وتساءل كاتب المقال عن الأشياء التي أعطت لمحمد عابد الجابري “هذا الألق وتلك الفحولة الفكرية وذلك الحضور المهيمن” ليجيب أن “الجابري نفسه لا يعرف كيف خرج بذلك المزيج الغريب من الحميمية مع التراث في نفس الوقت الذي كان يمسك فيه ناصية الثورة الإبستمولوجية، التي فتنت أوروبا ما بعد الحداثة ليتحفنا بتلك الأفكار العبقرية عن التراث العربي الإسلامي”.
وتابع أن الجابري جدير بالوصف الذي “يطلقه أسلافنا على من يعجبهم من العلماء وهو (فلتة زمانه)”، مضيفا أنه “جدير بهذا الوصف رغم أن مدرسة العلوم الإنسانية المغربية أخرجت جيلا من معاصريه وتلامذته كانوا على مستوى مشابه من الهضم للثقافة الغربية، التي اكتفى إخوانهم المشارقة بترجمتها ورصها بالتجاور مع تراثهم دون أن يفلحوا في استثمارها بالطريقة المبدعة للجابري وأترابه”.
وأكد على أن “الأوساط الأكاديمية تلقت فكر الجابري بالقبول رغم مشاكسات المشاكسين لأن الرجل كان منتميا بشكل قوي إلى التراث الذي عانق إشكالياته رغم صرامته تجاه معوقات التطور في ذلك التراث ممثلة فيما سماها سلطات النص والسلف والتجويز”.
كما أن الجابري، يقول كاتب المقال، كان “منتميا باعتزاز إلى الأمة” مشيرا إلى أن “انتصاره الصارم للعقل كانت أهم إضافة قدمها للباحثين في الركام الذي تجمع طيلة خمسة عشر قرنا من الزمان”.
“ففي كل مرة يتناول الجابري موضوعا فكريا تساهم قدرة التحليل والتصنيف التي تمتع بها ذهنه الوقاد في لملمة أطراف ثقافة موسوعية تبهر القراء. لقد قال دائما إنه لا يمكن لأمة أن تنهض دون الانتظام في تراث ولكنه دعا قومه أن يتحولوا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث والفرق شاسع بين المقولتين”.
وأكد أن الجابري “كرس حياته للمساهمة في عصر تدوين جديد لأنه اكتشف بكل وضوح أن منظومتنا الفكرية ما زالت أسيرة عصر التدوين الأول في القرنين الثاني والثالث الهجريين”.
وخلص كاتب المقال إلى التأكيد على أن “الجابري وإن كان قد رحل عن عالمنا فإن أفكاره العظيمة وكتاباته الثرية ستظل مرجعا لا يمكن تجاوزه لكل المهتمين بثقافة الأمة العربية الإسلامية وتراثها”.