ساد في زمن ليس بالبعيد أن العلوم تمكنت من ضبط الأشياء إلى درجة أنها أصبحت بمثابة العقيدة، وسلبت كثيرا من الباحثين عقولهم، فانزلقوا مع هذا الوضع حتى أصبحوا يتعاملون مع الجسم وكأنه آلة ميكانيكية يمكن استخدامها والتحكم فيها. وتحول النظام الغذائي من نظام نباتي تقريبا إلى نظام تغلب عليه اللحوم والأجبان خصوصا في العالم الغربي، وأدى هذا الوضع إلى ظهور أمراض أخطر من الأمراض الناتجة عن سوء التغذية.
فالعلوم احتقرت الشعير والذرة وجعلتهما علفا للحيوان، واستعملت مؤشر البروتين الحيواني (كلغ بروتين للفرد في السنة) لتصنف الشعوب إلى راقية، إذا كان المؤشر مرتفعا، ومتخلفة إذا كان المؤشر ضعيفا. لكنها رجعت إلى النخالة والبرسيم الحجازي، وهي مواد أقل من الشعير والذرة. ونشير إلى أن استهلاك البروتين الحيواني يصل في الدول المصنعة إلى 88.2 لسنة 1999 بينما لا يتعدى 25.5 في الدول النامية، وهو مؤشر ليس صحيحا، لأن استهلاك البروتين الحيواني لا يتعدى 3.9 بالنسبة لجنوب آسيا و8.7 بالنسبة لآسيا الشمالية، ونحن نعلم أن هذه الدول لا تشكو من الويلات الصحية التي تشكو منها الدول الغربية. والحقيقة أن النظام الغذائي لا يقدر أحد على تحديده، ولذلك باءت كل المحاولات التي سادت منذ أكثر من ثلاثين سنة لتحديد حمية معينة لمرض معين بالفشل.
والنظام الصحيح لا يعتمد على المركبات التقليدية التي تشمل البروتينات والسكريات والدهون والفيتامينات والأملاح المعدنية، وإنما يعتمد على المكونات الواقية للجسم من الأمراض والتي أصبحت منعدمة في النظام الغذائي الحديث. وتشمل كل من المواد المضادة للتأكسد والضابطات الهرمونية والألياف الخشبية الذائبة والأنزيمات، ويرتكز على المواد النباتية كمواد أساسية في التغذية.
فهناك أنماط غذائية اعتادها الناس ظنا منهم أنها راقية، لكن الحقيقة أنها قد تكون عكس ما يظن هؤلاء. فكثير من الناس يعتقدون أن النظام الغربي الذي تغلب فيه اللحوم والأجبان على النشويات نظام راقي. وكان أصحاب هذا النظام في الدول الغربية يسخرون من النباتيين لأنهم لا يستهلكون اللحوم والألبان، وينتقدونهم بنقص في الحديد والفيتامين B والفيتامين D والبروتينات، لكن من الناحية العلمية تبين أن هذا النظام الذي يعتمد على اللحوم أدى إلى كوارث صحية تمثلت في أمراض القلب والشرايين، حيث بلغت نسبة الوفيات في الدول الغربية بسبب هذه الأمراض 50 في المائة. وهذا النظام تسبب في أعراض خطيرة منها أمراض القلب والشرايين والأمراض المرتبطة بها وهي السمنة والكولسترول والشحوم في الدم وارتفاع الضغط، ومنها أمراض أخرى تتبع هذه الأمراض نظرا لانعدام الألياف الخشبية والمضادات للأكسدة والفيتوستروجينات، ومنها تقرحات القولون والبواسير وتكون الحصى في المرارة والكلية، وتضخم البروستاتا، والخلل الهرموني عند النساء وتأخر الحمل.
ومن الأنماط التي كانت سائدة في المغرب خصوصا في الأرياف والبوادي، نجد النظام شبه النباتي أو ما يسمى بالنظام المتوسطي، الذي يغلب فيه النبات على اللحوم والألبان، ويعتمد على الحبوب بكل أنواعها، الشعير والذرة والشوفان والأرز والقمح والقطاني مثل الفول والفاصوليا والعدس، والخضر والفواكه، ويتميز بزيت الزيتون، ويتناول البذور الغذائية مثل الكتان والحلبة وحب الرشاد والحبة السوداء ولا يهمل استهلاك الخشاش كالخبيزة والسلق والحماض والسكوم، ويستهلك زيت الزيتون مع الخبز، وهو النظام الذي يسخر منه كثير من الناس، ويصفونه بنظام الفلاحين. ونلاحظ أن هذا النظام نجح أكثر من النظام الأول في صد الأمراض، فلم تكن البوادي المغربية تشتكي من الأمراض التي يشتكي منها سكان المدن.
ومن الناحية العلمية يعتبر هذا النظام راقيا وهو النظام الذي بدأت الدول الغربية تعود إليه، ويمتاز بكونه لا يحتوي على أي خطر، حيث يخلو من الكولسترول والشحوم المشبعة وحمض الأوميكا6، ويمتاز بالفيتامينات وحمض الأوميكا3 والدهنيات الغير مشبعة، والألياف الخشبية والمواد المضادة للأكسدة والفيتوستروجينات. وتلعب هذه المركبات دور الواقيات للجسم من أي خلل، من حيث ليس هناك إمساك أو سوء الهضم أو قرحة المعدة أو ارتفاع الضغط أو تقرح القولون أو فقر الدم أو خلل هرموني عند النساء أو تضخم البروستاتا عند الرجال أو أمراض القلب والشرايين. ونلاحظ أن هذا النظام نجح إلى حد بعيد في البوادي المغربية.
وظهر نمط آخر مخضرم٬ يرتكز على السهولة والسرعة في التحضير أكثر ما يرتكز على طبيعة الأكل، وهو نظام الوجبات السريعة (Fast food)، وهذا النظام مجهول التركيبة، وقد بدأ في بداية الأمر كنظام اضطراري، حيث لا يلجأ إليه الناس إلا في الحالات الاستثنائية كالسفر مثلا أو غياب الزوجة أو ضيق الوقت، لكنه سرعان ما تحول إلى نظام غذائي ثابت له آلياته وشريحته من المجتمع، بل هناك مواد غذائية أصبحت مقرونة بالوجبات السريعة مثل الدجاج والبطاطس ومصبرات سمك التونا والطماطم والأرز، فالذين يتغذون خارج بيوتهم ويعيشون على هذه الوجبات السريعة يصابون بأمراض المعدة والأمعاء وفقر الدم والتوتر العصبي، والنساء يصبح لديهن خلل هرموني يظهر في صورة اضطرابات الدورة الشهرية. وهؤلاء الأشخاص عموما تنشط باكتيريا (Helicobacter pylori) في معدتهم فتحدث قرحة حادة، وتنخفض لديهم المناعة، وربما ينخفض ويقل لديهم التركيز. لأن هذا النظام تنخفض فيه نسبة الألياف الخشبية والفيتامينات والمضادات للأكسدة وحمض الأوميكا3، ويحتوي على مضافات غذائية سامة، ويكثر فيه حمض الأوميكا6 والبايروكسيدات والميلانويدات، وهي مركبات كابحة للهضم، فتتحمض الأغذية في المعدة ويقع انتفاخ، ويتقرح القولون من الإمساك الحاد، وينقص امتصاص الأملاح المعدنية في القولون لأن غياب الألياف يجعل خلايا القولون لا تمتص، فيقع نقص في الكلسيوم والمغنيزيوم والفوسفور وهو ما يؤدي إلى التوتر، وتنعدم الفيتوستروجينات ويرتفع الكوليستيرول فيقع خلل هرموني عند النساء. وتتعرض خلايا القولون للجذور الحرة في غياب المضادات للأكسدة والألياف الخشبية الغذائية فتتحول إلى خلايا سرطانية مع مرور الوقت.
الدكتور محمد الفايد