الحلقة 21
شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.
*والدتي في بيتي الجديد تمنحني قوة خدمة المواطنين داخل عيادتي بقلب الدار البيضاء
سنوات غربة أحمد بورة التي راكم بفضلها تجربة أكاديمية ومعرفة ميدانية نفيستين، جعلته يفكر في تأليف كتاب دراسي يكون ثمرة مسيرته المهنية ونتاج احتكاكه العلمي بالباحثين والخبراء، كتاب يرصد من خلاله كافة الإنجازات العلمية المحققة في مجال الأمراض الجلدية والتناسلية.
حينها لم يكن عدد الأطباء المغاربة المشتغلين بهاذين التخصصين يفوق عدد أصابع اليد الواحدة. وهم، بالإضافة إلى أحمد بورة، الدكاترة عبد الحق السقاط، والبشير الأزرق، والطاهر مركوش. كما نذكر من الأطباء الأجانب الدكتور ذو الأصل السويسري إيريك فيتز، والدكتور الفرنسي الشهير روني روليي. هذا الرجل جسد وظيفة العلم والعلماء عملا وخلقا، ولم يرحل عن هذه الدنيا إلا وقد خلف في رصيده العديد من الأبحاث والإنجازات العلمية والطبية التي تخص مرض الجذام الفتاك الذي لم تثنه خطورته على نزوله ميدان منازلته على أرض المغرب، بكل ما أوتي من مدارك علمية وعزيمة وثبات وجد لم يفرق في ذلك بين مسلم ونصراني ويهودي. فالكل عنده إخوة في الإنسانية.
بدءا من 1964 أنشأ مدرسة/ضيعة بأزرو أسماها “مكتوب” اعتنى فيها بالأطفال المصابين بالجذام واهتم برفع معاناة الإقصاء عنهم، وتوج كل سنوات خبرته بتعيينه رئيسا لجمعية طب الجذام بمؤتمر الدار البيضاء بتاريخ فاتح أكتوبر 1980.
كان الرجل فعلا مدرسة عريقة في خدمة المرضى خاصة منهم المحتاجين والمساكين والمعوزين، فاجتمعت كل الأطياف الفكرية والاجتماعية على محبته وتقديره.
بعد سبعة أعوام قضاها أحمد بورة بعيدا عن وطنه، عمل خلالها بأكبر مستشفيات وعيادات مدينة ليل الفرنسية راكم بها خبرات كبيرة، ها هو يعود إلى بلده الحبيب، وكل ما يجول في خاطره هو أن يخدم وطنه ويقدم له كل تلك الخبرات التي اكتسبها في مجال تخصصه.
وقبل أن يفكر في توفير المكان الملائم لعيادة خاصة به يستطيع من خلالها العمل بالشكل الذي عهده في بلاد الغرب، كان عليه البحث عن مكان لائق يوثق صلته بجل معارفه بمدينته الأثيرة الدار البيضاء.
ومقابل سومة كرائية مناسبة، اقتنى سكنا وظيفيا بإقامة ليوطي، التي أطلق عليها فيما بعد اسم المارشال مزيان الكائنة بتقاطع زنقة أكادير وزنقة بغداد.
وبهذا البيت سعد أحمد بورة باستقبال والده، وبالخصوص أمه الغالية التي ساعدته بالرعاية وملأت عليه وحشة الوحدة لفترات متقطعة تتعدى الشهرين حتى استأنس مع العيش في العاصمة الاقتصادية وتأقلم مع السكن الجديد.
استغرق بحث أحمد بورة عن محل يحتضن عيادته شطرا مهما من سنة 1973، فضل التركيز في البحث على الساحات الواقعة بقلب العاصمة الاقتصادية، واستقر اختياره في نهاية المطاف على محل للإيجار كائن بساحة 16 نوفمبر، وبقدر ما استهوته روعة الموقع وتميزه بقدر تعجبه للصدفة التي ما يسرت له من كل محلات الدار البيضاء هذا المكان بالضبط. غريبة هي الحياة غريبة هي الصدف التي منحته – وبدون ترتيب مسبق منه-موطئ قدم مهنية بذات الساحة التي لروعتها لطالما منى نفسي بامتلاك ركن بها.
وهو طالب شاب بمستوى الباكلوريا بليسي ليوطي، كان كلما عبرت الحافلة التي تقله قرب هذه الساحة يرفع أكف الدعاء لرب السماء سائلا ألا يحرمه من امتلاك بيت أو محل بهذا المكان البالغ الروعة. فعلا هي الأقدار إن سددت لا تخطئ. ولو امتلكنا نعمة القناعة بما قسمت ورضينا القليل لملكنا السعادة كلها.
ها هو ذا الحلم يتحقق، لكن طموحه لا مدى ولا نهاية له، وتحقيق ذاته وبلوغ غايته لن يتحقق إن لم يسع إلى تهيئ مركز خاص بأمراض الجلد والتجميل لا يقل جودة وتجهيزا عن مراكز الدول المتقدمة التي زارها من قبل كألمانيا وأمريكا والبرازيل.
صحيح أن ضعف الإمكانيات –كما يقال-يقلص من آمال الطامحين، لكن أمل أحمد بورة في بلوغ هدف إنساني جعله يقرر المجازفة –عن طريق صديق له-باقتراض مبلغ 20 مليون سنتيم. وكانت تمثل حينها ثروة لا يستهان بها، مقابل التزامه بسداد أقساط شهرية مرتفعة خاصة وأن إمكانياتيه كانت جد محدودة.
وطيلة مدة تجهيز طابقي العيادة، لم يتوقف أحمد بورة عن ممارسة المهنة بمستشفى ابن رشد، وحتى بعد الترخيص له وتقديم استقالته بصفة رسمية، ظل ملتزما بالعمل به مرتين في الأسبوع منذ عشر سنوات.
لقد جاء في حديث صحيح عن الرسول الكريم أنه قال “إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله” قالوا ” يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال ” يوفقه لعمل صالح”.
ومن علامات توفيق الله لأحمد بورة أن عرفت العيادة منذ الأسابيع الأولى لانطلاقها إقبالا متزايدا من قبل المرضى والزوار، خاصة وأنه حرص على أن تدار جميع الأجنحة بشكل فعال وحرص على أن تقدم كل الخدمات الطبية وفق أسس مهنية جعلت الناس يعلنون فخرهم بالكفاءات الوطنية التي يمثلها الجيل الجديد لمتخصصين لا تعوزهم المعدات والأجهزة الحديثة ولا الخبرات العلمية العالية التي تتميز بها الدول المتقدمة.
فالدراسات والأبحاث العلمية التي كان أحمد بورة يقوم بها بالتعاون مع كبار الأخصائيين وكذا مشاركته بحضور العديد من المؤتمرات والندوات العالمية كان لها دور مهم في مواكبته ركب التطور في مجال الأمراض الجلدية وطب التجميل الذي كان المغرب حينها في أولى بداياته.
ورغم ذلك كان أحمد بورة قد وضع نصب عينيه مواصلة العمل بجد وإخلاص حتى تتبوأ عيادته مرتبة مشرفة وصيتا طيبا. وبالفعل كانت من أوائل المصحات الخاصة التي استقبلت من خارج الوطن بعض حالات زرع الشعر وتوفقت في معالجة حالات مرضية كانت حتى ذلك الحين من قبيل العمليات الجراحية المستعصية.
وقد بلغ فخر أحمد بورة واعتزازه مداه أن يكون أحد الكوادر الطبية الوطنية التي ساهمت في نجاح وتميز طب الأمراض الجلدية وطب التجميل إلى جانب رفاق له من رعيل الأساتذة الأوائل الذين ساهمت خبرتهم وحنكتهم في جعل المغرب في هذا المجال حائزا لقصب السبق والريادة ما بين بلدان القارة السمراء وسائر الدول النامية.
إعداد: مصطفى السالكي