“السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع” لمحمد الداهي .. كتاب يسرد العلاقة المعقدة بين الكتابة عن الذات والوجود والنص

فاز الكاتب المغربي، محمد الداهي، بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السادسة عشرة، في فرع الفنون والدراسات النقدية، عن مؤلفه “السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع”، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب والنشر والتوزيع عام 2021.
ويعد الكتاب تصنيفا للأنساق المتعلقة بالسرود الذاتية داخل الخطاب الأدبي العام، التي تضم اليوميات والرسائل والاعترافات والمذكرات والتخييل الذاتي والسرد الذاتي. كما يتميز بسلاسة العرض ووضوح المفاهيم ودقة التحليل، ومراجعه الحديثة والشاملة، وقراءته لأعمال سردية عربية قديمة وحديثة.
ويسرد الكتاب العلاقة المعقدة بين الكتابة والوجود والنص وما يضمره في إطار تمثيل الذات الواقعية ونقلها إلى عالم الكتاب.
وسبق لمحمد الداهي، الأستاذ في شعبة اللغة العربية وآدابها بجامعة محمد الخامس الرباط، أن حصل على جائزة المغرب للكتاب عن كتابه “سيميائية السرد”، وجائزة (كتارا) للرواية العربية عن عمله “سلطة التلفظ في الخطاب الروائي العربي المعاصر”. وقد نشر 15 كتابا وساهم بنصوص في 30 كتابا باللغتين العربية والفرنسية.
وبمناسبة فوز الكاتب المغربي محمد الداهي بجائزة الشيخ زايد للكتاب تقدم بيان اليوم ملفا يشمل قراءات متفرقة لأساتذة باحثين في كتاب “السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع”.

الأدب الشخصي في قلب الاهتمامات العلمية لمحمد الداهي

> عبد الله بويه

توج الباحث والناقد الأكاديمي المغربي الأستاذ محمد الداهي بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الفنون والدراسات النقدية خلال الدورة السادسة عشرة (ماي 2022) عن عمله الموسوم بالسارد وتوأم الروح؛ من التمثيل إلى الاصطناع ( المركز الثقافي للكتاب،2021 )، ويعد حلقة من حلقات مشروعه حول أشكال الكتابة عن الذات: شعرية السيرة الذهنية؛ محاولة تأصيل (2000)، والحقيقة الملتبسة؛ قراءة في أشكال الكتابة عن الذات (2007)، صورة الأنا والآخر في السرد (2016)، متعة الإخفاق المشروع التخيلي لعبد الله العروي (2022). يتكون الكتاب من أربع مئة صفحة من الحجم المتوسط، وتم تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، وكل قسم إلى ثلاثة فصول، والعمل في مجمله اشتغال على قضايا تهم الزمن، وقضية الحقيقة، وقضية الواقع، وصورة الكاتب، مع التركيز على موقع القرين أو قرنائه في السرد. إذ يخوض عموديا في مواقع القرين، وأفقيا على ألاعيب التحقق، من خلال الخطاب المتناول للحقيقة وذلك من خلال ثنائية ملفوظات الواقع والتخييل، ومدى ملازمتها لخطاب المؤلف أو قرينه.

الغاية من المحكيات الذاتية
يقدم الكاتب في هذا العمل إجابة عن الغاية من دراسة المحكيات الذاتية؟ إذ يرى أنها تثير قضايا تم تهميشها من قبل التاريخ، مما يجعلها جزءا من السندات المهمة التي يجب الاهتمام بها لسد فجوات الحقيقة التاريخية، من خلال اعتبار الهدف من كتابتها ليس منافسة التاريخ، بل السعي لإتاحة الحقيقة بطريقة مغايرة وأكثر أريحية أمام المؤرخ، في إثارتها قضايا لم يكن لها أن تثار لولا هاته المحكيات، كيف لا وقد أتاحت فرصة أمام المضطهدين الذين لم ينصفهم التاريخ ووثائقه، ومكنهم الحكي الذاتي من الإدلاء بشهاداتهم إزاء فترة من الفترات التاريخية، وبالتالي فكاتب السيرة الذاتية غالبا ما يكون شاهدا على فترة من فترات التاريخ، أو مشاركا في أحداث بعينها. فالتاريخ بالنسبة إليه لا ينقل الحقيقة (الأحداث كما وقعت)؛ فواهم من يعتقد أن التاريخ يسرد نفسه بنفسه (وهم وحدانية التاريخ)؛ وذلك لتعدد صيغ وزوايا سرده، وبتعدد الزوايا تتعدد الحقيقة، لذلك فالمحكيات تتيح أمام المؤرخ قراءة الواقعة / التاريخ من خلال خطاب المحكيات والتي تفتح أمامه آفاقا جديدة للكشف عن المغيب والمنسي في الذاكرة الجماعية.

الكتابة عن الذات ومواكبة عصر الشك ما بعد الحداثة”
في سعي الكتابة عن الذات نحو مواكبة عصر الشك “ما بعد الحداثة” – حسب الكاتب- انتقلت الذات من التستر عن البوح والكتابة بأسماء مستعارة إلى مشاركة الحياة الحميمية مع الجميع وأصبحت بالتالي إرثا مشتركا بين الجميع من خلال المزايا التي وفرتها التكنولوجيا وخاصة منها الصورة التي حلت محل الواقع ودفعت بالدراسات النقدية لإعادة النظر في المطابقة بين الكتابة والوجود. هذه المواكبة دفعت بالسيرة الذاتية لتغيير جلدها، ومعها الإفضاء إلى جنس هجين اصطلح عليه “سيرج ديبروفسكي”؛ التخييل الذاتي، وهي كتابة برزخية يتجاذب ويتنازع فيها السير ذاتي والروائي. ” عندما تنتابني الرغبة في التذكر، أخلق من جديد”(1) إن مهمة الناقد أصبحت تتمثل في كشف كيفية تشييد الحقيقة السردية، والتي لا تكمن فقط في علاقات التطابق أو اللاتطابق بين القصة والواقع، وإنما تقتضي مراعاة موقف المتلفظ، ورد فعل المتلقي، وطبيعة العلاقة التي تجمعهما.(2)
وانطلاقا من هذا المستجد أشار الكاتب محمد الداهي لصعوبة تمثل القارة المجهولة المتمثلة في صياغة الأحداث وعلاقتها بجدلية التخييل والواقع ( الحقيقة الخارجية)، معتبرا قارة اللاشعور (الحقيقة الداخلية) أيضا لا تقل أهمية عن الحقيقتين؛ التاريخية والخارجية، فالمبدع يتغلغل في هاته الذات – ذاته- ساعيا لاستيعاب امتداداتها الداخلية، إنها على حد قول جيروم كرسان “مسرح حميمي تؤدي فيه الذات دورا على الخشبة مفضية أسرارها الحقيقية والمفترضة، ومستعرضة هندامها على الطريقة الاستعرائية (شكل من أشكال الجرأة والبوح السيرذاتيين) وتعززها الذات أحيانا بما يحيط بالكاتب: صوره حصيلة منجزاته جوائزه المحصل عليها … فهو يعرض بذلك نفسه داخل فنه وخارجه”.(3) وكل ذلك – يعلق الكاتب محمد الداهي – لا يمثل حياته الشخصية إنما مجرد تمثيل لحياتها الحميمية من بين تمثيلات أخرى يمكن أن تقوم بها.(1)

الكتابة عن الذات من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي
وقد أبدى الكاتب محمد الداهي رأيه حول اعتبار بعض النقاد التخييل الذاتي امتدادا للسيرة الذاتية؛ سيرة ذاتية للفترة ما بعد حداثية، معتبرا الأمر أعقد من ذلك لكون الكتابة السردية قد واكبت إبدالات الما بعد حداثية ومعها الانتقال من: التمثيل والمشابهة والمطابقة والوعي بالذات، إلى التصنع والاصطناع وتبادل الأدوار والأقنعة وتعدد الذاتيات والأصوات، وتملك ذاتية الآخر، ومعها الانتقال من المشابهة القائمة على (المشابهة؛ أوجه الشبه بين المشبه والمشبه به) إلى (المشابهة الفائقة؛ تشبه المتشبه بالمتشبه به وتصنعه)، وفيه لم تعد تهم مدى صحة الواقع أو زيفه بل توليد الخيال واختلاق الواقع (جون بودريار: إعادة تدوير النفايات والأحلام والاستيهامات)، ولم تعد السلطة السردية تقتصر على السارد الوحيد، بل انتقلت إلى تعدد الأصوات داخل السرد وتقنع القرين بأقنعة مختلفة.
ومنه اعتبر منطقة تقاطع المستويين اللذين يخوض فيهما الكتاب العمودي (مواقع القرين) والأفقي (مشكل التحقق أو ألاعيب الحقيقة) تتمثل في أشكال تأويل العالم وعلاقتنا به، والتي انتقلت من تمثيل الواقع والاعتناء بالأسلوب الأدبي الرفيع، إلى الواقعية الحديثة من خلال الاهتمام بالحياة اليومية وبتعدد الأساليب وتمازجها بين الرفيع بالوضيع والمبتذل بالبديع، وصولا إلى وهم الواقع وشبيهه من خلال الواقع الفائق، ومعه الانتقال من المشابهة إلى المشابهة الفائقة.
يذكر أن الكتاب تم اختياره ضمن ثلاثة أعمال تم ترشيحها في القائمة القصيرة وضمن سبعة أعمال في القائمة الطويلة وشهدت الجائزة التي ينظّمها مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة– أبوظبي، مشاركة واسعة من فئة الكتّاب الشباب من مختلف دول العالم، وبلغ عدد الترشيحات أكثر من ثلاث آلاف مشاركة من خمس وخمسين دولة من بينها عشرين دولة عربية، وخمس وثلاثين أجنبية، وفاز فيها ستة أدباء ومفكرين ومترجمين؛ فبالإضافة لجائزة فرع الفنون والدراسات النقدية التي حازها الكاتب محمد الداهي فقد عادت جائزة فرع الآداب للشاعرة الروائية الإماراتية ميسون صقر عن كتابها “مقهى ريش، عين على مصر”، كما توجت بجائزة فرع أدب الطفل والناشئة الكاتبة ماريا دعدوش عن قصتها “لغز الكرة الزجاجية”، بينما حصد الكاتب محمد المزطوري جائزة عن فرع المؤلف الشاب عن كتابه “البداوة في الشعر العربي القديم”، وفاز الكاتب أحمد العدوي بجائزة الترجمة عن كتاب “نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي” للمؤلف جورج مقدسي، ونال فرع الثقافة العربية في اللغات الأخرى الكاتب العراقي محسن جاسم الموسوي عن كتابه “ألف ليلة وليلة في ثقافات العالم المعاصر: التسليع العولمي والترجمة والتصنيع الثقافي”،بالإضافة إلى مكتبة الإسكندرية التي حازت جائزة النشر والتقنيات الثقافية، كما شهدت الدورة حجب جائزة فرع التنمية وبناء الدولة لعدم استيفاء الأعمال المشاركة للمعايير الأدبية والعلمية المطلوبة.

هوامش:
(1) السارد وتوأم الروح؛ من التمثيل إلى الاصطناع، محمد الداهي، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2021، ص39.
(2) المرجع نفسه ص39.
(3) المرجع نفسه ص41.
(4) المرجع نفسه ص42.

***

القارة المجهولة

يتناول الناقد د. محمد الداهي- في هذا الكتاب- مجموعة من القضايا التي تثيرها الكتابة عن الذات، وهي قضايا ما فتئت تشغل المختصين في الميدان ذاته سعيا إلى اكتشاف القارة المجهولة (الذات). وهو- بحكم ممارسته وطبيعة الإشكالات التي يطرحها – ليس طارئا على هذا المجال، بل يعد من الذين أسسوا لهذا النوع من الدراسات في المغرب وفي كل الفضاء الثقافي العربي. بل إليه يعود الفضل في التعريف بمجال جديد –التخييل الذاتي- لم يتأسس بعد كنوع سردي مستقل. وقد كان من الأوائل الذين قدموا دراسات نظرية وتطبيقية في السرد الشخصي تُعد اليوم مرجعا لا يستغنى عنه.
وضمن هذا السرد يندرج جزء كبير من مضمون الكتاب الذي يقدمه محمد الداهي لقراء العربية. فهو يشكك- ضمنيا- في عوالم السيرة وصدقية القول فيها، ولكنه في الوقت ذاته يُعلي من شأنها عندما يجعلها قادرة على كتابة تاريخ “آخر” لا يكتفي بما وقع، بل بما كان من الممكن أن يقع أو لن يقع أبدا. وقد تحدث الكثيرون- كما يحيل إلى ذلك في كتابه- عن الانشطار والتمثيل والاصطناع والتصنع، وعن إسقاط الذات لأنوات أخرى هي في واقع الأمر تعبير عن ميولات لم تفصح عنها الذات التي تكتب عن نفسها. ذلك “أن المونولوغ لفظ بلا معنى، لأن كل نص موزع على الكثير من الأصوات الكلامية، وما يختلف هو- فقط- درجة حضورها وأنماط تجليها”، كما قال كيبيدي فارغا.
لا يكتفي محمد الداهي في الدراسات التي يضمها هذا الكتاب بالحديث عما يميز السرد الشخصي، أي مجموع التقنيات كما تتحقق في هذا النوع السردي، فما كان يهمه هو البحث في الأسس الفلسفية والثقافية التي يقوم عليها البوح الذاتي في كل أشكاله، ما يعود منه إلى الذات المخصوصة، الفردية والجماعية، وما يُصنف ضمن الغيري، الصريح والضمني، وما أصبح يعرف في أيامنا هاته بالتخييل الذاتي الذي حاول تجنب مطبات النرجسية التي تحرم الذات من رؤية نفسها كما هي في نفسها، رغبة في الإحاطة بما يفعله المرء حقا، ويكون جزءا من هويته، أو ما يحلم به ويكون جزءا من نفس لا تعيش دائما بالحقيقة وحدها. فليس من السهل دائما تحديد الروابط الخفية بين “الخصوصية الفردية” التي تحاول استعادة وقائع تخصها وحدها، أو تتوهم ذلك، وبين عموم ” التجربة” القابلة للتداول ضمن سياق قيمي أوسع من دائرة الذات وملكوتها المحدود.
وفاتحة الكتاب دالة في هذا المجال. فقد خصص المؤلف فصلا كاملا للتداول في شأن النرجسية وموقعها في حياة الفرد. وحاول تفكيك آليتها كما تحضر في الوصف والأحكام وبناء قصة قد لا تكون هي الحقيقة. فنحن لا نعيش بأهوائنا الخاصة، بل نصرف ما تعلمناه ضمن فضاء نؤكد- من خلاله- انتماءنا إلى هذا السياق. فعلى عكس ما توحي به النرجسية، فإن التذيَّت ليس هروبا من المجموع والاحتماء بفضاء ذاتي خالص، بل هو طريقة في التميز داخل سياق أوسع من الذات. ” فالحياة أمر مدبر”، كما كان يقول أنطونين أرتو، وهو ما يعني أن الأنا هي كذلك في حدود وجود “نحن” تسندها.
لذلك يروم التخييل – على تفاوت درجاته ونسبه وجرعاته- الإمساك “بمناطق” حياتية لا ترُى في المعيش، ولكنها ليست حاصل تخييل خالص أيضا، إنها ليست وهما لا شيء يربطه بواقع هو كذلك أو نحن من خلقه، بل هي طاقات لم تتحقق أو تم كبتها أو لم تتحقق بشكل سليم. لذلك هناك في كل الذوات، الكاتبة والناطقة، فجوة رفيعة بين العيش الحقيقي وبين حالات الاستيهام فيها. فالذات لا تتحدث فقط عن فعلها، إنها تتحدث أيضا عما كانت تود فعله أو فشلت في فعله. إن النرجسية لا تكون إلا إذا كان السياق العام الذي تتحقق داخله هو مرآتها. لذلك مات نرجس، لأنه لم يرَ في الماء سوى ذاته.( ويقدم المؤلف- في هذا السياق- مجموعة من الخطاطات التي تشرح فضاءات السرد الشخصي الممكنة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل( التخييل الذاتي، الحكي الذاتي، التخريف الذاتي)، والخانات التي تناسب هويات المتكلم، والحالات القصوى المُهجَّنة التي يصعب التمييز فيها بين التخييلي والواقعي). ” وتتخذ الأنا من ذاتها هدفها المفضل للاعتداء والانتحار” على حد قول جوليا كرستيفا في كتابها ” تاريخ الحب”.
وهو ما جسده نرجس محاولا الإمساك بالصورة التي تراءت له على سطح الماء. إن مأساة هذا الشاب العاشق لصورته تعتبر مصدر الاعتراف بالذات، وإن اندثر قرينها بمجرد القبض عليه. يحاول محمد الداهي –في هذا المضمار- أن يبين أنه كلما اقترب المؤلف من ذاته في مجال الكتابة إلا وتناسلت من ضلعه صور عديدة. أيهما أقرب إلى ذاته؟ أيهما تمثل ذاته أو تزعم نسخها ؟ أيهما تلغي ذاته لتحل محله؟ لا تهم المماثلة والمقايسة بقدر ما يهم أن كل صورة تجسد جانبا من الذات، مضمرا أكان أم جليا، حقيقيا أم مفترضا، مثيلا لغيره أم مصطنعا. ومن ثمة استعان محمد الداهي بالمقولات الموسعة ” للتحقق” سعيا إلى فهم كيف تتشخص صورة الكاتب وقرينه أو ظله (أو بالأحرى قرنائه أو ظلاله ) في السرد الشخصي.
بعبارة أخرى، لا تستطيع أنانا المحدودة في الزمان وفي المكان، والمحدودة أيضا من حيث قدرتها على الإحاطة بما تستبطنه وما تعيشه حقا أوتتوهم عيشه، رواية ما وقع لها كما وقع فعلا. إنها في حاجة دائما إلى أنوات بديلة، لا يتعلق الأمر في ما أُطلق عليه التخييل الذاتي بمحاولة للمصالحة بين ما يُبنى في عوالم هي من نسج الخيال، وأخرى هي من صميم عيش شخصية، إنها تدرج ضمن أفق جديد يحاول أن يمسك بالحياة من خلال ضمير يضم داخله الطفل الذي كان والرجل الذي يـتأمل الصوت الآتي من الماضي. وهي صيغة أخرى، للقول “إن الذات تتعرَّف نفسَها من خلال قصة ترويها لنفسها” كما قال بول ريكور.
هي ذي بعض الأسس الأولية التي يقوم عليها هذا الكتاب الذي يستحق أن يُقرأ. فما يميزه ليس تأملاته النظرية في المحكيات الذاتية فقط، وإنما مجموع الدراسات التطبيقية التي تعد في ذاتها إضافات نظرية جديرة بالتقدير. ويعد الكتاب أول محاولة عربية تحفر- بالمراهنة على شعرية موسعة واعتماد خلفيات السميائيات الذاتية،  وتحليل متن يتسم بالسعة (ما ينيف على ثلاثين مؤلفا من السرد الشخصي ) والغنى والتنوع والتمثيلية – في المساحة التي ظلت شاغرة منذ شعرية أرسطو بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل.
ومن ثم كان هم محمد الداهي أن يبين –أولا- بما تتميز به هذه المنطقة المنفلتة والملتبسة ( ما يميز أجناسا أو مشاريع ذاتية مستحدثة عن السيرة الذاتية الكلاسيكية)، ويبرز- ثانيا- المواقع التي يشغلها قرناء الكاتب أو توحي بها ظلاله في السرد، ويستجلي- ثالثا- كيف تتمثل الحقيقة بطرق وصيغ متعددة في سرد يمثل سلطة تدعي قول الحقيقة، وتحرم أصواتا أخرى من أن يكون لها سرد خاص بها (مشروعية التمثيل المضاد).

***

“السارد وتوأم الروح”.. نقد ما لم يعمل فيه النقد بعد

يُعيدُ الباحث المغربي محمد الداهي في كتابه: “السارد وتوأم الروح. من التمثيل إلى الاصطناع” الصادر حديثًا عن المركز الثقافي للكتاب (2021)، بمقدّمة رصينة للباحث سعيد بنكراد، تَركيزَ ملاحظاته حول السّيرة الذاتية وسؤال دراستها. وإذا كان لقارئ كتاب “السارد وتوأم الرّوح” أن يتلمّس الأهمية المنهجية والنقدية للمقاربة التي أنجزها الدّاهي، فإنّه سيلفيها ليس فقط في المنظور النّقدي الذي يقطع مع كلّ رؤية سكونية ترى إلى النّص على أنه مكتمل ومستقرّ، وإنما سيعثر عليها، أيضًا، في ما راكمه هذا الباحث من أبحاث ودراسات حول السيرة الذاتية مثل: شعرية السيرة الذهنية (محاولة تأصيل) (2008) والحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات (2007)، وهي أبحاث حملت في ثناياها مشروعًا تكوينيًا لم يكفّ، منذ تلك المرحلة، عن التأمّل في المشاريع السيرذاتية ومساءلة أشكالها وأبعاد علاقتها بالفرد والمجتمع الذي تظهر فيه. لهذا لم يكن من المستغرب أن يصدر الباحث عن تصوّر نقدي مختلف يتوغل عميقًا في السيرة الذاتية بشكل يتأكد معه أنّ التحول الذي طرأ على الفكر الإنساني في هذا العصر، الذي هو عصر الشكّ والأسئلة الحارقة وتعدّد الأقنعة التي تتلبّس بها الحقيقة، قد أعطى هذا الجنس الأدبي قوة دفع مهمة ما عَادَ معها في الإمكان التعامل معه باستخفاف واعتباره مفتقرًا للقيمة الجمالية، أو تلقّيه بالاقتصار على التوجّهات الجمالية للسيرة الذاتية كما تم وضعها بشكل نهائي في القرن التاسع عشر، والتي استندت إلى الرغبة الشديدة في تقديم تمثيل حقيقي للذات، (وذلك عن طريق الإعلاء من شأن الحقائق اليومية والأسرية على سبيل المثال)، وبإعادة موضعة الفرد في الزمن التاريخي، بإعطاء الأهمية لفرادة الشخصية غير القابلة لأي اختزال (3). لقد أضحت السيرة الذاتية باعتبارها خطابًا سرديًا استعاديًا يحكي قصة شخصية واقعية بوصفها قصة حقيقية يُرادُ لها أن تُعرفَ وتُستهلكَ بشكل واسع، أحد أكثر الأنواع الأدبية شعبية، لقدرتها على ملء بياضات الذاكرة، وبالتالي تمكين الأفراد والجماعات من إعادة تشكيل.
“يَتكوّن الكتاب من ثلاثة أقسام، تكرّس الأول منها لـ المعرفة بالأثر، أما الثاني فكان مداره جدارية ستاندال، بينما تركز القسم الثالث لدرس المنطقة البينية. وعبر تسعة فصول، يَدرسُ الباحث متنًا رحبًا من المحكيات الذاتية التي لا تغطي فقط محطات مختلفة من تطورها في الأدب العربي، بل تنطوي، أيضًا، على إمكانات وصيغ متعدّدة لتمثيل الحقيقة والتعبير عن العلاقة المعقّدة بين الكتابة والوجود. وهذا ما أتاح للمؤلّف أن يقدّم صورة واضحة لأهم ملامح تطور السيرة الذاتية في الأدبين المغربي والعربي من الناحية الفنية، وأيضًا من حيث علاقتها بالعالم. ومن بين النّصوص التي يهتم بها المؤلف: كتاب “التعريف” لابن خلدون، والأعمال السردية التي عبّرت عن الصدمة الجماعية التي عاشها المغاربة خلال المرحلة التي تُعرفُ بسنوات الجمر والرصاص مثل “أوراق” لعبد الله العروي و”الضريح” لعبد الغني أبو العزم و”ثمن الحرية” لعبد الهادي الشرايبي، بالإضافة إلى نصوص أخرى مثل “ثورة المريدين” لسعيد بنسعيد العلوي، و”أنشودة الصحراء الدامية” لماء العينين ماء العينين، و”في الطفولة” لعبد المجيد بنجلون، و”البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا، و”دليل العنفوان” و”دليل المدى” و”من قال أنا” لعبد القادر الشاوي، و”الرّحلة الأصعب” لفدوي طوقان، و”ممر الصفصاف” و”رجال ظهر المهراز” لأحمد المديني.الهوية السردية” الخاصّة بهم.
وبالإضافة إلى المتن الرّئيس، يَنفتحُ الباحث على متن واسع يتضمن أعمالًا تندرج ضمن الكتابة عن الذات، منها ما ينتمي إلى الأدب العربي، ومنها ما ينتمي إلى الآداب الأجنبية، خاصّة الأدب الفرنسي، إذ يأتي بها المؤلف إمّا لتوضيح القضايا النظرية والنقدية التي يثيرها أو لتعزيز استنتاجاته وتأكيدها. وانطلاقًا من هذا المتن المتنوع الذي تَتفاوتُ نصوصه من حيث مستويات القرب من ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل أو البعد عنها، وأيضًا من حيث ملازمتها لخطاب المؤلّف أو قرينه، وهو ما يعطي لهذه النّصوص موقعًا خاصًا ضمن حقل الكتابة عن الذات، يتقصّى الباحثُ مجموعة من المكوّنات والقضايا المتشابكة مثل التاريخي والسيرذاتي، وشعرية الذاكرة، وتماثل السرد السيرذاتي مع السرد التاريخي في الخصيصة المرجعية، والمنطقة الفاصلة بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل والتي تمثّل الحالة المثلى التي يتحقق فيها التوازن بين النقيضين. وتَتمثلُ إحدى أهمّ تبصرات الدّاهي في الأعمال المدروسة في الاستفادة من الاتجاهين البويطيقي (الشعري) المعني بالكشف عن دعامات الأدبية، وأيضًا السيميائية الذاتية المهتمّة بالتفكير في البعد المعرفي للخطاب، والبحث عن الحقيقة الداخلية للنص، وتعرية لعبة الأقنعة، وذلك سعيًا إلى الكشفِ عن الموقع الذي يشغله قرين المؤلّف أو قرناؤه في السرد، وحرصًا على التعرّف على المغايرات المختلفة التي هي ثمرة تطور الكتابة السير ذاتية، سواء سارت هذه المغايرات باتجاه ترجيح كفة الواقعي كما هو الحال بالنسبة للسيرة الذاتية الكلاسيكية أو غامرت باتجاه التخييل مثل نصوص السيرة الروائية والتخييل الذاتي. وبالرغم من هذا المنظور المنهجي الصّارم، فإنّ الباحث لا يرمي إلى تقديم نتائج نهائية أو مكتملة، وهو ما يعزّزه مفهوم الأدب كما تَبلورَ في الأزمنة الحديثة، إذ بالرغمِ من أشكالِ التماثلِ والتوازي بين النصوص، فإنها تظلّ قابلة للتأويل والقراءة المتعدّدة.
يَجعلُ محمد الداهي من مفهوم التصنّع لدى الفيلسوف جون بودريار، والذي بمقتضاه يتعيّن الدليل اللغوي باعتباره ردّة أو طمسًا لأي مرجع، مرتكزًا لتجديد التفكير في الكتابة عن الذات من منظور يهتم – بخلاف الجهود النقدية المعاصرة التي ظلّت في دراستها للسرد الأدبي حبيسة “الأدبية الأرسطية التي تهتمّ بالبعد الفني والجمالي للنصوص أيًا كان نمط تمثيلها، وتقيم تمييزًا بين الواقعي والتخييلي، وبين اللغتين المتداولة والشعرية” (4)- بالتفكير في تلك المنطقة أو القارة الشاسعة المجهولة حيث يشتد لعب الهجنة بين الملفوظ الواقعي والملفوظ التخييلي، ويغدو رهان اللغة ليس هو تمثيل الواقع، وإنما طمسه وإنتاج بديل له. وعليه، فهو يتأمل التحوّل الذي طاول السيرة الذاتية ومفهومها لدى العديد من كتابها ودارسيها بالاستفادة من الطفرة الكبيرة التي عرفها الفكر الإنساني، خاصّة في عصر الشكّ هذا، الذي بلغت فيه العلاقة بين الإنسان والواقع من الالتباس والتعقيد ذلك الحدّ الذي ما عاد معه في الإمكان الرّكون إلى المقولات السابقة التي تقول “بتكافؤ الدليل مع الواقع” (الكتاب، ص13)، وتطابق اللغة والأشياء. وعلى هذا الأساس، يُسجلُ الدّاهي بطريقة تنمّ عن فهم عميق للنصوص التي يحلّلها، وعن قدرة كبيرة على الاستفادة من المادة المرجعية الجديدة التي يستدعيها، أنّ دراسات السيرة الذاتية وهي تواجه أعمالًا أدبية يصعب فيها رسم حدود بين الواقعي والتخييلي، الحقيقي والمصطنع، لم تعد “اليوم منشغلة بقضايا المماثلة والمطابقة بل أضحت تخوض في ألاعيب التصنّع وأقنعة الاصطناع التي تستعملها الذات للتنكّر في صورة مختلفة، وإعادة تشكيل هويتها السردية، والصدع بحقيقتها الداخلية، وإحداث قطيعة مع التصور التقليدي للتمثيل (يدعي تمثيل ما لا يرقى إلى تمثيله)” (الكتاب، ص13).
يَنطلقُ المؤلّف من الرغبة الإنسانية العارمة في القبض على الواقع الحي منذ أسطورة نرجس، ليستكشف الأسئلة المعقدة التي تطرحها إشكالية التمثيلِ في السيرة الذاتية، وامتداداتها في الدراسات والأبحاث التي عنيت بدراستها وتحليلها. وفي هذا السياق يُميزُ بين قرّاء مولعين بالتماثل والمحاكاة، ومولين أهمية للتطابق والصدق وقابلية التحقق، وكأنّ هذه الشروط ثوابت متعالية ومطلقة. هؤلاء القرّاء “يعتبرون السيرة الذاتية قوام النرجسية، وبذلك يبعثون الأسطورة من مرقدها إعلاء من قيمة الأنا وشأنه… يمتثل كاتب السيرة الذاتية- أحيانًا- لأسطورة نرجس، فينهض بتركيب الشخصية المثالية الأثيرة لنفسه لبواعث متعددة، نذكر منها ما يلي: الدفاع عن النفس، الاعتداد بالذات والتباهي والاحتفاء بها، أداء دور الضحية” (الكتاب، ص15). إن ما يدعو، من منظور الكاتب، إلى مقارنة هؤلاء القراء بنرجس هو “اكتفاؤهم بسطح الأمور دون النفاذ إلى عمقها وكنهها”. أما الفئة الأخرى من القرّاء فهم الذين يتمحور تفكيرهم في السيرة الذاتية حول السؤال المتعلّق بالطرائق التي يعتمدها الكاتب لإعادة تمثيل حياته الشخصية، خاصّة إذا عرفنا أن كاتب السيرة الذاتية في تفاعله مع تجاربه وتجارب الآخرين، يعزّز محكياته بكثير من العناصر بهدف دعم أثر الواقع. وعليه، فهؤلاء القرّاء يفهمون السيرة الذاتية بشكل مغاير، يتأسس على وعي عميق باستحالة القبض على الحياة الداخلية من قبل الكاتب، وأن التطابق مع ذاته أمر متعذّر، فكلّ ما تسعى إليه السيرة الذاتية هو أن تعطي صورة خاصّة عن نفسها. وضمن هذه الدائرة يتحرّك التفكير الذي يبلوره المؤلّف، مستفيدًا من السيميائية الذاتية، حول السيرة الذاتية التي أصبحت في العقود الأخيرة تَستثمرُ مساحات التخييل لأغراض عديدة، وبفعل التحوّلات التي عرفتها “استطاعت أن تستقطب الاهتمام بها، وترتقي من خطاب الحقيقة إلى خطاب الجمال الذي كان – من قبل- حكرًا على الرواية ومتوقفًا عليها” (الكتاب، ص37). وهذا ما “يستدعي تناولها بالمفاهيم الما بعد حداثية لمراجعة كثير من المفاهيم التقليدية التي كانت تراهن أساسًا على توطيد المشابهة والمطابقة بين الكتابة والوجود” (الكتاب، ص38).
إذا كان الدّاهي يَنطلقُ من الأفكار المختلفة لمنظّري السيرة الذاتية أمثال فيليب لوجون، كريستين مونتالبيتي، أرنو شميت، فيليب كاصباريني، أرنو غينو، سوزان روبان سليمان وآخرين، فهو لا يرمي، من ذلك، إلى تفكيكها وهدمها، رغم أنه يبدي مجموعة من الملاحظات حول كثير من الافتراضات مستندًا إلى ما توفره النصوص المعاصرة من إمكانات فنية تَفرضُ مراجعة أشكال الفهم السائدة عن السيرة الذاتية، وإنما يأتي بها في مسعى للبناء عليها بشكل يَفتحُ مسارًا مختلفًا لقراءة الانزياحات الفنية التي تنطوي عليها التجارب الجديدة في حقل السيرة الذاتية، والمغامرة التخييلية التي يجري الخوض فيها سعيًا للقبض على الحقيقة الملتبسة، بِشكلٍ يبدو معه أن “الأدب لا يتيح إمكانية العثور على الذات إلا في شكل صورة ناقصة أي في شكل شبح أو ظل” (الكتاب، ص17). ولعلّ ما نلاحظه، أيضًا، هو أن الباحث في سياق تناوله للأسئلة التي أثارها منظرو السيرة الذاتية، يُركز على النوع الأدبي نفسه وتحولاته الجمالية بصرف النّظر عن العناصر التي يشترك فيها مع أجناس أدبية أخرى. بالطّبع لا يُنكرُ المؤلّف أنّ السيرة الذاتية تُمثلُ ملفوظًا واقعيًا، وأنها تستثمر التخييل بجرعات مختلفة حرصًا من الكاتب على الاقتراب من القارة المجهولة التي هي ذاته، وسعيًا إلى تقديم صورة مثلى عنها (الكتاب، ص41)، لكنّه يرى في هذا النّوع الأدبي الذي تزايد الاهتمام بمختلف ألوانه في العقود الأخيرة، مزيجًا بين الواقعي والتخييلي، الحقيقي والمزيف، الذاتي والجماعي، الجوهري والعرضي. من هنا فقد أدّى تطور السيرة الذاتية وتعدّد محكياتها وتداخلها إلى الحدّ الذي ما عاد معه في الإمكان رسم حدود بينها، إلى وجود منطقة عازلة تَتفاعلُ فيها ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، وهي “لا تفصل بينهما كما قد نتوهم بل تسعف على تلاقحهما وتقاطعهما وتشابكهما، مما يفضي إلى توالد أنواع سردية جديدة تعيد تمثيل الواقع بطريقة غير مألوفة” (الكتاب، ص32). ويُمكنُ القول إن هذه المنطقة الوسطى التي تَفصلُ بين ملفوظات الواقع وملفوظات التخييل، تشكّل السّؤال الأساس الذي يهتمّ به الداهي في هذا العمل النقدي المثير للاهتمام، محتكمًا إلى “المواقع التي يشغلها الكاتب أو قرينه في المحكيات الذاتية على وجه الخصوص، والمقاصد التي يتوخى إيصالها إلى مخاطبه، والقدرات التأويلية التي يستخدمها في تحريك المؤشر واضعًا النصوص في المناطق التي تناسبها” (الكتاب، ص42).
من بين النتائج التي يُمكنُ أن تستخلص من كتاب “السارد وتوأم الروح” أن السّيرة الذاتية تتطور أساليبها وجمالياتها، والاستراتيجيات السّردية المعتمدة من قبل كتّابها لتمثيل ماضيهم، بشكل يصعب معه الجزم بأن هذا الجنس الأدبي، وقد غدا ممارسة اجتماعية أساسية، محدّد تحديدًا دقيقًا، رغم الجهود النّقدية المهمة التي بذلت في مسعى لتعريفها ورسم حدودها، مثل جهود المنظّر الفرنسي فيليب لوجون، كما أنها تَسمحُ للقارئ من خلال تجاربها الحديثة التي تُراهنُ على التمويه والتخفّي والمخاتلة، أكثر مما تُراهنُ على الصّدق والمشابهة، أن يتعرّف، انطلاقًا من تعدد أشكالها وانطواء كلّ واحد منها على خاصيات شعرية مميزة، على عدم استقرار وضعها النظري، فضلًا عن المفارقات التي تبرزها إعادة قراءة الفكر الذي تنطوي عليه نصوصها. وعليه، يُمكنُ القول إنه من خلال تحويل التركيز من التمثيل إلى الاصطناع، والاهتمام بالكشف عما تنطوي عليه السير الذاتية من معطيات قد تفيد في إعادة بناء الحقيقة، وملء ثقوب الذاكرة، استطاع محمد الداهي أن يعيد التفكير في العلاقة بين الكتابة والوجود من منفذ مجموعة من القضايا؛ ومن ضمنها قضية الزمن، وقضية الحقيقة، وقضية صورة الكاتب. ولا شك أن قارئ هذا الكتاب المهم سوف يتبيّن بشكل واضح أن السيرة الذاتية وهي تستثمر الآفاق الرّحبة التي يرتادها الكتاب لسرد حيواتهم من وراء حجاب أو ستار، مدفوعة بالتفكّك الذي طاول أطروحة التطابق بين الكلمات والأشياء، لم يعد يُنظرُ إليها على أنها ملفوظ واقعي يضطلع بإنجاز تمثيل صادق أو حقيقي لماضي المترجم لذاته، وإنما ينظر إلى علاقتها بالمؤلف على أنها علاقة يؤدّي فيها التخييل دورًا مؤثرًا، حرصًا على النقد الذاتي ومساءلة الأوهام وتفكيك أشكال التمركز حول الذات. ومن هذه الزاوية، يَتضحُ أن السؤال الخاصّ بهذا الجنس الأدبي لم يعد هو السؤال المتعلّق بما إذا كان مشروع السيرة الذاتية يمثّل الصورة الحقيقية للكاتب، ولكن سؤالها صار- في هذه المرحلة التي تنفتح فيها على كثير من السجلات والأدوات والأفعال من قبيل إعادة التشكيل والتنسيق والانتقاء- هو معرفة كيف يتحرّك كاتب السيرة الذاتية في مساحات التخييل الطليق لبناء الهوية السردية بشكل أكثر تحرّرا، وأكثر قدرة على البوح والمساءلة النقدية.

هوامش:

(1) بيير ماشري، بم يفكّر الأدب؟، ترجمة جوزيف شريم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2009، ص25.
(2)  فيليب دوفور، فكر اللغة الروائي، ترجمة هدى مقنّص، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2011، ص39.
(3) Christine Plasse, Les écritures du moi : conscience de soi et représentations sociales, revue Sociologie de l’art, 2004/1, 2004, p109.
(4) محمد الداهي، السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2021، ص21.

إدريس الخضراوي

***

“انهيار الوهم النرجسي” في كتاب “السارد وتوأم الروح: من التمثيل إلى الاصطناع”

> عبد اللطيف الوراري

يبحث الناقد محمد الداهي جملة من الأسس الفلسفية والثقافية التي تقوم عليها الكتابة عن الذات في كُلّ أشكالها، سواء ما يتعلق منها بالسرد الشخصي الذي تتأرجح فضاءاته الممكنة بين ملفوطات الواقع وملفوظات التخييل، أو ما يُصنَّف ضمن السرد الغيري (الصريح والضمني)، أو ما يدخل في التخييل الذاتي بما هو كتابة أخرى لتاريخ “آخر” لا تكتفي بما وقع، بل بما كان من الممكن أن يقع أو لن يقع أبدًا.
ينفي وهم المطابقة أو علاقة التطابق/ التشابه بين الكتابة والواقع كما كرّستها الدرسات السيرذاتية في السابق، وعلى أساسها جرى التمييز بين السيرة الذاتية والرواية؛ إذ وجد أنّ ثمة وسائط وعلائق ووشائج تسعف على التداخل بين العالمين الواقعي والتخييلي، بناءً على ما يشهده الفكر الأدبي، والإنساني بعامة، من طفرات نوعيّة نقلت المجتمع البشري من الواقع (التمثيل) إلى الخيال (الاصطناع). ولهذا عاد إلى نظرية أرسطو في “فنّ الشعر” لنقد مبدأ المحاكاة الذي قامت عليه، وإلى استثمار التخييل الشعري الذي ارتبط عنده برواية ما يمكن أن يقع بحسب الاحتمال أو الضرورة، لا سيما وأنّ إرث هذه النظرية قد استمرّ حتى القرن العشرين، مع الشكلانيين الروس ثم رواد الشعرية (تزفيتان تودوروف، رولان بارث، جيرار جنيت، جون إيف تاديي..)، الذين اهتمّوا بالوظيفة الجمالية للنصوص أيّاً كان تمثيلها، وأقاموا تمييزاً بين الواقعي والتخييلي وبين اللغتين المتداولة والشعرية، في مقابل آخرين دافعوا عن التجاذب الجدلي بين التخييل والواقع (جون ماري شايفر، كريستين مونتالبيتي..).
فمن الصعب في وقتنا الراهن التمييز بين الواقعي والتخييلي، وهذا ما جعل الناقد يحيل على ما كتبه السوسيولوجي الفرنسي جون بودريار قبل أربعين سنة، حيث نحت مفاهيم جديدة لوصف هذا الواقع، ومن أبرزها مفهوم التصنُّع بخلاف التمثيل الذي يقوم على مبدإ تكافؤ الدليل والواقع؛ فهو “ينطلق من النفي الجذري للدليل بصفته قيمة، ومن الدليل باعتباره ردّةً وطمسًا لأيّ مرجع”، إذ صارت اللغة قادرةً على تحويل الواقع وإزاحته، بل خلق نموذج مصطنع بدلاً عنه.
وفي مقابل النظرية التواصلية التي تُعنى بالنقل “الصحيح” للرسائل أو المطابقة بين ما يبثّه المرسل وما يتلقّاه المخاطب، يتبنّى الناقد “ألاعيب التحقق” (إفشاء السر، المغالطة، التمويه، الكذب، الصدق)، التي تتدخل في نقل الخطاب بالكشف عن أسراره أو تمويه محتوياته أو التصرُّف فيها، وهو ما دفع التحليل السميائي إلى “استبعاد أيّ إحالة مرجعية إلى خارج الخطاب بوصفه معيارًا للحقيقة” لصالح “الحقيقة الداخلية للنص” والكشف عن “لعبة الأقنعة”؛ أي لصالح “ميثاق التحقق” الذي يقوم على مقولتي الظاهر والكينونة، ويجعل “الحقيقة أثراً للمعنى” ونتاج التفاعل اللغوي مع مراعاة الظروف والشروط التي تؤطر عمليات التواصل.
في ضوء هذا التحليل، تنفتح الملفوظات على شبكة التأويل بقدر ما تستعصي “الحقيقة” داخلها على الفهم والتحديد، بما في ذلك “حقيقة” الكاتب عبر الصورة/ الصور التي يعكسها داخل النص، أو بالأحرى عبر “لعبة التخفي” التي يجيد التنكُّر وراءها بدرجات مختلفة من السيرة الذاتية إلى الرواية. تتميز صورة كاتب السيرة الذاتية بالمطابقة الاسمية والتعهد بقول الحقيقة واعتماد الصدق، في مقابل صورة الروائي الذي يبرم مع القارئ ميثاقًا تخييليًّا حتى لا يأخذ كلامه على محمل الجدّ، إلا أن التمييز بين الصورتين يبقى نسبيًّا بالنظر إلى الأقنعة التي يتلبس بها كل كاتب في قول الحقيقة، ثُمّ بالنظر إلى مظاهر التصنع التي أذابت المسافة بين التلفُّطين الواقعي والتخييلي وخلقت وضع الهجنة والاختلاط. بل إنّ الأمر ينسحب على جميع الأجناس التي تندرج في إطار الأدب الشخصي، بما في ذلك التخييل الذاتي الذي لم يبتدع من خلاله سيرج دبروفسكي جنساً جديدًا وحسب، بل – بالأحرى- خلق صورة جديدة للمؤلف ونمطاً خطابيّاً جديداً لتطوير السيرة الذاتية.
من هنا، وحسب استعارة حركة أو ترنُّح البندول بين حدّي التخييلية (Fictionnalité) والمرجعية (Référentialité) داخل الفضاء الأجناسي، يقترح محمد الداهي معياراً جديدًا لتصنيف هذا النوع من المحكيات الذاتية حسب انتمائها إلى هذا الحد أو ذاك أو اقترابها منه أو ابتعادها عنه، ثُمّ لتثمينها حسب أدبيّتها أو غناها البلاغي من عدمه. يقول: “تشغل الرواية الحدّ الأقصى بحكم أنّ كثافتها التخيلية تضفي عليها مسحة فنية، وتوجد السيرة الذاتية في الحدّ الأقصى النقيض بالنظر إلى صبغتها المرجعية التي تؤثر – وفق وجهة نظر كثير من النقاد- سلباً في أدائها الأدبي والفني. وتتخلّل الحدّين المتقابلين المتنابذين أنواعٌ من المحكيات الذاتية التي تنزع – بحكم طبيعة تكوينها- إما إلى هذا الطرف أو ذاك، أو تشغل موقعاً وسطاً بينهما”.
تحت تأثير ترنُّح البندول، تتمايز صورة الكاتب بحسب احتكامها إلى معيار المطابقة أو الانفصال، فيما هي تتجسد بواسطة ألاعيب متعددة وفق المواقع التلفُّطية التي تشغلها في النص، وبالتالي لا يستقرّ الكاتب على صورة واحدة، بل يتنكّر في صور متعددة على نحو يسهم في تنوع محافل السرد وأشكاله بضمير المتكلم أو غيره. ونظراً إلى وجود المنطقة العازلة التي تلتبس فيها هوية السارد وتؤدي إلى تداخل المحكيات الذاتية، يدعو إلى معاودة النظر في المعايير الشعرية والتلفّظية التي تميّز هذه المحكيات بحسب المهيمنة السردية (تخييلية أو واقعية)، بشكل يضبط التمايزات الدقيقة بينها ويكشف مختلف الصور والأقنعة التي يتخفّى وراءها الكاتب حتى يتحدث عن ذاته بحرية أكبر، ومعها يجهد القارئ للتأكد صحتها من زيفها كما لو كان مُحقّقاً. حتى إنّ الترابطات الأساسية التي ينطلق منها هذا القارئ للحكم على السيرة الذاتية بأنها قوام النرجسية، تبقى مضطربة وغير ملائمة؛ فمن جهة، ينتج المؤلف في مجال الكتابة صوراً عديدة كُلّما اقترب من ذاته (أيّ هذه الصور أقرب إلى ذاته؟)، وبالتالي يتحرر من أسر بيجماليون (صناعة القرين المثالي). ومن جهة أخرى، لا يتيح الأدب نفسه إمكانية العثور على الذّات إلا في شكل صورة ناقصة. ولكن رغم نقصان كتابة السيرة الذاتية، فهي تبقى أكثر تماسكاً واكتمالاً من الواقع عينه، لأنّها كتابةٌ تُؤجّل فعل الموت وشواهدها لا تزول إلى الأبد.

***

جدل الكتابة والوجود في “السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع”

> ادريس عزابي

قرأتُ الكتابَ “السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع” أكثرَ من مرة، وكلما أنهيتُه 400، تتولدُ أسئلةٌ أخرى، فأرجعُ مرةً أخرى أقرأه من جديدٍ عسى أن أعثرَ على إجاباتٍ. الكتابُ الجيدُ ليس هو الذي يقدمُ أجوبةً، وإنّما ذاك الذي يولّد أسئلةً، قيمةُ الكتاب تتحددُ بِعمقِ الأسئلة التي يولدُها ومغزاها، ولا سيما حين يثيرُ أسئلةً حول موضوع الذات. من أنا؟ من هذه الذات التي كانت تعتقد أنّها محور الكون، وسقطت مع عليائها حين اكتشفت -مع كوبرنيك- أن الأرض التي تسكنها مجرد كوكب بيضاوي الشكل ضمن مجرات الكون!؟. من هذا الأنا الذي كان يعتقدُ أنّ وجوده يتأكّد بالشّك مع ديكارت وأن ملكة التفكير تُعليها عن باقي الكائنات، لتكشف مع فرويد أن اللاوعي هو الذي يوجه السلوكَ والتفكيرَ معًا.
مرة أخرى، من يكون هذا الأنا؟. يأتي هذا الكتاب ــ«السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع» للناقد محمد الداهي- في هذا السياق التاريخي ليُعمق الأسئلةَ؛ كيف تتشكل هويتها من خلال ما تسرُده عن نفسِها.. هل ما تسرُده عن نفسِها حقيقتها وواقعها؟ كيف تتكئ على ماضٍ مضى وانقضى أي لم يعد موجودا؟ كيف تعتمد على الذاكرة خاصيتها النسيان؟ ولمَ تنتقي حدثًا تخصُه بالسّرد وتُقصي أحداثًا؟ ألا يتقاطعُ هذا وعمل المؤرخ، ولا سيما أنّها تعتمد –كذلك- على الأرشيف والألبوم وشهود عيان وتُضمّن أحداثا سجلها المؤرخ وحفّظها المؤرشفُ وشهِد عليها شهود؟. أليسَ السّاردُ فردًا داخل الجماعة يتغذى على ما أنتجته الجماعة من أفكار وأذواق وإيديولوجيات؟ وما أهمية الصدق والواقعية فيه إذا كان الخيال يتولى نقله؟ هل يفقد صدقه الذي يَعِدُ به حين يرتبه في شكلٍ أدبي خاصيته التخييل ومعياره الذوق ومادته اللغة؟ أليس “النَّصُّ نزهةً كلماته من الكاتب أما معانيه فمن القارئ” -بحسب تدوروف- أليستْ القراءةُ تعقبُ الكتابةَ، والكتابةُ تقتفي أثرَ ما مضى وتعيد ترتيبه وَفق ما يمليه الحاضر؟
إنّها أسئلةٌ يحاولُ الكتابُ أن يجيبَ عنها بشكلٍ صريحٍ وهو يثير أسئلةً أخرى ضمنية. إنّ البحثَ عن هويّة الذات من خلال ما تسرده عن ذاتِها؛ فيغدو المسرود ذا مستويات أُسّه أحداثٌ يدعي ساردها أنّها حياته عاشها في الماضي، وهو امتداد لها في الحاضر تحمل اسمه وسماته وتصف المراحلَ التي قطعها من حياته، وكذا هواجسه، وأحلامه وعلاقته مع الآخرين… فيُعيد بناءَها وَفق تصميم لغوي اصطلح على تسميته بالسيرة الذاتية، لتتناسل منه مسميات أخرى بحسب حضور الأنا في المحكي؛ قد يتفاوت حضور الأنا من محكي لآخر، وقد تتعدد زوايا الرؤية، وقد يلتبس الواقعي والمتخيل، وتتسع شاعرية الذاكرة، وتتباين المسافة بين زمنيْ الحكي والمعيش … كل ذلك من أجل نحت صورة بل صور محتملة عن الذات، وبلورة هوية/ ات سردية عنها.
ولهذه الغاية يواصل الناقد محمد الداهي في هذا الكتاب الجديد التنقيبَ في “القارة المجهولة” من منظور سيميائي، وهو بحث استمر أكثر من عقدين من الزمن، خَبِرَ من خلاله أحوال الكتابة عن الذات وكان هذا الكتاب تتويجا لما راكمه من أبحاث ودراسات حول السيرة الذاتية؛ من قبيل: “شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل” (2000) و”الحقيقة الملتبسة: قراءة في أشكال الكتابة عن الذات” (2007)، و “صورة الأنا والآخر في السرد(2016)، متعة الإخفاق المشروع التخييلي لعبد الله العروي (2122). عمل دؤوب وتنقيب مستمر للكشف عن الغايات التي تتوخاها الذات والمرجعيات التي تتكئ عليها والتقنيات التي تعتمدها وهي تسردُ ذاتَها، منطلقا من حيث توقف دارسون كثيرون؛ من أمثال: غوسدورف، وفيليب لوجون، وجون ستاروبنسكي، وسيرج دوبروفسكي، وفانصون كولونا، وأرنو شميث، وفيليب غاسبريني، الذين انتقلوا من البحث في فرضية المماثلة والتطابق والصدق بين ما عاشه الكاتب وما يسرده عن نفسه إلى بحث في طرق تمثيل الحقيقة وتشخيصها أدبيا؛ أي الانتقال من السؤال: ما حقيقة ما يسترجعه الكاتب عن نفسه؟ إلى التساؤل: كيف يقدم الكاتب صورة أو صورا عن ذاته؟ فالوهم المرجعي الذي تتكئ عليه السيرة الذاتية، لا ينبغي أن يحجب حمولة التخييل المتضمنة فيه، إذ لا يمكن للكاتب أن يقدم حياته كما جرت فعلا. وهي صيغة أخرى للقول إنه يكيف ما سمح به التذكر وما أتاحه التخييل مع الإكراهات المرتبطة بالكتابة السردية كي يكتبه، وهو حين يفعل ذلك، يعيد تشييد حياته، ويصنع منها حَكْيا ملتبسا، ويصادف أن يكون هو الحكاية بطريقة لا تخلو من المكر والتصنع والاصطناع ( صورة مزيفة Simulacrum ).
وظّف الناقدُ ترسانة من المصطلحات توزعت بين فصول الكتاب وشدّت بناءه، خصّ لها الناقد هامشا في الصفحات الأخيرة من الكتاب من أجل تعريفها وترجمتها، وبموازاة ذلك قدم الناقد ما يكفي- في هذا الكتاب- من العيِّنات السيرذاتيَّة المتفاوتة في أدبيتها وزمنيتها وجنسيتها (المذكرات، والرواية، والسيرية، والسيرة الذاتية، والحكي الذاتي، والتخييل الذاتي) لمواكبة رحلة الزمن بالأثر، وإبراز حركة الذهاب والإياب القائمة بين الماضي والحاضر، والتدليل على القيمة الرمزية والتاريخية للأثر (الوثيقة)، ودوره في إضاءة الأحداث المغيبة من التاريخ العام.
ما يميزُ هذا الكتاب ليس مرجعياته النظرية في المحكيات الذاتية ولا مجموع الدراسات التطبيقية التي جمعها، وإنّما قدرته على سبر البنية العميقة للمحكي واقتفاء أثر المعنى الذي تتشكل في سيرورته هوية الذات / الكاتب رغم أنّها منطقةٌ ملتبسة بين الواقعي والمتخيل، وموزعة بين ميثاق السير الذاتي والميثاق المرجعي، ومتجانسة بين السّرد التاريخي والسير الذاتي، وجامعة بين الإمتاع والتوثيق، بين الأنا وتوأمها، بين الذات ومرآتها… وهي تقتنص الصور من حياتها وترتبها، إنّما تعيد تحبيك هوية خاصة بها تجمع بين الهويّة العينية والهويّة الذاتية… إنّها منطقةٌ حساسةٌ -تتخذ فيها الذات أكثر من قناع- ومع ذلك استطاع الناقد محمد الداهي أن يميز في هذا الكتاب بين أنواع المحكي العديدة التي تتوارى فيه الذات وهي تحكي عن نفسِها، وعرّف بخصائص كل نوع، واستطاع أن يجلي البنية الخطابية لما ينيف عن ثلاثين مؤلفا من السرد الذاتي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: “التعريف” لابن خلدون، و”أوراق” لعبد الله العروي، و”البئر الأولى” لجبرا إبراهيم جبرا، و”أنشودة الصحراء الدامية” لماء العينين ماء العينين، و”الرحلة الأصعب” لفدوى طوقان، و”في الطفولة” لعبد المجيد بن جلون، و”ثورة المريدين” لسعيد بنسعيد العلوي، و”ثمن الحرية” لعبد الهادي الشريبي، و”أنشودة الصحراء الدامية” لماء العينين ماء العينين، و”الضريح” لعبد الغني أبي العزم، و”دليل العنفوان” و”دليل المدى” و”من قال أنا؟” لعبد القادر الشاوي، و”وردة للوقت المغربي” ورواية “ممر الصفصاف” و”رجال ظهر المهراز” لأحمد المديني…إلخ.
تجنب الناقد محمد الداهي إصدار أحكامَ القيمة، متبعًا منهجًا سيميائيا أسُّه تتبع سيرورة تشكل “معنى الأنا” داخل المحكي، دون أن يغفل الإجابة على الإشكال: كيف تُبلور وتُنسج هوية ذات الكاتب أثناء ما يحكيه عن نفسِه ومن خلاله، موظفا أدوات ومفاهيم علمية لفهم العلاقة المعقدة والملتبسة بين الكتابة والوجود، ولاستيعاب مواقع القرين أو القرناء في هيئات وطبقات وأدوار مختلفة، ثم مستنتجا أن هويّة السّارد لا تتحدد من خلال تفكيره ولا سلوكه ولا لاوعيه، وإنّما من خلال وأثناء ما يسرد عن نفسه.
إنّ الكتابَ إجمالا بحثٌ علمي أكاديمي قدم الناقد محمد الداهي من خلاله أجوبةً أغنت نهم القراءة وأسئلةً عصفتْ بذهن القارئ؛ في كلِّ فصل يقدم فيه جوابا يعقبه أو يتولد من رحمه أسئلةٌ: كيف تتجلى هويّة الذات أو هوياتها من خلال ما تسرده عن نفسِها؟ والكشف عن ألاعيب التحقق والمواربة والتضليل والكشف… في كل تلك التفاصيل يترك الناقد بياضا يدفع من خلاله القارئ للتفاعل والمشاركة وطرح السؤال من منطلق أن الكاتبَ الناجح ليس هو الذي له جمهور، وإنّما ذاك الذي يصنع جمهوره، وبالتالي تتعدد القراءة بتعدد القُراء؛ كما تتعدد الأسئلة بتعدد زوايا الرؤى.
استطاع الناقد محمد الداهي أن يحدد إحداثيات أخرى تتشكل في أثنائها ومن خلالها الهويات السردية. برهن عليها باللجوء إلى التحليل والاستقصاء المنهجييْن، كاشفا عمليا أن الذّات تتحقق هويتها سردا حين تتخذ من ذات السارد موضوعا لسردِها، ليتلاشى الاعتقادُ أن اللاوعي هو موجه السلوك ومحدد هوية الذات، وإنّما هوية الذات -كما بسط الناقد- تتشكل من خلال هويتها السّردية؛ فالهويّة لا تحدد من خلال تطابقها مع الواقع وحسب، وإنّما كيف يتم تصور هذا الواقع في الذهن، وكيف يتم تحبيكه في أثناء السّرد، فحياةُ المرء ليس كما عاشها وإن كيف يتذكرها أو كما يتوهم القاري ذلك، ولا يمكن تذكر الماضي واسترجاعه إلا بسرده، وحين أعيد سرده فإنني أعيد تأويله وَفق ظروف الحاضر ومعطيات التذكر هنا والآن، السرد أداة تأويلية تتكشف من خلالها الهوية الإنسانية وبالتالي فأنا ما أسرد بتعبير بول ريكور.

> إعداد يوسف الخيدر

Related posts

Top