الحدود بين الواقعي والتخييلي في “ملفات بوليسية” للكاتب المغربي عبداللطيف بوحموش

“ملفات بوليسية”(1)، للأستاذ عبد اللطيف بوحموش كتاب يتكون من ستة نصوص تختلف من حيث الطول، والقصر، تكشف في المجمل عن مجموعة من القضايا التي وقعت في مدن مغربية، كالدار البيضاء، والرباط، وتيفلت، ووزان، وسلا. وقد تميزت بحبكة متقنة، وبتفاصيل عديدة. ارتكزت على منهجية البحث البوليسي المحض. بدء من تحديد الواقعة، والإبلاغ عنها، ومباشرة التحقيقات من طرف عناصر مفوضية الأمن التي توجد تحت نفوذها الترابي، وتتبع خيوط الجريمة أو القضية، وجمع المعطيات، ومواجهة الأضناء، وإعادة صياغة الواقعة، وتقديم الجناة للعدالة التي لها كلمة الحسم في القضية.
 فإذا كانت للقصة البوليسية منهجها الخاص، وطريقة محددة في البناء الحدثي، اعتمادا على أسس تمزج بين الواقعي والخيالي، ارتقاء بالحدث وملابساته وحيثياته نحو نهاية ما تفضي إلى الحل، كما يمكن أن تبقى مفتوحة حسب رؤية الكاتب. وفي هذا الصدد يشير جسترين في إحدى مقالاته “تعد القصة البوليسية بمثابة الإلياذة في إثبات وجود المدينة العظيمة نفسها، بوصفها شيئا متوحشا وغير معروف المعالم. إن أضواء المدينة مثل حراس لسر ما، مهما كان فظيعا، لسر يعرفه الكتاب ويجهله القارئ. إن كل منعطف طريق يشبه أصبعا يشير إلى هذا السر، وإن كل خيط دخان يتصاعد من المدخنة إلى عنان السماء بشكل خيالي، يبدو كأنه يضع علامات دالة بشكل صارخ وساخر على الغموض الذي يكتنف ذلك السر”. ( 2)
  فإن الصيغة التي سرد بها الأستاذ عبد اللطيف بوحموش قصص ملفاته البوليسية المرتكزة على الحوار، والقرائن، والوصف، وتحديد الخلفيات المكانية، واعتماد أكثر من تقنية سرد، كلها حابلة بتشويق مثير، وجذاب جعل الكشف عن حقائق بعض الوقائع يتخذ  مسارات مختلفة، وخيوطا شفافة للوصول إلى حل الواقعة، أو عدمه.. كما أن مختلف” القصص “القضايا المعروضة” أبرز فيها قدرات عالية سواء على مستوى صياغة الوقائع، أو ترتيب الأحداث، عبر روابط دقيقة، رغم اختلاف طبيعتها، ليقدم للقارئ وجبة دسمة، تلعب فيها جزيئات التفاصيل الدور الحاسم. جزيئيات قد يتم المرور عليها من طرف القارئ مرور الكرام. إنها قصص أشخاص عاديين جدا، لكن من خلال هذه الملفات سوف “نكتشف طريقا جديدا للبحث والعمل على إحياء الذاكرة التاريخية من خلال إعادة الاعتبار للجزئي عبر التركيز على سير الفئات المهمشة والأماكن المهمشة والأفراد المهمشين”. (3)
 وهو ما يدفعنا إلى طرح سؤال وجيه حول الفرق بين تقنية كتابة القصة البوليسية، وصياغة معطى واقعة حقيقية انطلاقا من ملفات الشرطة القضائية كما ورد في هذه النصوص؟
 بالرجوع إلى القواعد التي أرسى رونالد نوكس ( أسقف مونسينيور ) والتي  حددها في عشر، وقد قدمها المترجم علي القاسمي ملخصة كما يلي:
 يجب ذكر المجرم بالاسم في وقت مبكر / يجب تحاشي الحلول غير الطبيعية ( فوق الطاقة البشرية )/ يسمح بغرفة سرية واحدة أو ممر سيري واحد / لا يسمح باستعمال سموم لم تكشف بعد / يجب أن لا يظهر صينيون في القصة / يجب ألا تساعد المخبر المصادفة السعيدة ولا الحدس / يجب ألا يقترف الجريمة المخبر نفسه / يجب ألا يخفي الكاتب أحد مفاتيح اللغز عن القارئ / يجب ألا تخفى أفكار  الـ( وطسن) ، أي مساعد المخبر / يجب أن يكون هناك تحذير خاص عند استعمال الأخوين التوأمين أو المتشابهين .(4)
لنتساءل هل تمت صياغة هذه النصوص وفق منهجية القصة البوليسية أم أن بعض معطياتها جاء نتيجة للاجتهاد الشخصي؟
 لقد كان المؤلف صريحا وواضحا في تجنيس كتابة “ملفات بوليسية”، وهو ما يبعد كل طرح حول هوية النصوص، لكن انتماءها للحقل الأدبي لا مناص منه لكونها، صيغت بطريقة سردية، كما أن الوقائع نعتقد أنه تم التصرف في العديد من معطياتها لتكون قابلة للصياغة، كما تم التخلص من تفاصيل عديدة، لتتخذ شكل نصوص قابلة للقراءة، أو السرد، ومساعدة كذلك على تقديم وقائع بذل فيها مجهود شخصي كبير كان الهدف من ورائه في البداية إبراز دور الشرطة القضائية، ومختلف الأجهزة التي تتعامل معها للوصول إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى لتكون دليلا مساعدا في التدريس، والتكوين، باعتبار أن الكتاب كان أستاذا بالمعهد الملكي للشرطة، ومن الأوائل الذين درسوا به وتخرج على يديه الآلاف من الأطر العليا اليوم . كما أن اشتغاله لمدة طويلة بسلك الشرطة كعميد للأمن واطلاعه على العديد من القضايا عن قرب يجعل من لمساته ، واضحة في هذه النصوص، سعيا نحو دحض مفهوم الجريمة الكاملة .فهذا العمل أعتبره عملا فنيا وهو حسب “امبرطو ايكو ” ليس بالمنفصل عن ذاتيتنا( ..) لكل قارئ طريقته في تحقيق هذا الفعل وكانت له همومه وانشغالاته وبالموازاة مع ذلك كانت للنص عوالمه التي يختزلها ورسالة يسعى إلى ابلاغها عبر انفتاحيه دلالية كبرى. وهنا كان على المتلقي أن يفجر هذه الدلالات ويبحث عنها ويكيفها مع همومه حتى يتمكن من تحقيق الفهم مادام النص الأدبي يقوم على التوتر القائم بين التجلي والخفاء والوجود والعدم وبالتالي فإن الحقيقة التي يتضمنها العمل الفني حقيقة ليست ثابتة، ولكنها تتغير من جيل إلى جيل ومن عنصر إلى عنصر طبقا لتغير أفق التلقي وتجارب المتلقين” (5)
لقد كشفت هذه النصوص أن القضايا المطروحة فيها للنقاش ، هي قضايا من صلب الواقع المغربي، ومن صميم هموم أفراده العاديين جدا ، نتيجة للظلم الاجتماعي (بسبب النصب والاحتيال)، والطمع ، والانتقام ، وإعادة الاعتبار للذات المنكسرة ، بنوع من الارادة التي لم تتحقق لحظة وقوع العديد من الأفراد في شرك النصابين ، والمتآمرين مثلا ، كما عرت عن نوع من العلاقات الاجتماعية المسكونة بهاجس الربح السريع ( الطمع) .ف” الأشخاص العادديين ..هم أشخاص غير مرئيين ولا تعطى لهم أي قيمة ولا أي رمزية إلا إذا ارتكبوا جرائم خارقة ..أو نالوا عقوبات قاسية . في مثل هذه الحالات النادرة يسلط عليهم الضوء وقد يصبحون شخصيات ضمن أعمال قصصية أو أدبية ” ص 138 / (6)
 فالعامل المادي ظل هو المحرك، والأساسي في كل تحايل، أو نصب، بعيدا عن منظومة القيم المتحكمة في الأفراد والمجتمعات، وبعيدا عن الإيمان، والأخلاق، في غياب إنسانية الإنسان، بل موتها في مجتمع سريع الوتيرة. ما سمح للانتهازيين، والمتاجرين بالرقيق الأبيض، من البحث عن سبل الاغتناء السريع، كما في قصة “سوق العذارى” ص 8، أو القتل العمد في نص ” اغتيال مقنع” ص 87 ، ومقتل قناص (ص 127) أو لدغة صحفية ” (ص 143) . أو النصب والاحتيال والتزوير طمعا في المال باستخدام  خطة، وإعداد سيناريو دقيق كما في نص ” النصابون ” ص 109 ، أو قصة ” أو قصة ” اختطاف بنت الرئيس المدير العام ” ص 69 .
 فالمجرم يظل يحوم حول محيط الجريمة، أو يكون مندسا داخل نفس أفراد الجماعة  المنكوبة، متقنعا بالعديد من الأقنعة التي تعبد كل شبهة عنه. لكنه يترك أـثرا صغيرا لكنه قاتلا في النهاية، يعمل على إعادة ترتيب مجريات البحث نحو وجهة جديدة، ويقلب كل التخمينات، والتوقعات السابقة، بفسح المجال نحو أفق جديد، ومنعطف حاسم. كما في نص ” مقتل قناص ” (ص 127) يقول الكتاب ” كيف أن تقديم التعازي كان زبالا عليه ( المجرم)، فهل يحق للقاتل أن يقدم التعازي لعائلة الضحية ” ص 139 . فالشاب سيضطر إلى الاعتراف بما قام به من تزوير ليبعد عن نفسه تهمة القتل ، ليسقط في الفخ الذي نصب له ، كاشفا عن الطريقة التي قام بها لتزوير الوثائق ، كما أن حنكة بعض المفتشين ، ودهائهم تكون في الغالب أنجع الوسائل للإيقاع بالمجرمين من خلال ما يجتهدون فيه خلال بحثهم الذي يأخذ مسارات عديدة تلتقي في النهاية في خانة حل لغز جريمة ظلت لأشهر كأحجية غامضة.
 في حين تكشف نهاية نص ” اغتيال مقنع ” ص 87، عن خطورة آفة الطمع، والتهور في قتل المجرم لخاله ن بعد حرمانه من الإرث، بسبب تهوره، واندفاعه وسوء تدبيره. من خلال قيامه بالتنصت على مكالماته الهاتفية، داخل المصنع، وكذلك على كل المقربين منه بمساعدة من زوجته الفرنسية. بإقدامه على خنق خاله بالغاز في حمام البيت، واستعماله لدليل مادي ضد زوج ابنة الهالك للإيقاع به، ونفد جريمته، بعد محاولة تزوير الوصية للاستفادة من الإرث.
 وسنلمس كيف أن الجاني سيفقد كل شيء في النهاية، زوجته الأجنبية التي تنكرت له وغادرت البلاد، وضميره الذي اغتاله أثناء القيام بجريمته، وقتله لخاله الذي كان بمثابة والد ثان له، ليعض اليد التي أحسنت إليه.
 أما نص ” اختطاف ابنة الرئيس المدير العام (ص 69) فيتناص في بعض معطياته مع نصي ” مقتل قناص ” ونص ” لدغة صحفية ” في كون المحرك الأساسي والدافع للانتقام كان بسبب عدم الرضا عن الواقع، والطمع.
 فإذا كان النص الأول ” اختطاف ابنة الرئيس المدير العام ” (ص 69) قد انتهى بعودة الفتاة المختطفة إلى بيت أهلها، فإن حيثيات الواقعة كشفت عن حقد دفين بين أسرتين، وأن الخاطف عمل فقط على الانتقام لتنكر الرئيس المدير العام، “عبد الصادق بن جردون ” وزوجته الفرنسية للمعروف السابق لعائلة الصالحي، وزوجته “فرنسواز” أيام دراسته بفرنسا، ومساعدته الابن كريم “الخاطف”. فتعنت أب المختطفة سيقابل بخطف لابنته باسم ” إحدى الجماعات الجهادية، التي ستطالب بفدية”. غير أن تحريات الشرطة وخبرتها ستمكنها من إلقاء القبض على المختطف وشريكه.
فالعامل الحاسم في النص للكشف عن حقيقة الخاطف، كان بسبب التحريات التي قامت بها الشرطة بعد مراقبة خطوط الهاتف الثابت وتنصتها على مكالمة من كريم لأمه، كانت بمثابة الخيط الأول للكشف عن طنين قريب من العائلة ” كريم ابن “فرانسواز الصالحي ” جاء فيها ” مام أين وضعت حوازي الفرنسي، فأجابت “لقد أحضرته من القنصلية بعد تمديده، وهو داخل دولاب غرفة النوم ” ص 75. وقد مكنت التحريات من الوصول إلى معرفة صاحب رسالة التهديد ” الصوتية المجهولة ” بعد مقارنة المكالمتين معا ، وتم تأكيد تطابقهما المطلق.
 لقد تم الاشتغال في هذه النصوص وفق سيرورة كانت فيها الأحداث في كل مرة تأخذ مسارا مخالفا، كما أن تصرف الكاتب في روح العديد من القضايا (الملفات) دون الإخلال بجوهرها، ومعطياتها الأساسية. وهو ما منح النصوص حجما كفيلا بالقراءة من خلال مساحة زمنية تم فيها اختزال الكثير من المعطيات الخاصة بزمن التحقيق، والترصد.
إشارة: جزء من دراسة طويلة

هوامش وإحالات:

(1) عبد اللطيف بوحموش ” ملفات بوليسية ” ط1 دار الأمان الرباط 2014
(2) جوليان سيمونز القصة البوليسية تاريخها وقواعدها وتقنياتها ص 70 ترجمة علي القاسمي منشورات الزمن 2015
(3) ” السيرة لعبة الكتابة”ص 137 كتاب المجلة العربية العدد 192 الرياض المملكة العربية السعودية
(4) جوليان سيمونز القصة البوليسية مرجع مذكور سابقا ص 78
(5)امبرطو ايكو حدود التأويل ترجمة وتقديم خالد سليكي روافد العدد 2 ابريل 2006
(6)  “السيرة لعبة الكتابة”  كتاب المجلة العربية العدد 192 الرياض المملكة العربية السعودية

> بقلم: حميد ركاطة

Top