الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة 23

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

السيدة بورة ..زوجة راعية ومسؤولة

لم يشعر أحمد بورة بضجر أو ملل يتسلل إلى نفسه من حياته الزوجية كما يضجر ويمل الآخرون، ولا اعتلت العلاقة بينه وبين زوجته يوما من الأيام كما يشتكي أغلب الأزواج، ولا يهدف من قوله هذا تقديم وصفة سحرية لحياة زوجية مثالية، لأن كل البيوت لم تخل يوما من خلافات لا مفر منها تمليها التفاعلات اليومية.
كانت زوجة أحمد بورة تدرك أن حسن تدبير بيتها، وإدارة الإمكانات المتاحة لديها، مهما كانت قليلة، لها شأن عظيم في ارتقاء شأن الأسرة، وسعادة زوجها، واستقرارِ البيت، فضلا عن تأثير ذلك  في مستقبل الأطفال، وشعورهم بالاطمئنان النفسي والاجتماعي.
بذلَت هذه الزوجةُ كلّ طاقتها وجهدها، وسخرت جميعَ ملكاتِها وقدراتِها في حسن القيام على شؤون مملكتها، لتجعل من بيتها خير البيوت، وأسعدها، وأكثرها استقرارا وارتقاء، بل ولتكون هي من أنجح الزوجات، وأكثرِهن يُمنا وبركة وخيرا على زوجها أحمد.
إن الخلافات الزوجية أمر لا مفر منه، والتفاعلات اليومية بين الزوجين لا بد أن تفرز أزمات واختلافات في وجهة النظر، إلا أن الزوجة الفطنة هي تلك التي تحسن إدارة الأزمات وتتحكم بزمامها حتى تغلب كفة الائتلاف على كفة الاختلاف.
وزوجة أحمد بورة، بذكائها العاطفي، كانت دوما ميالة إلى احتواء الانفعالات السلبية وإشاعة جرعات وافية من التفاؤل والأمل في حياة العائلة، وتسعى كعادتها إلى التركيز على مكامن توافق تبعث في نفوس كل أفراد الأسرة الاتزان المطلوب كحافز قوي لمواصلة السير في دروب الحياة.
ولربما يعود السبب الكامن وراء حصول أحمد بورة على هذه الزيجة الصالحة أنه كان في شبابهن من جهةن متأثرا بالقولة الحكيمة “قبل أن تبحث عن نصفك الآخر تأكد من أن نصفك الأول مكتمل ومستعد للنصف الثاني”، فلم يقرر الزواج حتى بلغ من النضج ما يكفي لتحمل المسؤولية الاجتماعية التي يقتضيها هذا الرباط المقدس، ومن جهة ثانية كان شديد الاقتناع بأن اختيار شريكة العمر لا يجب أن يخرج عن دائرة المحيط الذي ولد ونشأ فيه، فالزواج في الأمثال لا ينجح إلا مع القريب، والتجارة لا تنجح إلا مع البعيد، ولهذا السبب لم يفكر بالزواج من خارج بلده ولا من خارج بلدته، فحصل الاختيار على شابة تنتمي لعائلة محافظة عريقة –آيت جبران- التي سجل لها التاريخ أنها أنجبت وجهاء القبائل بأحواض “عين أسردون” حتى لا تعم أرجاءها الفوضى.
لما فاتح أحمد بورة أسرته قالوا “اختيارك في محله” ، ما كاين ما أحسن من ملالية”، أما أقرب الأصدقاء إلى قلبه، لما كلمهم في أمر الشابة التي اختارها زوجة له، أجمعوا على تأييده ورافقه بعضهم لخطبتها وترسيم زواجه بها، ومنهم حمودة القايد عامل بني ملال، ومصطفى شفيق مدير الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (الكنوبس)، والأديب عبد القادر المازني، الذي عمل مديرا بثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء وأصدقاء آخرين.
سهر أحمد بورة ووالد زوجته – الذي كان حينها كاتبا عاما لإقليم بني ملال- على وضع كل الترتيبات التي جعلت من حفل الزفاف عرسا رائعا بكل المواصفات، إذ حضره علاوة على الأهل والجيران وأصدقاء الطفولة، كبار الأعيان، واجتمعت تحت خيامه أغلب الأسماء السياسية والحزبية الوازنة. وقضى الجميع ليلة ممتعة مع الموسيقى والغناء، نشطتها مجموعة من فرق وفناني بني ملال والأطلس المتوسط، أما الفكاهة فقد قدم عروضها باقتدار الثنائي الشهير قشبال وزروال.
وفي نهاية حفل الزفاف قرر ياسين محمد، رئيس المجلس البلدي لمدينة بني ملال آنذاك- أن يتوجه كل المعزومين في موكب زفاف موحد نحو “عين أسردون” ليصبح هذا العرس في عيون كل الحاضرين سفرا ممتعا امتزجت فيه الفرحة بالفرجة التي أثثت فضاءها أروع الأغاني والأهازيج والرقصات التدلاوية والأمازيغية والشاوية… ولازل أحمد بورة ممتنا للسيد ياسين محمد على هذه المبادرة الطيبة.
كتب أحمد بورة وزوجته أول سطور هذا الرباط المقدس سنة 1977 ولازالت حروف إسعادها له ولزوجته قائمة بفضل الله وتوفيق منه حتى اليوم، وقد أعانه على إنجاح هذه الأسرة أمور ميسرة لكل مقبل على الزواج، شريطة أن تتوفر لديه الإرادة والقدرة والرغبة الصادقة في استكمال سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
فتكوين الأسرة الصالحة كنواة لمجتمع صالح يقتضي من منظور أحمد بورة الخاص اختيار الزوجة التي يريدها شريكة لحياته وأما لأولاده من أناس لك صلة ومعرفة بهم، متوافقة معه في التفكير والمعتقد والسلوك والوضع الاجتماعي تحقيقا للكفاءة بين الزوجين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس”. ولازال أحمد بورة يحمد لله الذي هداه لانتقاء زوجة من طينة صالحة، وساعده على اختيار أم من معدن طيب لأبنائه.
دور الأم بالتأكيد أساسي في تربية أولاد أحمد بورة، فعلاوة على انشغالها بالوظيفة فقد اقترنت مسؤوليتها المهنية بوظيفتها التربوية. فبعد أن فتح الله على أحمد بورة أبواب اليسر، وحرصا منه ومن زوجته على تنشئة أبنائهما على أصول التربية السليمة، ألحقا الأولاد-كل منهم في حينه- بمدارس بنيس التي كانت نموذجا موفقا في الجمع بين منهجي التكوين العصري والأصيل، فشب الأبناء منذ طفولتهم المبكرة على ربط التدرج في العلم بأصول العقيدة.
أثمر زواج أحمد بورة  أربعة هم نعم الأبناء، كريم، حياة، كمال وحكيم، ثمار خير رعيناها حق الرعاية، فمنهم من تخصص بالطب ومنهم من تخصص بالتجارة وإدارة الأعمال، وجميعهم حريصون على التشبث برصيدهم القوي من الإيمان وكرم الأخلاق، ولازال بيت أحمد بورة، إلى اليوم، يتعطر كل جمعة بقراءة الستين حزبا من القرآن الكريم في جلسة واحدة، يحضرها فقهاء حفظة لكتاب الله، وهي المتعارف عليها بتخريج السلكة، وهي عادة أصيلة كانت تعقد أيام الجمعة ببيوت وزوايا المغرب على شكل تجمعات لقراءة كتاب الله كاملا 60 حزبا، وهذه من أكبر النعم التي أنعمها الله عليه بها، وهي أهم عنده من كل كنوز الأرض.
كان أحمد بورة مقتنعا، حتى قبل زواجه، أن تطور ورقي أي مجتمع بات يقاس بدرجة التطور الثقافي والاجتماعي للمرأة ومساهمتها الفعالة في البناء الحضاري للمجتمع. فالمجتمع الذي يصل الى احترام المرأة والتعامل معها كانسان متكامل له كامل الحقوق الانسانية وآمن بدورها المؤثر في بناء وتطور المجتمع يكون مجتمعاً قد بلغ مرحلة من الوعي الانساني وفهم اسس التربية الانسانية الصحيحة والتي تتحمل المرأة وزرها الأكبر ويكون قد تخلص من التقاليد والاعراف البالية التي سادت المجتمع والتي تسحق كرامة المرأة وتضعها في مكانة اقل من مكانتها الحقيقية.

إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top