رمضان هو شهر جوع وعطش ولكنه يعتبر في نفس الوقت بلسما وشفاء للأجساد والأرواح. وللصيام فوائد عديدة، تتوزع على العديد من الجوانب، منها الجانب الروحي والديني، الأخلاقي الاجتماعي، وكذا بالنسبة إلى الصحة البدنية للصائمين. ويوجد اليوم إجماع من قبل العلماء والأطباء على فوائد الجوع لفترات قصيرة للجسم، فأثناء الجوع يبدأ الجسم في تنظيف الأمعاء والكبد والدم من السموم، وتتقلص أمراض الأوعية الدموية، كما أن الجوع لفترات قصيرة ينشط المناعة. في هذه الزاوية، نسلط الضوء على بعض الجوانب الصحية التي يجب استحضارها من أجل صيام يجسد القول المأثور “صوموا تصحوا”.
التأثيرات الإيجابية للصوم على الجهاز المناعي
اهتمت العديد من الدراسات وما تزال بعلاقة الصيام بالمناعة. وقد مرت المعطيات على مستوى النشر العلمي في العالم بمرحلتين، الأولى تضمنت تجارب أجريت على الحيوانات الخاضعة لصوم اصطناعي، والثانية في السنوات الخمس الأخيرة حيث أُنجزت بحوث أعطت نتائج مهمة جدا.
نعرف أن جهاز مناعة الإنسان يتكون من أعضاء لمفاوية مركزية، وهي الغدة السعترية (Thymus) التي تعد المركز المتحكم في المناعة وتتموضع فوق القلب، والنخاع العظمي الذي فيه تصنع الخلايا المناعية، وأخرى لمفاوية محيطية كاللوزتين والعقد اللمفاوية والطحال.
في خلاصة عامة تفيد الدراسات أن الصوم يحسن المناعة فعلا، أي يرفع منها لتتمكن من القضاء على بعض الميكروبات ويساهم في خفض الالتهاب.
التأثير الإيجابي للصوم في تحسين للمناعة، ينقسم إلى تأثير مباشر: ضد الميكروبات وأمراض المناعة الذاتية والحد من الالتهاب. وتأثير غير مباشر: ضد السمنة والاجتفاف.
تجديد نشاط الجهاز المناعي
وبينت دراسة أجراها الباحثون في جامعة ساوثرن كاليفورنيا أن الصيام لساعات طويلة يجدد نشاط جهاز المناعة من خلال تحفيزه لإنتاج خلايا جديدة. فعندما يبدأ المرء بالصيام، يعمد الجسم مبدئيا إلى تدمير عدد من خلايا الدم البيضاء. ويبدأ بشكل طبيعي بتوفير الطاقة بعدة وسائل، ومنها التخلص من الخلايا الميتة أو التالفة التي لا يحتاجها الجسم. لكنه سرعان ما يعود لتحفيز إنتاج خلايا جديدة، مما يؤدي إلى تعزيز كفاءة الجهاز المناعي وتقويته.
وبعد نتائج هذه الدراسة، أُجريت المزيد من الأبحاث حول تأثير الصيام المتقطع، أي الصيام الذي يستمر لمدة 16 ساعة في اليوم أو أكثر، وبينت هذه الأبحاث أن خلايا الجسم التي تدعم الاستجابة المناعية وتهاجم الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض تغادر مجرى الدم عندما يتوقف الإنسان عن تناول الطعام وينخفض فيه مستوى المواد الغذائية، وتلجأ إلى نخاع العظم، المعروف بغناه بالمواد الغذائية، لتبدأ بالتكاثر وتعزيز طاقتها ونشاطها وقدرتها على حماية الجسم من العدوى.
تعزيز المناعة المضادة للميكروبات
أكدت دراسة أجريت على 120 متطوعا سليم صحيا أنه لا توجد تأثيرات ضارة لرمضان على الانفجار التأكسدي للعدلات Explosion oxydative des macrophages) ]، لهذا لا يعد الصوم ذا ضرر على الحالة المناعية للأشخاص الأصحاء.
وقد أظهرت بحوث أجريت على الجرذان أنه توجد حماية لجهازها العصبي، وتجدر الإشارة أن هذه الحماية تمر عبر مادة تسمى بـ(IFN-γ) والتي تعد عنصرا أساسيا في مقاومة الميكروبات و خاصة الفيروسات. كما أكدت دراسات أجريت منذ بضع سنوات أن (IFN-γ) المستعمل كدواء، قادر على القضاء بشكل قوي على الفيروس النطاقي الحماقي (Varicella-zoster)، خصوصا حين يمس الجهاز العصبي، ويمنع أيضا فيروس إيبولا من اكتساح الجسم. إذا فالصوم يساهم في ارتفاع نسبة هذه المادة، أي (IFN-γ)، ويؤدي إلى تقوية المناعة ضد الفيروسات، وبالتالي تثبت الفرضية التي أقرت أن للصيام تأثير إيجابي على المناعة ونستنتج أن هذا مؤشر جيد لنجاعة (IFN-γ) ضد (SARS-CoV-2) المتسبب في مرض كورونا Covid-19.
أجريت أيضا دراسة سنة 2014 على مرضى متبرعين مصابين بداء السل، تلقوا مادة (IFN-γ) كعلاج، فلوحظ ارتفاع عدد الخلايا التي تقضي على جرثومة داء السل وزيادة فعاليتها، مما أدى إلى تحسن وضعية هؤلاء المرضى.
وقد أبرزت دراسة أخرى حول حمى التيفوئيد عند الفئران أن الصيام يزيد من مقاومة السالمونيلا التيفية التي تسبب هاته الحمى.
التقليل من اضطرابات المناعة الذاتية
أكدت مراجعة علمية أن الصوم يخفف ويعكس مجموعة متنوعة من اضطرابات المناعة الذاتية، أي أنها تصبح موجهة ضد الميكروبات، ويقلل من التشيخ المناعي عن طريق قتل الخلايا التالفة والقديمة واستبدالها بخلايا وظيفية شابة.
وفي تجربة أخرى تـبرز التأثير الإيجابي للصوم عند إناث الفئران المصابة بالتهاب الدماغ والنخاع بالمناعة الذاتية التجريبي: حقن مستضد بروتيني من الخلية الدبقية قليلة التغصن (oligodendrocyte)، وتحسين التصلب اللويحي (EAE) المحدث عند الحيوانات.
خفض نسبة الالتهابات
أجريت دراسة لـ50 متطوعا في صحة جيدة صائمين لمعرفة تأثير الصيام على السيتوكينات الدموية المحرضة للالتهابات (IL-6) و(IL-1β) و(TNF-α)، والخلايا المناعية. فكانت النتائج كالتالي: انخفاضات السيتوكينات المحرضة للالتهاب (P <0.05) وانخفاض عدد الخلايا المناعية خلال شهر رمضان (تبقى ضمن النطاقات الطبيعية). وفي هذا الصدد، أجريت دراسة لـ61 شخص أبرزت انخفاض السيتوكينات المحرضة للالتهاب (IL-6) و (TNF-α)، وأخرى أكدت دور الصيام في زيادة السيتوكينات المضادة للالتهاب : (IL-10) و(IL-10/IL-6).
وبالتالي تمكن هذه المواد من توهين الحالة الالتهابية للجسم، دون الإضرار بالاستجابة المناعية.
الحد من مشاكل السمنة وآثارها الضارة على المناعة
تمكن الخلايا الشحمية من إنتاج الأديبوسيتوكين (adiponectin وleptin) التي تلعب دورا مهما في الالتهاب وتضعف المناعة، كما تساهم في تفاقم العدوى خاصة الفيروسية، وبالتالي تضعف النسيج الدهني المناعي.
عدم وجود آثار ضارة للجفاف
أبرزت دراسات قديمة، أنه رغم النقص الطفيف جدا للماء في الجسم خلال الصيام لم تعزى أي آثار صحية ضارة بشكل مباشر إلى التوازن المائي السلبي عند الأصحاء. كما أنه بقي إجمالي مياه الجسم في المعدل الطبيعي من 30 إلى 46 كغم. وأبرزت دراسة أخرى أنه لم يتم العثور على فرق مهم في وقت التخلص المخاطي والتي تعتبر طريقة لتنظيف القصبات الهوائية بماء الجسم.
التأثيرات الضارة لقلة النوم والتدخين
أكدت دراسة جديدة من تحليل الانحدار اللوجستي متعدد المتغيرات (régressionlogistique multivariée) أن التدخين يضعف المناعة عند 78 مريضا مصابين بمرض كوفيد-19، كما أن الحرمان من النوم يرتبط بزيادة القابلية للعدوى الفيروسية: انخفاض (HLA-DR).
الإفطار والمناعة
يفيد الصيام في تقوية المناعة، خاصة في حال اتباع نظام غذائي متوازن وصحي خلال ساعات الإفطار.
تستمر ساعات الإفطار التي يسمح فيها للصائم بتناول الطعام هذا العام لحوالي 8 ساعات، وهي فترة يمكن خلالها القيام بالكثير من الأمور لتعزيز كفاءة الجهاز المناعي. من المهم الحرص على اختيار الأطعمة المناسبة التي تحتوي على الفيتامينات والعناصر الغذائية الرئيسية لأنها تؤثر بشكل مباشر على المناعة وتساعد في محاربة بعض الأمراض. وبالمقابل، فإن تناول الأطعمة غير الصحية يضعف المناعة ويجعل الصائم عرضة لهجوم الفيروسات والجراثيم.
ويعد فيتامين “سي” من أهم العناصر الغذائية التي تفيد في تعزيز المناعة، ويمكن الحصول عليه من الحمضيات والفراولة والفليفلة والبقدونس والبروكولي، ومن المهم الحصول على الكميات اللازمة منه يوميا لأن الجسم لا يستطيع تخزينه أو إنتاجه.
أما فيتامين “ب6” فيوجد في الموز والخضار الورقية والحمص، وهو يعزز التفاعلات الكيميائية الحيوية في الجهاز المناعي، فيما يتوفر فيتامين “إي” في المكسرات والبذور وهو مضاد أكسدة قوي ويعزز قدرة الجسم على محاربة العدوى. وكذلك تعد الأحماض الدهنية “أوميغا 3” (السمك الدهني) ومضادات الأكسدة (المكسرات والبذور) والحديد (اللحوم والبروكولي) أيضا من العناصر الغذائية الرئيسية التي يجب أن تحتوي عليها الحمية الغذائية للمساعدة على محاربة المرض.
بالمقابل يجب الامتناع عن تناول الأطعمة الغنية بالسكر والدسم على الإفطار لأنها ترفع من نسب السكر والكوليسترول في الدم، كما أن لها تأثيرا سلبيا على المناعة. فقد يثبط ارتفاع السكر في الدم عمل الجهاز المناعي من خلال التأثير على الخلايا التي تحارب البكتيريا، وقد تبين أيضا أن الأطعمة المقلية والغنية بالملح تسبب الإنتانات والالتهابات في الأمعاء وتؤثر على عمل الجهاز المناعي.
من المهم كذلك تقليل استهلاك الأطعمة المصنعة، لأن لها تأثيرا سلبيا على المناعة، واللحوم الحمراء لأنها تزيد من خطر الإنتانات.
> إعداد: سميرة الشناوي