لم يطرح موضوع الإصلاح في المغرب إلا بعد الاصطدام بالدول الأوروبية من خلال حدثين كان لهما أثر بالغ في نفوس المغاربة. يتجلى الأول في هزيمة المغرب أمام القوات الفرنسية في معركة إيسلي، حيث شكلت هذه الهزيمة التي لم يكن أشد المتشائمين بتوقعها، صدمة للنخبة السياسية المغربية، وطرح سؤال الذات لدى النخبة المثقفة والقادة السياسيين. ويتجلى الثاني في الهزيمة النكراء في حرب تطوان أمام إسبانيا، حيث استفحلت الأوضاع مرة أخرى، وانعكس ذلك على الأوضاع الداخلية وزادتها تأزما، وفقدت الدولة المغربية هيبتها السياسية والعسكرية في الساحة الدولية فانكسرت شوكتها. كما كشفت معركة إيسلي عن تقادم النظم السياسية والعسكرية والتعليمية المغربية التي اعتمدتها سياسة البلاد في خضم صيرورتها التاريخية، فأصبح الإصلاح ضرورة ملحة تفرضه الظرفية آنذاك، وشمل بالخصوص الجانب العسكري الذي أخذ حيزا مهما. كما أن الجانب التعليمي نال هو الآخر قسطا بعكس الأول، من خلال إرسال بعثات طلابية إلى الخارج.
شكلت البعثات التعليمية في العهد الحسني، لحظة تاريخية مهمة في التعليم العصري، وكان الهدف المقصود من إرسال البعثات توفير الكفاءات الوطنية اللازمة لتنفيذ المشاريع الإصلاحية التي برمجها السلطان في سياسته. فانكب اهتمامه على هذه البعثات لتنفيذ طموحه السياسي بعد عودتها للنهوض بالمرافق الحيوية، الشيء الذي نلمسه في التوزيع الجغرافي لطلبة البعثات، حيث تم توزيعهم على العديد من الدول الأوروبية.
سنركز في هذه الحلقات على أن نتائج البعثات لم تكن بارزة ومؤثرة في بناء دولة مغربية حديثة، كل ما سبق ذكره يجعلنا نطرح مجموعة من الإشكالات التي حاولنا الإجابة عليها بالتفصيل في الفصول الآتية:
كيف جرى انتقاء الطلبة الواقع عليهم الاختيار بغية إرسالهم للدراسة بالخارج ؟ وهل تمت دراستهم في ظروف ملائمة ؟ وإلي أي حد يمكن تفسير سيطرة العائلات الكبرى على السير العام لهذا المشروع الإصلاحي؟ وهل كان هناك تنويع في البلدان الأوروبية التي قصدها طلبة البعثات لإكمال دراستهم بها ؟ هل يمكننا الحديث عن تقييم الحصيلة إذا كانت إيجابية أم سلبية ؟ وما هي العوامل المؤثرة على المشروع الإصلاحي وساهمت في إفشاله
كان المخزن ظاهرا منتقيا وموجها إلى المتعلمين الذين برزت مواهبهم ونجاعتهم، كما كان محددا لنوعية المعارف الواجب اكتسابها في رحلة العلم الطويلة في دول أوروبا الغربية، ومن ذلك أمر الحسن الأول محمد بركاش بتعيين «أناس لتعليم تريست وعلم البحر، وأن يفرقوا على نواب بابورات النجليز والفرنصيص والألمان والطليان وعددهم ستة لكل جنس، واثنان من الستة المذكورين بختصون بتعلم ترياست والمكينة… وأربعة لتعلم علوم البحر»….يتضح من خلال هذه الوثائق الحضور القوي للمخزن في عملية إيفاد البعثات التعليمية، وتقديمه لذلك بإجراء امتحانات قبلية لاستكشاف العناصر القابلة للتعلم. وبقي المخزن مهيمنا على مخارج الإصلاح وآلياته، نافيا بذلك أي دور محتمل لأي قبيلة أو زاوية أو أسرة في رسم معالم الرحلة الدراسية في الخارج، وربما يفسر ذلك غياب العمق المجتمعي لهذه الخطة الإصلاحية.
يطلعنا الطالب الطاهر محمد الودي أحد أعضاء البعثة التي توجهت إلى فرنسا، في كتابه« الاستبصار» أنه تلقى بمدرسة طنجة تكوينا دام ست سنوات وقد شمل هذا التكوين مواد الحساب والهندسة والتنجيم والجغرافية واللغة العربية والمبادئ الدينية الأولية واللغات الأجنبية.
نلاحظ أن الطلبة المغاربة كانوا يتلقون تكوينا أوليا بمدرسة اللغات بطنجة التي سبق وأن أسسها السلطان المولى الحسن الأول والتي أطلق عليها سابقا «المدرسة الحسنية».
مدرسة اللغات بطنجة كانت تعد الطلاب للعمل بالبحرية وبالجيش والمخزن أيضا. ومن المواد التي كانت تلقن زيادة على اللغات التي منها العربية، الحساب والهندسة، الجغرافية والمواد الدينية، وكانت تسمى المدرسة الحسنية. أما عن مدرسة الألسن التي تعنينا هنا، نلاحظ على أنها أنشئت في حدود سنة 1292هـ/1874م، وكانت مدة الدراسة فيها تستغرق حوالي سنتين.
وبخصوص هذه المدرسة فهي من تأسيس السلطان الحسن الأول، والغالب أن هذه المدرسة كانت تكميلية، حيث يقع بها إعداد طلبة مدرسة المهندسين، الذين سيذهبون لإكمال دراستهم بأوروبا.
وكان المنسق لعملية تعيين المتعلمين وتدريبهم لإرسالهم إلى أوروبا هو الحاج محمد نجل النائب السلطاني. فقد ذكر في إحدى رسائله أسماء شباب من سلا وجهوا سنة 1885 للتعلم بطنجة وهم:
1 – محمد بريطل
2- عبد الله بريطل
3- أبو بكر “بن الحاج عبد القادر “شماعو
4- أخوه محمد
5- محمد بن العربي اعماره
6- محمد المكينسي
7- والشاب عبد الله التبال وهو الذي سيوجه إلى إيطاليا وسيموت هناك.
وكان هؤلاء يتعلمون اللغة الطاليانية.
كلف السلطان مولاي الحسن الأول ولاته بالمدن والأقاليم بأن ينتخبوا من الطلبة نجباءهم ويعلموهم مبادئ العلوم الرياضية والطبيعية قصد اختيار المتفوقين منهم للسفر إلى أوروبا بقصد تعلم العلوم والفنون الحربية.
ويدل لجوء المخزن إلى عمليات الانتقاء على غياب واضح للمؤسسات التربوية الفاعلة التي كان في إمكانها أن تعفيه من ذلك. ففي غياب نسق ومقصد تعليمي واضح وهادف، لا يمكن التأسيس للشروط الدنيا للإصلاح المجتمعي.
ومن بين المؤسسات التي ساهمت بشكل ضئيل في عملية تهيئة المتعلمين للسفر إلي الخارج مدرسة الألسن في طنجة التي كان لها دور محدود في التأطير اللغوي والعلمي لبعثة عام 1291هـ/1874م، لكنه تلاشى بعد ذلك بالنسبة إلى البعثات اللاحقة خصوصا تلك التي توجهت إلى بلجيكا، إذ تكلف محمد بن الكعاب الشركي وعبد السلام الأوديي بتسيير مهمة الترجمة لأعضائها.
هذا وقد تنوعت طرق إعداد الطلبة المرشحين، وتمت أحيانا خارج مدرسة طنجة، حيث كان السلطان يكلف ولاته بالمدن والأقاليم بانتخاب أنجب الطلاب لتعليمهم مبادئ العلوم الرياضية والطبيعية، ويحظى المتفوقون بامتياز الذهاب إلى أوروبا لمتابعة دراستهم في ميدان هذه العلوم. وكان محمد ابن الكعاب من أفرادها. استقر بن الكعاب بمعية أفراد البعثة أولا في مدينة طنجة، وتحديدا بالمدرسة الحسنية” نسبة إلى الحسن الأول”، ابتداءا من شتنبر 1874. كان المسار الذي رسم لتكوين هذه البعثة يقضي دراسة أفرادها لمبادئ العلوم التكوينية التي من شأنها أن تؤهلهم للدراسة خارج أرض الوطن. وعلى امتداد الست سنوات التي قضاها هؤلاء في المدرسة الحسنية بطنجة، تعلموا مواد الحساب والهندسة، والتنجيم، والجغرافيا، واللغة العربية والمبادئ الدينية الأولية، إضافة إلى اللغة الفرنسية كتابة وتحدثا. مما يظهر حرص المخزن على تمكينهم من تكوين يؤهلهم لمسايرة ما سيتعلمونه في المعاهد الأوروبية من علوم والاستفادة من ذلك، قصد اكتساب الخبرة العلمية والعسكرية اللازمة
> بقلم: يونس برحمة