السخاء والغباء لدى المجرمين.. حكايات من قلب الواقع

تعرض شيخ فقير مريض من مدينة بنسليمان، نهاية الأسبوع المنصرم لعملية سرقة فريدة من نوعها، حين كان نزيلا بمستشفى ابن رشد بمدينة الدار البيضاء. ولم يكن السارق سوى شاب مجهول ظل طيلة ذلك اليوم يعرض خدماته الاجتماعية والإحسانية على النزلاء ويوهمهم بقرب قدوم “الحاجة” التي ستتبرع بالمال الوفير لعلاجهم وإجراء كل العمليات الجراحية باهضة الثمن. تمكن الشاب المراوغ من الحصول على هاتف الضحية الذي كان عاجزا على الحراك ولم يكن يحفظ أرقام هاتفه عن ظهر قلب. أوهمه بأنه سيحصل على تلك الأرقام من هاتفه الخاص. لينزوي خلف الأسرة، قبل أن يختفي ومعه الهاتف، ويترك الضحية لعدة ساعات ينتظر عودته ومعه الهاتف و”الحاجة” التي من المفروض أنها ستتكلف بمصاريف إجراء عملية له على مستوى القلب، والتي قدرت بحوالي 35 ألف درهم.
المشكلة ليست في قيمة المسروق، فكلما قلت قيمته المالية، كلما زادت فظاعة الجريمة. لكن المشكلة الأكبر والأخطر في كون أن هذا الشاب اللص، استباح لنفسه أن ينصب ويسرق من داخل مستشفى (مسرح الجريمة). وأن يختار ضحاياه من بين من هم في وضعيات أقل منه فقرا وصحة. وأن يوهم ضحيته على قدرته على منحه فرصة العودة للحياة بعدما فشلت عمليات جراحية سابقة.
صحيح أن بلادنا لا تأوي شبكات ومافيات متخصصة في السرقة والنهب، كتلك التي يطلعنا عليها الإعلام الدولي داخل أرقى الديمقراطيات. لكن بات واضحا أن بها لصوصا تجهل ما تقترفه من جرائم بلا غنائم. لصوص مدخولها اليومي لا يضاهي جرائم الأخلاق التي ترتكبها. كأن يعرض اللص ضحية فقيرة ومريضة تحتضر، للسرقة، بعد ترقب وإصرار وترصد. هذا يدعو إلى القلق الشديد.
قد يكون من بديهيات الأمور، أنه لا خير يرجى من اللصوص والمجرمين. باعتبار مهامهم في الدنيا التي تقتصر على السرقة والنهب وممارسة العنف بكل تجلياته. همهم الوحيد إسقاط الضحايا ونشر الأذية والشر بمحيطهم. وأنه لا يمكنهم امتلاك ذرات كرم أو سخاء لتوزيعها. لكن في بلادنا، امتهان السرقة والسطو وتنفيذ الجرائم ليس سوى سلوكا انتقاميا أو بديلا مؤقتا للخروج من دائرة الفقر والتهميش. وطبعا فهي بدائل غالبا ما يبدع فيها اللص.
هناك تجليات مختلفة لعنف أو انحراف يتضرر منه الضحايا، كما أن هناك سخاء وكرما لهؤلاء اللصوص والمجرمين، تبرز واضحة بالأحياء والمناطق الهامشية التي يقطنون بها، أو اتجاه بعض الأشخاص المحبوبين لديهم، أو الذين يستثنونهم من لائحة المستهدفين بالسرقة والعنف. ربما قد يكون التودد لهؤلاء وأولائك من باب الاحتماء في وسطهم أو إخفاء هوياتهم الإجرامية. لكن الأكيد أن مستوى الدعم والمساعدة الذي يتلقاه بعض المحظوظين من هؤلاء الخارجين عن القانون، يفوق دعم الحكومة ومبادراتها الخجولة، ويزيد من تماسك سكان تلك التجمعات السكنية.
هناك منحرفون لا يترددون في ترويج المخدرات واقتراف الجرائم، وسلب أموال كل غريب عنهم صادفوه داخل الأسواق الأسبوعية و”الجوطيات”، أو بالأماكن المنعزلة أو المظلمة. بالمقابل تجدونهم يقتنون أضاحي العيد لأرامل وفقراء الحي أو الدوار أو “الكاريان” الذي يقطنون به. يشترون الألبسة ولوازم المدرسة لأطفال الجيران ويساعدون في العلاج. يسددون ديون المحتاجين ويساهمون في تنظيم مناسبات الأحزان والأفراح.. مصابون بازدواجية في الشخصية. مقتنعون بأنه لا بديل لهم عن مهنهم الإجرامية، وبالمقابل عليهم يوميا طلب المغفرة، وفرص بديلة للاسترزاق، ويواظبون على الظهور بمظاهر الكرماء والأتقياء بمحيطهم.
ولعل منتهى كرم وسخاء اللصوص ما عاشه الفنان الساخر محمد امهيول أخيرا مع ثلاثة لصوص اعترضوا طريقه بباب إحدى الأسواق الأسبوعية ضواحي الدار البيضاء. قدموا إليه أنفسهم على أنهم لصوص. وأظهروا له إعجابهم بأسلوبه الكوميدي. امهيول أكد لهم أن لديه 200 درهم، مستعد لإعطائها لهم مقابل عدم تعنيفه. وحكى لهم بأسلوبه الساخر كيف كان ينوي صرفها.. وجبة غذاء من الكباب وشراء كمية لحم لأسرته والنقل. ودع الفنان اللصوص، وأحدهم يؤكد له مدى الحب الذي تكنه له والدته. تنفس امهيول الصعداء بعد اختفائهم. وتابع سيره بأزقة السوق وانشغل بكثرة المعجبين الذين كانوا يستوقفونه في كل مرة من أجل تحيته والتقاط صور معه. قبل أن يصل إلى هدفه الأول (الجزار بائع الكبد)، وقبل أن يبادر إلى طلب كمية نيئة، كان الجزار يمد له كيسا بلاستيكيا به كمية من الكبد. وقال له إنها هدية من أصدقائه. انتقل بعدها إلى محل الشواء. ليفاجأ بصاحب المحل يسارع لأخذ الكيس من يده. وقال إن أصدقاءه سبقوه. وأدوا كل ما يتعلق بالشواء والطماطم والبصل والشاي والخبز. تناول امهيول وجبة الغذاء. وعرج إلى الجزار من أجل شراء كمية من اللحم لأسرته الصغيرة. فعاد الجزار ليفاجئه بكيس ثان من اللحم، تركه له أصدقاؤه. ليدرك فيما بعد أن الأمر يتعلق باللصوص الثلاثة الذين اعترضوه عند مدخل السوق.
هؤلاء هم لصوص بسطاء، اختاروا العمل وفق حديث نبوي شريف “.. أتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا..”. رغم ما قد يثار من جدل حول المال الحلال أو الحرام..علما أن ببلادنا لصوصا كبارا من فئة خمسة نجوم لا يمتلكون الوقت للتفكير في اختلاساتهم التي يروح ضحيتها يوميا شعب بأكمله.. الأكيد أننا لن نتمكن من تطهير العفن والقذارة والخبائث، لأن تنظيفها يعني اختفاءها. وأننا نجد صعوبة في القضاء على الفساد وجذوره التي ترسخت بكل القطاعات، لكن واقع الحياة قد يكشف لنا أهمية العفن والشر والسوء في الدورة العادية للحياة. وأن هناك من يتغذى من ورائها، ويشكر الله ليلا ونهارا دون أدنى تدمر أو إحساس بالذنب اتجاه الآخر. لهؤلاء وجب التصدي..

بقلم: بوشعيب حمراوي

[email protected]

Related posts

Top