الحداثة الشعرية العربية من منظور النقد المغربي الحديث

>   بقلم: عبد الواحد عرجوني

 إن الصراع بين القديم والجديد، في الشعر العربي، ليس وليد العصر الحديث، ولكن انطلق بقوة مع مستهل النصف الثاني من القرن الماضي. ومنذ ظهور الشعر الحر، اتخذ الأمر منحى ازدادت حدته مع ظهور مجموعة من الدراسات والتنظيرات، على شكل مقدمات لدواوين شعرية، أو كتب مستقلة، أو مجلات كانت منبرا لمجموعة من الشعراء، اتخذوا من موضوع تحديث القصيدة العربية شعارا لهم، وعلى رأسها مجلة “شعر” التي كان يديرها يوسف الخال، وعضوية علي أحمد سعيد (أدونيس). وقد انصب اهتمام هؤلاء الشعراء والدارسين على مجموعة من مكونات العمل الشعري، كان للإيقاع منها النصيب الأوفر. وكان للجدال الذي دار في المشرق صداه في المغرب العربي؛ فانبرى مجموعة من الشعراء والنقاد لتناول الأمر في إنتاجهم الشعري، وكتاباتهم النقدية، وبحوثهم الأكاديمية، ومن هؤلاء، في المغرب، بصفة خاصة، المرحوم أحمد المعداوي المجاطي (1936-1995)، في رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا (1971)، التي طبعت تحت عنوان “ظاهرة الشعر الحديث”، ثم أطروحته، فيما بعْدُ، الموسومة بـ”أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث”. ومنهم محمد بنيس في جل كتاباته، بالإضافة إلى رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا الموسومة بـ”ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب – مقاربة بنيوية تكوينية” (1978)، وأطروحته لنيل دكتوراه الدولة (1988)، التي طبعت تحت عنوان “الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها” (أربعة أجزاء)، وكان أدونيس من بين أعضاء لجنة مناقشة هذا العمل الأكاديميّ، وغيرهما من النقاد والشعراء، وبخاصة مع تأسيس مجلتي “الثقافة الجديدة” و”بيت الشعر”.
ويعتبر محمد بنيس من الذين كانوا على احتكاك مباشر مع التنظيرات والنقود التي أثارت مجموعة من قضايا الشعر العربي الحديث، بالإضافة إلى أحمد المجاطي؛ بسبب احتكاكه المباشر مع أصحابها، وبخاصة يوسف الخال وأدونيس، كما يشير في تمهيده للجزء الأول من كتابه الأطروحة السابق الذكر، حيث يقول: “وللشاعر أدونيس نعلن، مرة أخرى، عن الفرح الشعري بمشاركته في مناقشة عمل كان ينحته بصبر الناسكين منذ عشرين سنة من المصاحبة والمؤازرة والحوار، وقد كانت مناقشتنا المستمرة، والإفادة من تجربته الشعرية وكتاباته التنظيرية.. ما هيأ لنا إمكانية اختبار قضايا، وعقد صلات، واستثمار وثائق، وإقامة منتَعَشَة في المتاه” (الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، 1/11). واعتبارا لما سبق، يمكن القول إن تجربة محمد بنيس تكاد ترتبط، من أوجه متعددة، بتجربة أدونيس في تنظيراته ودراساته للشعر العربي، ولعل القارئ لأطروحتيهما معا يستشف نوعا من هذا الارتباط.
ففي تتبعه لظاهرة الحداثة في الشعر العربي، يعود محمد بنيس، كما فعل دارسون آخرون، إلى بدايات ظهور مصطلح “المحدث” عند أبي عمرو بن العلاء، و”المتأخر”، و”الحديث” عند ابن قتيبة، والذي التصق بالحركة الشعرية التي أعلن عنها كل من بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام، كما سيضيف ابن المعتز مصطلح “البديع”. ويستنتج بأن المصطلح الخاص بهذه الممارسة لم يكن واحدا. أما في العصر الحديث، فبالنسبة لنازك الملائكة في ديوانها “شظايا ورماد”، فإنها لم تسمّ الظاهرة في مقدمتها التنظيرية للشعر الحر، بل اكتفت بالحديث عن أسلوبين؛ “أسلوب الخليل” و”الأسلوب الجديد”، وفي دراساتها اللاحقة في “قضايا الشعر المعاصر”، ومقدمات بعض دواوينها، ستتبنى الشاعرة العراقية الدفاع عما صار يُعرف بـ”الشعر الحر”، دون الاستعانة بأي مصطلح آخر، في حين كان المصطلح السائد عند جماعة مجلة “شعر” هو “الشعر المعاصر”. وأول إشارة جاءت في بيان يوسف الخال، الذي افتتح به نشاط هذه المجلة في يناير 1957، وهو ينتقد وضعية الشعر في لبنان، متهما إياه بالتقليدية، واستعمل مصطلح “الشعر الحديث” في مجلة “الآداب” التي أصدرت عددا خاصا بهذا الشعر في يناير عام 1955. واستمرّ استعمال المصطلح في دراسات أخرى، وفي أعداد مجلة “شعر”، وبخاصة عند أدونيس، الذي دبّج دراسة عَنْوَنَها بـ”محاولة في تعريف الشعر الحديث” (مجلة شعر ع.11، س.3، 1959،ص79)، ليتحول عنده الأمر إلى مشروع سيتفرّع إلى آفاق لا تكف عن الغوص في الحداثة ومساءلتها، واعتبر محمد بنيس هذه الدراسة بمثابة “بيان أولي” يجسّد القضايا التي سترافق مغامرته، وبرنامج متكامل في النظر إلى الفعل الشعري، الذي سيزداد وثوقية مع انفتاح  الشاعر على الآداب الفرنسية لما بعد الحرب العالمية الثانية، وعثوره على كتاب النِّفري “المواقف”، والوضع الذي خلقته الثورة الفلسطينية، ثم إنجاز أطروحته “الثابت والمتحول” (1973)، ليأخذ مصطلح “الحداثة” ونقدها مكانة الصدارة ضمن اهتماماته، وينضاف إليه نقاد آخرون، منهم خالدة سعيد وغيرها.
ويرى محمد بنيس أن كل المصطلحات التي استعملت ذات أصول غربية، على المستوى الأول والمستوى الثاني، أو ما أسماه بالعتبات؛ السفلى والعليا، ويستنتج بأن وضع الحداثة الشعرية العربية بعد الحرب العالمية الثانية، يحيلنا على “ثلاثة متون هي: الشعر الحر، والشعر المعاصر، والكتابة الجديدة. وهي متباينة من حيث بنياتها النصية واختياراتها النظرية إلى الحد الذي لا يكون الخلط بينها إلا ضربا من الاستمرار في عماوة السيولة النقدية التي تسقط الإعلامي على الشعري والمعرفي” (3/22).
وفي الجزء الرابع من أطروحته “مساءلة الحداثة”، ينتقل بنيس، كما يشير إلى ذلك في مقدمة المتن، من التركيز على “المفاهيم والتصورات الخاصة بالعناصر والبنيات النصية للشعر العربي الحديث” (نفسه، ص 5)، إلى استقصاء العناصر النصية والخارج نصية التي “تستحوذ على المشترَك الشعري” (نفسه)، في هذه الحداثة، ومساءلتها؛ هذه المساءلة ستبلغ مداها في الفصل الرابع من المؤلف، حيث سيؤاخذ الناقد على نقاد الشعر العربي الحديث عدمَ اهتمامهم، بما طرحه القدماء حول المسألة الأجناسية، بصفة خاصة، وإضاعة الجهد في قراءة مساءلة الحداثة، وممارسة القراءة النقدية لها، وأكد فاعلية “المعرفة النقدية في إعادة الرؤية إلى الشعر والعروبة، من خلال الغنائية وانتقال البنيات وتباينات المركز الشعري ومحيطه” (4/176).
وأخيرا يمكن القول إنّ دراسات محمد بنيس، الشاعر الناقد والمنظِّر، للشعر العربي الحديث والحداثة الشعرية العربية، والتي لا يمكن أن تسعها هذه النظرة المختزلة جدا، تندرج ضمن مجموعة من الدراسات التي سعت إلى إعادة قراءة الشعر العربي؛ قديمِه وحديثِه، وإثارة قضاياه، في إطار التنوع والاختلاف، وإثارة السؤال الذي يتطلبه البحث العلمي، واعتماد مبدإ الحرية؛ بغاية بناء رؤية مغايرة للحداثة في الشعر والفكر والحياة. وقراءة الشعر العربي الحديث تستلزم “المعرفة بالشعرية العربية القديمة، كما أن أسراره لا تنفتح.. في حال تناسي الشعريات الحديثة الأوربية، وكذا غير الأوربية” (4/179).    

Top