يتشكل النص الأدبي عند الشرارة التي تقدحها التجربة، وخلاصة التجربة في كل أبعادها دلالة فاضت عن ذات الكاتب، انتشاء بها، أو دلالة تتوق ذات الكاتب إليها، والشوق والنشوة هما عين النص وتحققه.
وذاك التوتر والصراع الذي يذوقه ويكابده المبدع هو ما يبلور المعنى، المعنى في تلبُّسه وتجسده في اللغة روحا وشكلا.
وإذ تكابد الذات تخلُّق النص وانبثاقه، فإنها لم ولن تنفصل عنه، بل يزيد اشتباكها به، وإن صار غريبا عنها مذ تحَقَّقَ التحقق الأول، فمجرد ما يعلن الكاتب عن النص – قراءته في حفل أو أمسية أو لقاء ثقافي أو طبعه ونشره …- ،عن وجوده يكون قد سجل لحظة انفصاله عنه، واشتباك أخصب به..حيث ينتقل النص الأدبي إلى الطور الثالث من نموه، فبعد طور الكمون وطور التخلق، ينتقل إلى طور انفصال عن منتجه واتصال بمتلقيه في فضاء التداول وتقلباته وامتداداته، وذاك طور جديد لخلق المعنى ولا نقول اكتماله … على اعتبار أساسي مفاده أن النص يحمل خصوبة الإمكانات ، والاحتمالات ..ما يتيح عند كل تلق، وتجاوب، ولقاء به إلى انقداح شعلة معنى .. جديد وتبلور معنى من أمشاج فهوم سابقة وانفتاح على دلالات لاحقة.
وترتكز التداولية في صلتها بالنص الأدبي كخطاب غير مباشر (تخييلي) على جملة من المفاهيم من أهمها 🙁 السياق – القصدية – الكلام غير المباشر… ).
• السياق: تعدُّ لحظة قراءة الخطاب/ النص الأدبي، لحظة تواصل تتفاعل فيها الآليات التداولية، وأطرافها التي يُعَدُّ السياق أحد أهمها، لأن التداولية “دراسة للغة بوصفها ظاهرة خطابية وتواصلية واجتماعية في نفس الوقت “(1)
ويتفق منظرو التداولية على أن مكونات السياق تتحدد بشروط الإنتاج النصي الداخلية والخارجية، أي الاجتماعية.” ويشمل السياق المحيط اللساني (مستخدم اللغة، الحدث، النظام اللغوي، مواقع مستخدمي اللغة، أنظمة المعايير الاجتماعية والعادات والتقاليد). فقد عرف السياق بأنه «علامات شكلية في المحيط اللساني الفعلي” (2).
• القصدية: مفهوم القصدية في فهم كلام المتكلم وفي تحليل العبارات اللغوية، وهو مبدأ أخذه – أوستين- من الفيلسوف هوسرل والظاهراتيين، واستثمره في تحليل العبارات اللغوية. وتتجلى مقولة القصدية ، بالخصوص في الربط بين التراكيب اللغوية ومراعاة غرض المتكلم والقصد العام من الخطاب. (3)
إن المقصد يقع في صميم شروط النجاح وكذا في صميم القوة المتضمنة في القول وحتى في مفهوم العمل ذاته وفي النظرية التداولية .(4)
• بناء المعنى:
اللغة تبدو، وقبل كل شيء، مكرسة لإنتاج المعنى، وذلك آن التواصل بها. (5)
تبحث كل من التداولية وعلم الدلالة في دراسة المعنى في اللغة ويجعل بعض الدارسين التداولية امتدادا للدرس الدلالي(6)
4- الخطاب غير المباشر:
فسورل يقدم الخطاب الخيالي بوصفه عملا لغويا غير مباشر .(7)
الأفعال الغير المباشرة: فيها ينتقل المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي، وهي أفعال تحتاج إلى تأويل لإظهار قصدها الإنجازي كالاستعارة والكناية ” إذ تجبر المستمع من الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المعنى الذي يسنده المتكلم في قوله…فالتداولية تتجاوز علم الدلالة إلى كل العلامات اللغوية وغير اللغوية، وكل الإشارات، وكل ما يعنيه القول، وكل ما يمكن أن يحمله من صدقه ومجازه، فتتجاوز الدلالة الصريحة إلى ما وراء القول للوصول إلى المعنى .(8 )
5 – التلقي والتأويل: فالتداولية تدرس كيفية تفسير المتلقي للعلامة.(9)
وتتلخص مهام التداولية في دراسة ” استعمال اللغة ” التي لا تدرس ” البنية اللغوية ” ذاتها، ولكن تدرس اللغة عند استعمالها في الطبقات المقامية المختلفة، أي باعتبارها “كلاما محددا” صادرا من “متكلم محدد” موجها إلى مخاطب محدد بلفظ محدد في مقام تواصلي محدد لتحقيق غرض تواصلي محدد . (10)
1 – النص الأدبي والتداول:
يفتح النص الأدبي بولوجه فضاء التداول حياة جديدة، حياة التلقي والتأويل والفتق والرتق، حياة تتشكل باستعماله من طرف المتداولين / القراء الذين تختلف غايات اتصالهم به، وتمثلاتهم له وعنه، المعاني والفهوم المتلبسة بالسياق الاجتماعي، ومقاصدهم منه فالتداولية كما يعرفها شارل موريس: هي دراسة ارتباط العلامات بمؤوليها أي بمستعمليها.
نشأ مع التحولات المتسارعة في آليات ووسائل الاتصال والتواصل الحديثة، تناول مختلف وجديد للنص الأدبي، فالانتقال من الشفهي فالكتابي والطباعي إلى الرقمي، تبعه ولازمه وعي بإمكانات التقنية الحاسوبية على سبيل التمثيل وما تتيحه في ذلك التناول والتداول، كنشوء مفهوم النص المترابط الذي يحدده الدكتور سعيد يقطين بالحد التالي:(النص المترابط وثيقة رقمية تتشكل من “عقد” من المعلومات قابلة لأن تتصل بعضها ببعض بواسطة روابط.)- سعيد يقطين: من النص إلى النص المترابط /مجلة عالم الفكر/العدد2 / المجلد 32 /أكتوبر – ديسمبر 2003- وهذا ما يجعل بناء المعنى يصطبغ بتلوينات للتقنية أثرها عليه.
المدرسة وتداول النص الأدبي:
يتم تقديم النص الأدبي للمتعلم في سياق جديد:
• يقتطف من نص أصلي.
• يعنون بعنوان جديد غالبا.
• يتم التصرف فيه بخلق بياضات غير بياضاته الأصلية بالتصرف /الحذف.
• يرقن بخط وشكل طباعي مختلف.
• يرفق بصورة أو رمز أو لوحة.
• يوضع في مجال وضمن محور قيم معينة.
كل هذه العوامل وغيرها ستجعل من النص نصا آخر ومن تلقيه وإدراكه لحظة لها خصائصها التي لا تنفصل عن قصدية توجيه خفي نحو معنى مطلوب من طرف المؤسسة الرسمية.
لا شك أننا نحتفظ بانطباعات عن نصوص أدبية درسناها بالمدرسة، ومنا من فوجئ بالخيانة الجمالية التي اقترفت في حقه وهو يقرأ النص الأصلي.
فكيف يدرك أطفالنا وطلبتنا النص الأدبي؟
وما الوسائل الفاعلة في عملية انبناء المعنى والمعاني لديهم؟
ما تمثلاتهم عن الكتابة والكاتب والكتاب؟
ما الدور الذي يقوم به الناقل الديداكتيكي/المدرس في عملية تشكيل فهم النص وبناء المعنى؟وما ملكاته المعرفية والمهارية؟
الشعر والقصة مرفوضان من طرف شركات النشر والتوزيع:
هل هي حالة محلية خاصة ناتجة عن أزمة قراءة وأزمة تداول الكتاب، أم ملمحا لأزمة أوسع في المكان وفي الزمان وفي الدلالة؟
و «ليس الكتاب مجرد كيان مادي؛ بل إنه كائن حي يتفاعل مع محيطه السياسي والثقافي والاجتماعي.. إلا أن الكتاب يعيش اليوم في العالم العربي والمغرب بالخصوص، ظروفا صعبة تتجلى في مشكل القراءة، والنشر، والتوزيع، مما ينعكس على التأليف والإبداع..» (11)
ويمكن رصد أهم معيقات التداول الناجح للكتاب، فهي تتمثل في:
– الأمية.
– ضعف القدرة الشرائية.
– ضمور تقاليد القراءة.
– غياب تنشئة اجتماعية للتربية على القراءة.
– إهمال الإعلام للاحتفاء بالكتاب وخاصة المرئي منه.
– ضعف أو غياب التحفيز على القراءة.
– تغييب الكتاب عن التمثلات الرمزية ..
– غياب إدماج المكتبة في مشاريع التهيئة المجالية والعمرانية…
– إن خصب الرؤية النقدية التداولية يكمن بالأساس في اعتبارها ملتقى اتجاهات معرفية ولسانية ونفسية وسوسيولوجية ودلالية، ولا شك أن في اشتباك الإنسان المعاصر بمختلف القضايا السريعة والمفاجئة وتعدد انشغالاته وهمومه، ما يجعل من هذا الانفتاح ضرورة معرفية للخطاب الأدبي وتداوله.
***
الإحالات:
1 – التداولية من أوستن إلى غوفمان ( تأليف فليب بلانشيه ) تعريب : صابر الحباشة وعبد الرزاق الجمايعي . منشورات عالم الكتب الحديث-ط1 /2012.ص10.
• 2- تحريشي عبد الحفيظ – موقع اللسانيات والتربية:/ http://kenanaonline.com/users/mektaba/posts
– 3 مسعود صحراوي- التداولية عند العلماء العرب: دراسة تداولية لظاهرة “الأفعال الكلامية” في التراث اللساني العربي / ط1 يوليو 2005 دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان- ص10.
4- التداولية من أوستن إلى غوفمان ( تأليف فليب بلانشيه ) تعريب: صابر الحباشة وعبد الرزاق الجمايعي . منشورات عالم الكتب الحديث-ط1 /2012./ص119.
• 5- نفسه ص 23.
• 6- تحريشي عبد الحفيظ – موقع اللسانيات والتربية:/ http://kenanaonline.com/users/mektaba/posts
7 – التداولية من أوستن إلى غوفمان ( تأليف فليب بلانشيه ) ..سبق ذكره /ص154.
8 – سحالية عبد الحكيم –التداولية – مجلة المخبر العدد الخامس مارس 2009.
9- نفسه.
10- مسعود صحراوي- التداولية عند العلماء العرب:
دراسة تداولية لظاهرة “الأفعال الكلامية” في التراث اللساني العربي / ط1 يوليو 2005 دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان- ص26.
11- الكتاب المغربي: أزمة القراءة ومشاكل النشر والتوزيع
مصطفى بن عبد المالك- جريدة التجديد – 5/8/.2008
بقلم: أمجد مجدوب رشيد