يعود مستقبل القارة الإفريقية ليطرح نفسه موضوعا للتفكير من خلال تناول التكتلات الجهوية في إفريقيا على ضوء مشروع الاتحاد الإفريقي المعلن عنه خلال لقاء سرت في شهر مارس 2001، وهو موضوع يكتسب أهميته على مستويات عدة سياسية، اقتصادية، ثقافية وفكرية.
تحل المنظمة الجديدة محل منظمة الوحدة الإفريقية كمنظمة عتيدة عمرت منذ إنشائها سنة 1963، وتضم في عضويتها 53 دولة وتمثل حوالي 800 مليون إفريقي، واشتغلت على نطاق قاري لمدة 38 سنة، واعتبرت شريكا ومتعاونا أساسيا مع منظمة الأمم المتحدة في مختلف البرامج الأممية التي تهم إفريقيا، كما ساهمت في حل العديد من مشاكل القارة السمراء إبان فترة حاسمة من تاريخها، في مناخ طغت فيه على مسرح الأحداث العديد من الخلافات والنزاعات والانقسامات.
يأتي نزوع الأفارقة الراهن نحو الوحدة في ظروف متغيرة شهد العالم فيها خلال عقد من الزمن تحولات لم تكن متوقعة حتى وقت قريب، فبرز نظام العولمة ذو القطب الواحد، تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت نتائجه الاقتصادية والسياسية تدعو إلى التفكير الجدي في كل أصناف التكتلات الجهوية والإقليمية التي بمقدورها أن تولد مناطق ودوائر تكتل تعبر وتدافع عن مصالح المجموعات الضعيفة التي تمثلها ضدا على رغبة وإرادة الأطراف القوية والمستفيدة من نظام العولمة أحادي القطب.
وإذا كان رهان التكتلات الجهوية قد غدا اليوم ممارسة قائمة في السياسة الدولية الراهنة وعنصرا محددا لتعامل العديد من المنظمات القارية والإقليمية ففي الحالة الإفريقية يمثل هذا الاتجاه سعيا نحو بناء البيت الإفريقي وتحقيق التكامل المنشود بين دولها وتوجها استراتيجيا لتدبير واستشراف مستقبل أفضل للقارة الإفريقية في أمد منظور قريب.
إن منظورا استراتيجيا من هذا النوع، يتطلب معالجة ذات مستويين، يقوم المستوى الأول على تطوير وتنمية الاتجاهات التكتلية على المستويات الإقليمية كإطار ملموس لتطوير نوعي للتعاون الملموس بين المجموعات الأكثر تكاملا بين بلدان وشعوب القارة، فيما يرمي المستوى الثاني إلى إدخال تعديلات نوعية على الإطار العام للتكتل المشترك بين الدول الإفريقية وفي نطاق يحترم مصالح وحقوق البلدان والشعوب الإفريقية كافة وفق منظور شمولي يتجاوب والالتزامات الخاصة للأمم المتحدة.
لكن بعض الأسئلة الهامة تطرح نفسها اليوم:
هل يستطيع “مشروع الاتحاد الإفريقي” الجديد تجسيد اتجاه الإصلاح في عمل منظمة الوحدة الإفريقية، وانطلاقا من قناعات راكمت خيبات تجارب الماضي في عمل المنظمات القارية والإقليمية واستبعاد خلق كيان جديد لا يحقق مكتسبات فعلية لإفريقيا وشعبوها؟
ثم ما هو دور البعد الثقافي في تحضير سبل التقارب والتكتل على الصعيد الإفريقي؟
هل يمكن للمرحلة الجديدة للتكتلات الجهوية في إفريقيا أن تجعل من العناصر الثقافية والاتصالية مقومات أساسية لتمهيد تكتلات جهوية وشمولية أكثر واقعية وانصهارها مع الخصوصيات التي تميز العديد من الكيانات الإفريقية؟
إن صيغة الأسئلة الواسعة المطروحة لا تشكل تقييما ونقدا للسياسات الإفريقية للنمو التي انتهجتها الدول الإفريقية خلال الأربعة عقود الأخيرة، وتقييما لمدى مواءمة تلك السياسات للمصالح العليا للقارة الإفريقية وللخصائص الثقافية والحضارية المشتركة لأبناء القارة الإفريقية ودورها الأساسي المؤثر في مسلسلات التغير الاجتماعي لمصالح الفئات والأوساط الأكثر تضررا من السكان.
أولا: من تاريخ الوحدة
مع بداية القرن العشرين شكلت الوحدة وعيا بالذات الإفريقية. فضمن نطاق مسلسل عميق عبرت عند الذاكرة والوعي الإفريقي في الأدب الإفريقي والتعبير عن وجدان وإحساس الملونين بشخصيتهم الإفريقية وحريتهم وحنين جامح إلى الماضي ووعي بمصير الوحدة المشترك.
شكلت بداية القرن العشرين مرحلة مميزة من تاريخ الفكر والخطاب حول هوية وسيادة القارة السمراء ووحدة القارة الإفريقية تجسد في الاهتمام بالذاكرة الإفريقية والأدب الإفريقي والتعبير عن وجدان وإحساس الملونين بشخصيتهم الإفريقية وحريتهم وحنين جامح إلى الماضي ووعي بمصير الوحدة المشترك.
وضمن هذا السياق شرع في البحث عن الآليات الناجعة لتجسيد ذلك الحلم الذي سكن الرواد الأوائل.
فقد شكل انعقاد مؤتمر لندن عام 1900 محطة انطلاق أولى تلته سلسلة مؤتمرات خلال عامي 1919 بلندن و1921 ببروكسيل، ثم المؤتمر الرابع بلندن سنة 1923 والمؤتمر الخامس عام 1927 في نيويورك، وأخيرا المؤتمر السادس في مانشستر بانجلترا عام 1945. ويعد الأخير محطة حاسمة ومنعطفا تاريخيا هاما حضره العديد من الشخصيات والزعماء الأفارقة الذين أصبحوا قادة في بلدانهم غداة نيل استقلالها.
لقد تواصلت جهود زعماء القارة الإفريقية وخاصة الدول المستقلة، وجاء اجتماع الدار البيضاء في 3 يونيو 1961 الذي ضم سبع دول إفريقية ليمهد الظروف لإنشاء منظمة الوحدة الإفريقية في 22 ماي 1963.
لقد اكتسى عمل منظمة الوحدة الإفريقية خلال الأربعة عقود أهمية بالغة في توطيد استقلال الشعوب الإفريقية وحل النزاعات بين دولها. لكنه رغم جهود أربعة عقود من لدن الحكومات الإفريقية والمنظمات الدولية وخاصة الأمم المتحدة وهيئاتها المختصة، فإن النتائج لم تكن في مستوى التوقعات، فتشابك مشاكل المجتمعات الإفريقية في خطوها نحو مستويات متقدمة من الاندماج الجهوي وثقل تأثير الأعراف والتقاليد المحلية على عمليات التجديد والتحديث، وتأثير النزاعات والحروب الأهلية على مسلسلات النمو الاقتصادي والاجتماعي، وتمزق وضعف النسيج الثقافي، كلها مجتمعة عوامل ساعدت على تقليص فرص وإمكانات التكامل والتعاون والتفاعل الإيجابي وإهدار فرص النمو مع الغير في عالم يتحول.
ثانيا: الدول الإفريقية بين مجموعة الدول الأقل نموا
حسب تقرير ندوة الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية واعتمادا على معطيات تتعلق بثلاث مؤشرات أساسية تتعلق بالمساعدة الدولية والتداول المالي الخاص والدين الخارجي، نستنتج أن الدول الإفريقية تكون اليوم الغالبية العظمى من الدول الأكثر فقرا في العالم. فهي تمثل 38 بلدا من بين 49 بلدا مصنفا ضمن قائمة الدول الأقل تقدما في العالم.
كما تعتبر العديد من الدول الإفريقية من بين الدول ذات المداخيل الأقل انخفاضا في العالم والأكثر فقرا. تشير المؤشرات إلى أن 43 % من السكان يتقاضون دولارا واحدا في اليوم، وينفق في مجال الصحة 11 دولارا للفرد سنويا كمعدل للدول الأقل نموا خلال بداية التسعينات، فيما بلغ معدل بقية الدول السائرة في طريق النمو 180 دولارا، كما أن الدول الإفريقية الأقل نموا عرفت تراجعا وقف عند حدود 8 دولارات للفرد الواحد في نهاية العقد المذكور، بخلاف مجموعة الدول الأسيوية الأقل تقدما التي ارتفعت نسبة إنفاقها في المجال الصحي وصل إلى 25 دولار للفرد سنويا. ففي إفريقيا يوجد سرير واحد وطبيب واحد لكل ألف ساكن. وينخفض معدل الحياة إلى درجة دنيا لا تتجاوز 49 سنة فيما ترتفع نسبة الوفيات إلى نسبة عالية تبلغ 108 حالة وفاة لكل ألف ساكن.
وبموازاة مع ذلك تمثل المديونية الخارجية عبئا ثقيلا رغم سياسة إعادة الجدولة.
ثالثا: النزاعات والحروب الأهلية
يواجه التكتل الجهوي والقاري إرثا ثقيلا من النزاعات والحروب الأهلية والاضطرابات التي تهيمن على المشهد السياسي الإفريقي العام يمثل عاملا سلبيا قويا.
وتأتي ضمن قائمة مشاكل القارة السمراء المستعصية ذات الأولوية:
النزاعات المسلحة بين الدول:
أودت النزاعات المسلحة المعروفة بنزاعات البحيرات الكبرى عام 1998 بحياة 2.5 مليون مواطن ونزوح أكثر من مليوني شخص. ونجم عن الصراع العسكري بين إريتريا وإثيوبيا خلال عقدين من الزمن عشرات الآلاف من القتلى وأكثر من مليوني لاجئ. فيما أسفرت حروب أخرى في وقت سابق عن عدد كبير من الضحايا من السكان المدنيين.
حروب أهلية وعصيان مدني:
وهي حروب وعصيان طالت العديد من البلدان الإفريقية خلال الثلاث عقود الأخيرة. منها أنغولا والسودان والجزائر وبروندي وسيراليون والسنغال والتشاد. ذهب ضحيتها أكثر من مليونين ونصف من السكان وأعداد مرتفعة من الجرحى والمهجرين، إضافة إلى انتشار المجاعات والأوبئة.
نزاعات أخرى:
وتخص في الغالب نزاعات تتعلق بأزمة الاستيلاء على الحكم كانعكاس لأزمة الحكم والديمقراطية في القارة الإفريقية في جزر القمر ونيجيريا وكوت ديفوار تصاحبها أعمال عنف سياسي تخلف أعدادا مرتفعة من الضحايا ونزاعات تتعلق بالحدود كما هو الأمر في النزاع حول الصحراء.
رابعا: النسيج الثقافي الإفريقي:
برز البعد الثقافي في البناء الإفريقي، مع نيل الدول الإفريقية لاستقلالها، كقضية ذات مظاهر متعددة ترتبط بالهوية والمسألة اللغوية وتوفير البنى الثقافية الأساسية والحق في الإبداع والتعبير والتداول. طرحت مسألة الهوية بإلحاح شديد لعدة عقود. فأجيال الشباب الإفريقي تحصلت على شهادات عليا من جامعات إفريقية أنشأها الأوروبيون، ومن جامعات غربية لا تتشبع برامجها غالبا بمضامين تهتم بالذاتية الثقافية الإفريقية ولا تتفهم على نحو إيجابي مكانة ودور الثقافة والتراث الإفريقي في تطوير وإغناء التراث الثقافي العالمي بصفتها مكونا من مكوناته وجزء منه.
ومن جانب آخر، تفرض المسألة اللغوية نفسها بإلحاح خاصة وتعقيد النسيج اللغوي الإفريقي الذي يمثل فسيفساء لغوية فريدة لقارة توجد بها حوالي 2000 لغة من بينها 500 لغة في إفريقيا الغربية وحدها تتعايش في نسيج لغوي مركب من جراء أثر ونتائج التأثير الثقافي للظاهرة الاستعمارية وفرضه لبنيات لغوية أجنبية على اللغات المحلية. كما هو الشأن بالنسبة للإنجليزية والفرنسية، وكذا البرتغالية في العديد من دول القارة (لغة – لهجة).
ومن جانب ثالث، وبالاستناد إلى معطيات التقرير العالمي حول الثقافة لمنظمة اليونسكو لسنة 2000 تتبين مدى الفجوة في بنى وهياكل الاتصال على النطاق الإفريقي في عالم يعرف وثيرة تطور سريعة لهذين المجالين تفوق قدرة توقعاتنا.
يعاني البناء الإفريقي من مظاهر أخرى: فللبناء الثقافي الإفريقي المستقبلي لن يكون سوى بناء لحرية التعبير والإبداع والممارسات الثقافية وحرية الصحافة والحق في الاتصال والإعلام والمشاركة على نحو يبقي الصلة وثيقة بين إمكانات خلق شروط مواتية لمشاركة المواطن الإفريقي وتحمله مسؤوليته في التعبئة والمشاركة كمبدع فاعل وكرأي عام موجه ومعدل للاتجاهات وفق أساليب حضارية متقدمة في مسلسل الإنماء. غير أننا نلاحظ مظاهر نقيضة في الممارسات القائمة في عدد كبير من الدول الإفريقية.
فالجمود والإعراض عن المشاركة في البناء الإفريقي من أخطر المشاكل التي تعترض شباب القارة وتهدد استقرار النظم وأمن الشعوب والدول. وتعد البيروقراطية والفساد والنزعات إلى الديمقراطية الشكلية والعواطف أو العاطفية الهوجاء والكبرياء الزائد من المعوقات الأساسية لإفريقيا متحدة وقوية.
كما أن استرجاع إفريقيا وعيها بذاتها في عالم يتحول بسرعة، لم يعد ممكنا مع تكاثر وتوالد كيانات صغيرة ترسخ توجه التجربة، لذلك فإفريقيا بحاجة إلى التكتل وإلى تفعيل تعاون وحوار ثقافي حضاري بيني واسع، وتطوير مؤسسات حكومية وغير حكومية تساعد على دعم تواصل وتفاعل حقيقي، وتجديد للقيم الإفريقية على نحو يجعل الأفارقة منصهرين مع عصرهم فاعلين ومتفاعلين معه مجددين لفنونهم وآدابهم، وليس مجرد مشاهدين أو متفرجين على التطور العالمي الجاري ومستهلكين وحسب.
خامسا: التكتل الإفريقي المستقبلي:
تشترك الدول الإفريقية في ماض ثقافي يشكل أساس تعاون دولها في الحاضر والمستقبل. ويرتكز في الجوهر على تفعيل هذا العمق المشترك الذي يتجاوز الخلافات السياسية الظرفية، وبالتالي فإن العلاقات الإفريقية – الإفريقية بحاجة اليوم إلى الانطلاق من النسيج الثقافي الحضاري التاريخي المشترك الذي يمكن أن يشكل فعلا ضمانا لتمديد وتطوير العلاقات الاقتصادية والتبادل والتكامل في كافة المجالات الأخرى. فالبعد الثقافي للعلاقات الإفريقية يمثل في الحاضر كما في المستقبل أساسا ومدخلا قويا لتصحيح كل الانزياحات الموروثة عن الحقبة الكولونيالية.
لذلك، من المطلوب اليوم القيام بمجهود ضخم لمحو الصور السلبية المتبادلة للشعوب الإفريقية عن بعضها البعض والمتأتية عن الوساطة الاستعمارية التي استهدفت زرع هوية بين الزنوج والبيض من جهة، وبين المسلمين وغير المسلمين من جهة ثانية.
وعلى مستوى آخر، تبدو الحاجة ملحة لتجاوز وضع إهمال عاملي الثقافة والاتصال في السياسات التنموية للبلدان الإفريقية والتي تشكل اليوم قاسما مشتركا وإحدى خصائص السياسات العمومية الإفريقية.
يطمح مشروع الاتحاد الإفريقي في المرحلة الانتقائية الحالية اقتباس تجربة بناء الاتحاد الأوروبي مما يطرح تساؤلات تتعلق بنوعية المقاربة الممكنة بين مسار الإعلان عن الاتحاد الأوروبي وما يتطلع إليه الأفارقة في الاتحاد الإفريقي.
لقد استغرق بناء الاتحاد الأوروبي ثلاثة عقود، وانطلق من الاقتصاد “السوق الأوروبية المشتركة” ثم “السوق الأوروبية الموحدة” وإجراءات تشريعية وقانونية واقتصادية ومالية وجمركية ضمن جدولة زمنية تدريجية رسخت عملية الاندماج، ومكنت من تداول وانتشار المعارف والمعلومات وخلق فضاء أوروبي للمنافسة في الخلق والخيال والإبداع والتحاور وتبادل التجارب مما مهد لميلاد مجموعة بروكسيل الأوروبية ببلجيكا ثم للمجلس الاستشاري الأوروبي بستراسبورغ بفرنسا.
وعلى النقيض من ذلك، نلاحظ على المستوى الإفريقي، يجري الانتقال من منظمة الوحدة الإفريقية نحو التكتل الجديد بوثيرة سريعة تتجاوز العوامل الاقتصادية والثقافية والقضايا والمشاكل المطروحة ناهيك عن تعقيدات وتعدد زوايا النظر إلى المشاكل والقضايا الإفريقية وبني الحكم والسلطة بها.
إن بناء تكتل إفريقي قوي يستلزم استخلاص دروس من تجربة التكتلات الإقليمية، وهو ما يقتضي أيضا ليس استنساخ نموذج الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر نموذجا ناجحا في السياق الثقافي الحضاري الأوروبي، بقدر ما يقتضي ابتكار نموذج أصيل يتجاوز الواقع الإفريقي المعقد، آخذا بعين الاعتبار عمليات الإصلاح التي تنتظر العديد من المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، حتى لا تتكرر تجربة المصادقة على الميثاق التأسيسي، كما هو الشأن بالنسبة لميثاق منظمة الوحدة الإفريقية دون أن يعني ذلك شيئا جديدا على أرض الواقع.
إن تحقيق قفزة نوعية للتكتلات الجهوية على الصعيد الإفريقي تمكن من إعطاء مغزى حقيقي يتجاوب وطموحات المواطن الإفريقي يستلزم الأخذ بعين الاعتبار بعض الاستنتاجات والخلاصات الرئيسية التالية:
تصالح الإنسان الإفريقي مع ذاته:
فمشروع الاتحاد الإفريقي الجديد لن تتوفر له حظوظ النجاح سوى بإشراك وتمثيل كل البلدان الإفريقية واستخلاص العبرة والدروس من العناصر السلبية لتجربة منظمة الوحدة الإفريقية وتقييم تجربة عملها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وذلك من خلال إعادة المصداقية لأفريقيا ومؤسساتها وتغيير فعلي لصورتها ومكانتها في عالم اليوم، من قارة تنهكها الحروب والمجاعة والبؤس والفقر والآفات الاجتماعية إلى قارة للإنتاج والعمل والتعاون والإبداع والحوار والديمقراطية والمشاركة تلاقي فيها قضية الإنسان العناية والمكانة اللائقة، وتصالح الإنسان الإفريقي مع ذاته ووسطه وثقافته وتقاليده العريقة والانصهار والتفاعل الإيجابي مع متغيرات العصر بعطائه وإبداعه الخلاق.
فض النزاعات:
لن ينجح بناء الاتحاد الإفريقي على أسس سليمة إذا لم يعمل على تجاوز المعوقات التي واجهت القارة الإفريقية منذ ما يزيد عن خمس وعشرين سنة وإنهاء الحروب المدمرة التي عرفتها، وحل مشاكل الحدود القائمة بين دولها وفق أسس الحوار المعتمدة على الديمقراطية وتطوير نظم الحكم الذاتي والجهوية كخيارات بديلة لفض الحروب والنزاعات الإقليمية القائمة على الحدود الموروثة عن الحقبة الاستعمارية واعتبار المصداقية الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
رد الاعتبار للذات الإفريقية:
فحظوظ نجاح مسعى إقامة تكتل جديد والتطلع لحل القضايا الإفريقية وفق أساليب حضارية يجسد ردا للاعتبار للذات الإفريقية وللشرعية والمصداقية والانخراط الجماعي في بناء المستقبل، وهو مشروع تتأتى شروط نجاحه في السياق الحالي أكثر من أي وقت مضى، خاصة ونهاية مرحلة تميزت بتجاذب الاختيارات السياسية كانعكاس لحالة الاستقطاب لدول حديثة الاستقلال والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي.
مهمة وسائل الإعلام:
إن مهمة وسائل الإعلام الإفريقية والصحافيين وقادة الرأي مهمة جسيمة في إعادة خلق إفريقيا البناء والتشييد والنماء والتعاون بين أبناء القارة الإفريقية ومحو الصور النمطية المليئة بالأحقاد والضغائن التي خلقها سياسيون تتسم نفوسهم بالأنانية وضيق الأفق السياسي. كما أن مهمة وسائل الإعلام كبيرة في تعزيز حرية التعبير ونشر وتبادل المعلومات وتكوين رأي عام إفريقي يعي واقعه ومكانته ودوره في عالم اليوم.
تطوير التعاون البيئي:
إن التكتل الإفريقي الحقيقي لا يمكن أن ينهض قويا سوى بالاستفادة من كل طاقاته وإمكاناته الاقتصادية المعطلة على الصعيد القاري كله والتي تقدم إمكانات جبارة لتطوير التعاون الإفريقي البيني على نحو ناجع ومفيد لكل أبناء إفريقيا، في كافة المجالات التي تتوفر فيها الخبرة المحلية، مع الاستعانة بالخبرة الأجنبية اللازمة في المجالات الدقيقة وخاصة التكنولوجيا المتقدمة.
مشاركة المجتمع المدني:
إن الوحدة الإفريقية لن تبقى سوى حلما جماعيا بعيد المنال إذا لم يتم إشراك المواطن الأفريقي والمجتمع المدني الإفريقي الذي لا يمكن أن ينهض بدوره كاملا بدون ديمقراطية فعلية تضمن الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية للمواطن الإفريقي.
تعزيز التكتلات الجهوية:
إن نجاح تكتل إفريقي شامل لن يعطي ثماره الفاعلة سوى بتفعيل الاتحادات الجهوية والإقليمية كصرح متين للتعاون على مستوى مجموعات من الدول ذات خصائص ومميزات متشابهة، ومرحلة أولى للمرور إلى مراحل أرقى من الاندماج الإفريقي، وهنا نشير إلى أهمية اتحاد المغرب العربي الذي يشكل إطارا مغاربيا يمكن لتفعيله أن تكون له نتائج على صعيد قاري إفريقي شامل. فالتجمعات الجهوية الإفريقية تمثل بوابة رئيسية لتشييد اتحاد إفريقي حقيقي يقوم على دعائم قوية راسخة.
إصلاح أداء المنظمات الإقليمية:
إن إعادة النظر في “منظمة الوحدة الإفريقية” كمنظمة إقليمية مشتركة نحو منظمة بديلة تحت اسم “الاتحاد الإفريقي” يستوجب الانطلاق من رؤية شمولية لإصلاح المنظمات الدولية والإقليمية تأخذ بعين الاعتبار الانتقادات الموجهة لأداء العديد من المنظمات الإقليمية تتجلى في وجود برامج مزدوجة ومتداخلة مثل “السوق المشتركة لشرق إفريقيا وجنوبها” (الكوميس) و”مجموعة التنمية لجنوب إفريقيا” (سادك) و”الاتحاد الجمركي لجنوب إفريقيا” (إياك).
مكانة إفريقيا في عالم اليوم:
إن دور التكتلات الجهوية لا يقتصر على رفض المشاكل الإقليمية على النطاق الإفريقي، مما يجعل من مهمات الشعوب الإفريقية التضامن والمساعدة في إيجاد حلول للقضايا الكبرى للعصر، والمساهمة إلى جانب بقية الشعوب الأخرى في بناء عالم أفضل، وهو ما يجعل التفكير يروم إلى التطلع لمكانة متقدمة ودور هام لإفريقيا في عالم اليوم.
مهما كانت المصاعب كبيرة، فرهان اليوم لا ينحصر في مقدرتنا على إنتاج الأفكار والمقترحات التي تصب في صالح شعوبنا كافة، ولكن يتعلق بالأساس بمدى قدرتنا على تحويل الأفكار والالتزامات السياسية في زمن قياسي ملائم إلى إجراءات عملية ملموسة تلبي تطلعات المواطن الإفريقي على نحو إيجابي في حياته اليومية في كل قطر من أقطارنا. فهل يتجه أصحاب القرار على المستوى الإفريقي إلى الإنصات لصوت الفكر والعقل وإعمال إرادة التقارب والتصالح وتدعيمها ضمانا لإفريقيا يسودها السلم والوئام وتحتل مكانا مميزا في عالم اليوم؟
* مساهمة في ندوة: “التكتلات الجهوية إفريقيا”، جامعة الفاتح، زليتن، ليبيا، 2003
*منشورة في كتاب للمؤلف “الثقافة والاتصال والمجتمع” منشورات خمائل،2007
بقلم: د. محمد عبد الوهاب العلالي