دعا أساتذة وباحثون في الفكر والفلسفة، إلى إعادة قراءة أعمال كل الفلاسفة العرب والمسلمين، وخاصة أعمال الفيلسوف والطبيب ابن سينا، انطلاقا من رؤية مغايرة لما قام به المستشرقون الذين حاولوا الانتقاص من المجتمع العربي والإسلامي كمجتمع أنتج المعرفة، ونفض الغبار على ما تم إهماله من طرف المجتمعات المتحضرة.
واستحضر هؤلاء الباحثون، خلال ندوة نظمتها مؤسسة التجاري وفابنك، بشراكة مع جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، حول موضوع “ابن سينا: الإسلام والحداثة” (استحضروا) هذا الفيلسوف الطبيب كشخصية منيرة في الثقافة العربية الإسلامية، عاشت أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر، وكانت حلقة مضيئة في التاريخ ونموذجا للتنوير في الثقافة العربية الإسلامية.
وفي كلمة له خلال هذه الندوة التي أدراها الكاتب والصحفي عبد الحق نجيب، وحضرها ثلة من رجالات الفكر والفلسفة، والطلاب، أكد محمد الكتان، الرئيس المدير العام لمجموعة التجاري وفابنك، على أهمية الانفتاح على المحيط الجامعي والإسهام في خلق نقاش حول مواضيع متنوعة تكون لها الآثار الإيجابية على المجتمع.
وأكد محمد الكتاني، على أن اختيار مؤسسة التجاري وفابنك، لموضع “ابن سينا: الحداثة والإسلام” يأتي بالنظر إلى أهمية ابن سينا، كفيلسوف وكمفكر موسوعي، مشيرا إلى أنه في ظل الظروف الراهنة التي فقدت فيها الإنسانية البوصلة، بات من الضروري إعادة قراءة وإعادة اكتشاف الإرث الفلسفي والفكري الذي تركه ابن سينا، كمحفز على التفكير في الشروط الضرورية لبناء مجتمع عادل ومستنير، يضع الإنسان في صلب انشغالاته، مجتمع تسود فيه القيم الأخلاقية ويضمن العيش المشترك في أمن وسلام.
وثمن رئيس جامعة ابن طفيل عز الدين الميداوي، مبادرة انفتاح مؤسسة التجاري وفابنك على الجامعة، باعتبارها فضاء للنقاش ولتبادل الآراء والمعارف، وبالنظر لما لهذه المبادرة من انعكاس إيجابي على الطلبة، مشيرا إلى أن أكبر المفكرين العرب والمسلمين هم فلاسفة، وأن الحداثة هي امتداد للأصالة، وهي لا تتعارض مع الإسلام، مؤكدا على دور الجامعة في إعادة قراءة أعمال الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين ضمنهم الفيلسوف الطبيب ابن سينا.
من جانبها، تساءلت الأستاذة سناء الغواتي، التي اشتغلت على ابن سينا، وعلى فلاسفة عصر الأنوار، عن السر في تغييب أسماء مفكرين كبار كابن طفيل، والفرابي، وابن سينا من المشهد الثقافي العربي؟، مؤكدة على ضرورة إعادة الاعتبار لهؤلاء المفكرين والفلاسفة العظام، وإعادة قراءة كل أعمالهم، بعيدا عن ما تركه المستشرقون والباحثون الغربيون.
وأوضحت سناء الغواتي، أن العديد من المستشرقين، حاولوا مقاربة الإسلام في مواجهة الفلسفة، والفكر الحر، واعتبروا أن الفلاسفة والمفكرين هم إما أندلسيين أو يونانيين كتبوا بالعربية، وأن اليونان هي مصدر الفكر والفلسفة وليس العرب، مشيرة إلى أن جمال الدين الأفغاني رد على هؤلاء المستشرقين، بالتأكيد على أن العرب الذين وصفوا بالجهل والأمية، هم الذين أعادوا كتابة ما تم إهماله من طرف تلك المجتمعات المتحضرة، وبالتالي فالفضل في العناية بالعلوم يعود للعرب.
وبحسب الباحثة، فإن ابن سينا، باستثناء الاشتغال على الجانب الطبي وعلى أعماله في هذا المجال، لم ينل حظه في البحث والدراسة كفيلسوف وكمفكر، مشيرة إلى أن الرجل هو موسوعة اشتغل على مجالات مختلفة، لكنه اهتم أكثر بالطب، ولذلك سمي بأمير الأطباء.
وتوقف الأستاذ محمد نعيم، عند شخصية ابن سينا كطبيب ملتزم بقواعد الطب كما هو منصوص عليها في القواعد الطبية الكونية، مبرزا قدرته على التجرد من أي تعصب مذهبي أو فكري، عند اشتغاله في الطب، فقد كان، بحسبه، شخصية استثنائية، يميز بين قناعته الدينية والقواعد العلمية الكونية المتعارف علها في مجال الطب.
وأوضح محمد نعيم، أن ابن سينا الذي حفظ القرآن في سن العاشرة كان حداثيا في عصره، على اعتبار أن جوهر الحداثة هو فصل المقامات، وجعل لكل مقام خطابه الخاص، مشيرا إلى أنه القرن الحادي عشر الذي كانت تسيطر فيه بعض الممارسات المرتبطة بالخرافة والشعودة، لم يكن ابن سينا يلتفت لها، وكان يلتزم بالقواعد العلمية في الطب كما هي عند كل الأطباء وكما أرساها اليونانيون.
من جانبه، تطرق الأستاذ أحمد العلمي إلى السياق التاريخي الذي عاصره ابن سينا، مشيرا إلى أن هذا الأخير جاء في مرحلة اكتملت فيها المذاهب، وكان فيها النقاش الثقافي والفقهي والفلسفي في أوجه، وأن جميع العلوم كالرياضيات والطب والجبر والتنجيم، لم تعد مقتصرة على حدودها الجغرافية، وبالتالي، يضيف الأستاذ العلمي، فعصر ابن سينا كان هو العصر الذهبي على المستوى الفكري رغم أن الأوضاع السياسية لم تكن مستقرة.
وأوضح الأستاذ العلمي، أنه على الرغم من تكوينه الديني، وحفظه للقرآن في سن مبكر، فقد كان ابن سينا مستقلا في تفكيره وبلورة مقاربات نظرية وفكرية خاصة به، ولم يكن الدين عائقا في تفكيره وتعاطيه العلمي والفلسفي.
وقال الأستاذ حسن السهلي، ” نحن أمام شخصية فذة اطلعت على كل شيء، وسارت مرجعا أساسيا، في اللغة والطب وغيرهما، قبل بلوغ سن العشرين”، مشيرا إلى أن هناك حاجة ملحة للاهتمام بابن سينا، وإعادة قراءة أعماله، خاصة في ظل ما نعيشه اليوم من تطرف جانبين.
الأول يرفض الدين بشكل مطلق، ويرى فيه سبب التخلف. والثاني لا يقبل سوى الدين، ويرفض كل ما هو خارج عن الدين.
وأكد حسن السهلي، أن ابن سينا شخصية زاوجت بين الدين والحداثة، حفظ القرآن واطلع على علم الكلام وعلى أعمال أرسطو وأفلاطون، وهو يعرف ما معنى الفلسفة، ويقارب ما بين الخطاب الديني والخطاب العقلاني، وحاول أن يجد تلك اللحمة التي تجمع بين ظاهر النص وباطنه، كما عمل على المزج بين الفكر الفلسفي والفكر الديني.
< محمد حجيوي