير الشروط الملائمة لحياة وازدهار المقاولة الصحافية المغربية، كجزء من الصناعة الوطنية للإعلام، التي تحتاج إليها بلادنا، لذلك فإن التعامل مع الصحافة والإعلام، كخدمة عمومية، يعتبر من الالتزامات التي على الدولة أن تضمنها، لحماية حرية الرأي والتعبير والتعددية، بمسؤولية واحترافية، مؤكدا على ضرورة عدم إغفال الشق الاجتماعي المتعلق بالصحافيين والعاملين، وهو ما يفرض في نظره، ربط الدعم المالي العمومي الذي تستفيد منه المقاولات الصحافية، بتحسين الأوضاع المادية والمهنية للصحافيين. وفي نفس الاتجاه، ينبغي التعجيل بإخراج مؤسسة الأعمال الاجتماعية لفائدة الصحافيين والعاملين إلى حيز الوجود.
كما شدد الحموني على ضرورة تقييم تجربة المجلس الوطني للصحافة، على ضوء النماذج الناجحة في العالم، سواء في صلاحياته ومسطرة عمله، أو في تركيبته وكيفية اختيار أعضائه، من أجل تعزيز أدوار ووظائف الهيآت المؤطرة للمهنيين، بطريقة ديمقراطية، تسمح من جهة، باحترام المنظمات التمثيلية، وتكريس شرعيتها، ومن جهة أخرى، التوافق حول آليات جيدة لضمان النزاهة والشفافية والكفاءة.
< محمد بنعبد السلام
تصوير: رضوان موسى