بقدر ما شكل العامل الخارجي المتمثل في تهديدات وأطماع الدول الاستعمارية تجاه منطقة الشرق الأوسط حافزا لتلاقي الإرادات لمواجهة التمدد الإسرائيلي بالمنطقة، بالقدر نفسه شكل عائقا أمام نجاح أية محاولة لتوحيد الجهود حتى داخل الدولة الواحدة، ذلك أن الدول التوسعية نجحت في تحقيق مساعيها التجزيئية باللعب على حبل التعددية الدينية والتنوع الطائفي الذي يعتبر معطى ثابت في بنية دول الشرق الأوسط عموما، ودول الهلال الخصيب أساسا، التي أصبحت مسرحا للتجزئة والفتنة أحيانا بفعل أبنائها وأحيانا أخرى بمكر الأجانب؛ وبالتالي جعلتها ـ التجزئة ـ تتحول من هلال خصيب إلى هلال نضيب.
إن هذه الروابط الثقافية والدينية المنصهرة والمندمجة مع بعضها البعض والتي كان يفترض فيها مبدئيا أن تجعل من مواجهة الأطماع الاستعمارية أمرا ممكنا، تحولت فيما بعد إلى حجر عثرة يعيق مساعي توحيد الرؤى لمواجهة التهديدات الأجنبية بالمنطقة، ذلك أن هذه القوى نجحت في استغلال المعطى الطائفي وتوظيفه كورقة لبث روح التجزئة والتشرذم في الشرق الأوسط، بالشكل الذي أفقد دوله الصلابة والمناعة التي تجعلها تصمد في مواجهة القوى الخارجية وطموحاتها التوسعية تجاه دول المنطقة. وبالتالي، جعل دعمها محدودا للقضية الفلسطينية التي شكلت أحد الثوابت في تفاعلات الخطاب العربي بمستوييه الرسمي والشعبي.
هكذا؛ وبمجرد بداية بروز تشكل الوعي الإقليمي لما يمثله المشروع الصهيوني من تهديد وخطر ليس فقط تجاه دولة فلسطين وإنما تجاه منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، سيما وأن إسرائيل كانت قد شرعت في عمليات التهويد وأفصحت عن توجهاتها التوسعية تجاه دول المنطقة بعد برنامج “بلتيمور” الذي عقد أيام 6 – 11 عام 1942 بنيويورك الذي يحمل في طياته خطرا يفوق خطر وعد بلفور 1917، حيث ساعد هذا المؤتمر الحركة الصهيونية في تحويل مركزها من بريطانيا إلى أمريكا التي أصبحت الحاضن الرسمي للمشروع الصهيوني ومعه حصلت الصهيونية على أكبر حَامٍ لها وحصلت على تطمينات ليس فقط بإنشاء وطن يهودي في فلسطين وإنما تأسيس دولة يهودية في فلسطين يشمل نفوذها الجغرافي تراب دول مجاورة.
لقد شكلت فلسطين على مر التاريخ قطرا عربيا واقعا في قلب البلاد العربية تربطه بها روابط مشتركة ثقافية؛ دينية؛ روحية؛ تاريخية؛ لغوية وهو الأمر الذي جعل شعوب وحكام أغلب هذه الدول تهتم أيما اهتمام بالقضية الفلسطينية وتريدها دولة مستقلة وذات سيادة، وهذا التعاطف مع القضية الفلسطينية ونضالاتها دفع إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية لبذل كل ما في وسعهما من أجل كبح كل محاولات لمّ الشّمل لتأسيس جبهة موحدة لمواجهة سياسات التهويد ومطامع الاحتلال تجاه منطقة الشرق الأوسط عموما وفلسطين خصوصا؛ سيما بعدما تمكن الجيش الإسرائيلي عام 1967 من احتلال مساحة كبيرة من الأرض العربية في مصر؛ سوريا؛ الضفة الغربية وقطاع غزة وحققت مخططاتها الاستيطانية تقدما ملحوظا بضم كل من صحراء سيناء ومرتفعات الجولان، حيث أصبحت إسرائيل تسيطر على جزء كبير من جغرافيتها بالشكل الذي أتاح لها السيطرة على الموارد الطبيعية في منطقة الجولان وسيناء والضفة الغربية.
أولا: خطة إينون وحلم التجزئة؟
في سياق مساعي إسرائيل الرامية لوأد وإجهاض كل محاولة عربية – إسلامية للوحدة، تطفو على السطح خطة “أوديد إينون” التي نُشرت عام 1982 في المجلة العبرية “كيفونيم” والمخصصة لتفكيك وتجزئة الشرق الأوسط إلى دويلات متنافرة. وتعتبر هذه الخطة من أقدم الوثائق المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، وفي نفس الوقت أكثرها وضوحا بشأن العقيدة التوسعية الإسرائيلية في جغرافية الشرق الأوسط.
من بين الأهداف التي سعت الخطة بلوغها إضعاف دول المنطقة وتقسيمها وتفكيكها، بالشكل الذي يجعلها غير قادرة على تأسيس جبهة موحدة لمواجهة إسرائيل، التي تنظر للمجتمعات العربية الإسلامية بمنظار الشبح الذي يمثل التهديد الحقيقي لها على المدى البعيد، والذي قد يشكل عائقا أمام تأسيس “إسرائيل الكبرى”، الأمر الذي دفعها للتفكير في نهج سياسة فرق تسد من خلال محاولة تجزئة بعض الدول وتغذية روح الانقسامات السياسية؛ الطائفية؛ الدينية؛ سيما وأن أغلب دول الشرق الأوسط تعج بالطوائف التي تكن مشاعر عدوانية تجاه بعضها البعض وهو ما يسمح لإسرائيل بتغيير الخريطة الجيوسياسية؟.
ثانيا: تقسيم لبنان إلى دويلات طائفية وإضعاف المقاومة الفلسطينية
إن محاولة تقسيم لبنان إلى دويلات طائفية متناحرة يعتبر هدفا قديما في العقيدة التوسعية الإسرائيلية، إذ سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي موشي شاريت أن كشف عنه في مذكراته عام 1954 عندما طرح دايفيد بن غوريون فكرة تقسيم لبنان بإقامة دولة مسيحية منفصلة وقائمة بذاتها، وهو الطرح الذي تبعه فيه شمعون بيريز الذي اعتبر أن حل الأزمة اللبنانية يكمن في تقسيم لبنان، وربما هذا الأمر هو الذي يفسر العلاقات الإسرائيلية الناشئة آنذاك مع مجموعات متعددة من الطوائف اللبنانية وتدخلها لإذكاء الصراعات الدامية بينها وتهديم الوحدة الوطنية اللبنانية وضرب كل البنى السياسية والثقافية الموحدة في لبنان، بدءا بتشجيعها للتيارات الطائفية وتوفير السلاح لها، خاصة المتحمسين لإقامة وطن قومي مسيحي بعد اقتحام القوات السورية للبنان عام 1976 وميل بعض الطوائف اللبنانية لتوثيق العلاقة مع إسرائيل التي كانت تقوم بالمستحيل من أجل نقل الحرب إلى داخل العرب بدلا من حصر دائرة الصراع بين العرب وإسرائيل، والعمل قدر المستطاع على تعريب الحرب في أفق إقامة “الدولة الإسرائيلية الكبرى”.
تعتبر الطائفية في لبنان معطى أساسيا في مؤسسات ومفاصل الدولة، بحيث تعود جذورها للحرب الأهلية عام 1975؛ والتي كان من نتيجتها الانقسام في بنية وخريطة الدولة؛ المنطقة الغربية “الإسلامية”، والمنطقة الشرقية “المسيحية”، انتهت بوثيقة الوفاق الوطني في إطار ما سمي باتفاق الطائف عام 1989، واعتبار لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين، اتفاق أريد منه تحقيق “التعايش المشترك” بين المسلمين والمسيحيين والعمل على تحقيق المساواة السياسية بينهما في أفق إلغاء الطائفية بشكل متدرج، إلا أنه ما فتئ أن أفرز واقعا مبلقنا أسهم في تلاشي فكرة الدولة وأقر حقوق الطوائف منفصلة عن سلطة الدولة وأعاق قيام الدولة المدنية.
هذا الواقع الهجين جعل إينون يدعو بدوره لتقسيم لبنان، وهو ما حاولت إسرائيل فعله منذ عام 1982، إذ بعد اجتياحها له سعت جاهدة لإنشاء منطقة آمنة في جنوب لبنان تحت السيطرة الإسرائيلية، وذلك كإجراء احترازي لمنع تسلل عناصر المقاومة الفلسطينية وقهر الإرادة العربية سياسيا؛ اقتصاديا؛ عسكريا والتوسع في المنطقة وضرب الوجود الفلسطيني في لبنان، وذلك من خلال استهداف المناطق العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب اللبناني وخلق حالة من الذعر لدى الفلسطينيين المقيمين بلبنان والضفة الغربية ودفعهم للنزوح نحو الأردن. وبالتالي، محاولة القضاء على القوى الخارجية في لبنان، خاصة السورية والفلسطينية وإعادة التركيبة السياسية في لبنان بخلق حكومة مركزية موالية لإسرائيل.
ثالثا: العراق الطائفية تعيق الدولة الفدرالية عام 2005
أما فيما يتعلق بالعراق فسعت إسرائيل لتقسيمها إلى دولة شيعية وأخرى سُنِّيَة مع انفصال الجزء الكردي منها. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار الحرب الإيرانية العراقية للفترة ما بين 1980-1988 بمثابة بداية تحقيق ذلك، حيث كانت إيران تمني النفس منذ نجاح ثورة 1979 على تصدير الثورة لجيرانها، فضلا عن الخلاف حول ترسيم الحدود بمنطقة شط العرب المطلة على الخليج العربي الغني بالنفط، وهو ما جعل حزب البعث العراقي الحاكم حينئذ يستشعر خطر قدوم التشيع من الجارة الإيرانية. غير أن الطائفية -منذ الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003- غذت من خصائص الدولة العراقية التي أصبحت مسرحا للانقسامات الداخلية.
لقد نجحت القوى الأجنبية والتوسعية في استغلال المسألة الطائفية التي هي معطى عقائدي لتحقيق أغراض سياسية مما أدى إلى تفكك بنية الدولة؛ وهذا حال العراق التي أصبحت مسرحا للعنف الطائفي بالرغم من تبنيها للتجربة الفدرالية بموجب دستور 2005 الذي نصت مادته الأولى بأن العراق دولة اتحادية واحدة، وبالرغم من التنصيص الدستوري في المادة 2 منه على ضمان الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، وبالرغم من التنصيص الدستوري في المادة 3 بأن العراق بلد متعدد المذاهب والقوميات والأديان، إلا أن هذه الخصوصية جعلت من فكرة الفدرالية تعجز عن صهر كافة المكونات في بنية النظام السياسي الجديد، إما بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني وإما بسبب تباعد الرؤى بخصوص تدبير موارد النفط والغاز بإقليم كردستان.
وتبقى الإشكاليات التي تطرحها المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005 في مقدمة القضايا الخلافية بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، خاصة مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها بين الإقليم والمحافظات المجاورة أي المناطق التي “تعرضت للتغيير الديمغرافي ولسياسة التعريب” في عهد صدام حسين، ونصت المادة المذكورة آنفا على آلية تضم ثلاث مراحل لتسوية الوضع: بدءا بتسوية التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها؛ مرورا بإحصاء الساكنة، وصولا للاستفتاء لتحديد إرادة السكان، بهذا تحولت الطائفية إلى آلية لتغييب التوافق السياسي بين أبناء البلد الواحد؛ وعوض أن تكون الفدرالية مدخلا لدرء الانقسامات أصبحت مغذية لها.
رابعا: سوريا الطائفية وحظوظ الدولة الفدرالية؟
نفس الأمر بالنسبة لسوريا، فهي لا تختلف اختلافا بَيِّناً عن لبنان والعراق الطائفيتين، حيث كانت منذ القدم عرضة لمساعي أجنبية لتحويلها إلى بؤرة للنزاع الطائفي بين السنة والشيعة؛ وهو ما تعيشه سوريا؛ حيث تبدو منذ اندلاع “الربيع العربي 2011″، نموذجا لبلد عربي أكثر تأثرا بالنزعة الطائفية التي تغذيها التدخلات الخارجية، خاصة تلك التي مصدرها من داخل المنطقة -إيران أساسا- بالشكل الذي جعل الانقسام الداخلي إحدى السمات الأساسية التي تطبع المشهد السياسي بسوريا، بين أقلية شيعية “الطائفة العلوية” الماسكة بزمام الحكم منذ 1970 وأكثرية سنية معارضة منذ 2011 وتطالب بإصلاحات جذرية، لكن سعيهم هذا اصطدم ويصطدم بممانعة الحزب الحاكم في سوريا وبأنظمة شيعية تساند موقف السلطة القائمة في سوريا، خاصة بعد التقارب السوري الإيراني وهو ما صعب من إمكانية تحقيق الإصلاحات التي تسعى إليها السنة في سوريا ومعه غذت حظوظ الدولة الفدرالية هناك ضئيلة بل ومستبعدة، ذلك أن تدخل إيران في الشؤون الداخلية لسوريا يجعل من فكرة الدولة الفدرالية التي تجمع بين السنة والشيعة في سوريا أمرا غير ممكنا، سيما في ظل تمسك حزب البعث العربي الاشتراكي بالشرعية التاريخية التي يؤسس ويقيم عليها أحقيته في الحكم.
خامسا: مصر هل تدخل سيناء في استراتيجية إسرائيل التوسعية؟
قديما سعت إسرائيل لتقسيم مصر إلى عدة دويلات ذات نفوذ ضعيف من خلال تصور تواجد دولة مسيحية قبطية في مصر متاخمة لعدة دول ضعيفة، وإن كان هذا الأمر لم يحدث وتأجل بموجب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979 وانحياز الرئيس المصري السابق أنور السادات للجانب الأمريكي، غير أن احتمالية هذه الفرضية تبقى ممكنة على المدى البعيد لأن جزيرة سيناء، التي احتلتها إسرائيل مرتين الأولى عام 1956 والثانية عام 1967، كانت وستظل ذات أهمية استراتيجية في العقيدة التوسعية لإسرائيل، وهذا الأمر يمكن تلمسه من خلال دعوة بعض الفئات الإسرائيلية لتوسيع الرقعة الجغرافية لـ “دولة إسرائيل”، وهي نفس الدعوة التي تبناها ودافع عنها وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، الذي نشر تغريدة بحسابه الرسمي على “منصة إكس” يوم 3 يوليوز 2024؛ تروج لمنتجات تدعو إلى احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية، وهذا يعني أن الأمر لم يعد مجرد حلما للإسرائيليين، بل ربما أصبح توجها رسميا لسلطة الاحتلال.
سادسا: الخليج العربي بين مطرقة الخطر الإيراني وسندان الأطماع الأمريكية؟
بخصوص دول الخليج العربي، فقد بدأ المذهب الشيعي يتغلغل داخلها بعد أن تسلل إليها من حدود الجوار التي تجمعها بإيران، وبفضل مساعي هذه الأخيرة الدؤوبة لنشر المذهب الشيعي، منذ عام 1979، ليس فقط داخل دول الجوار بل حتى داخل دول شمال إفريقيا. وبالتالي، إعطاء قضية التشيع بعدا استراتيجيا؛ الأمر الذي جعل دول الخليج العربي بدورها تحتضن طائفية شيعية وإن على قلتها، إلا أنها يمكن أن تكون سببا في بروز مشكل الطائفية بمجرد توافر الشروط الموضوعية لذلك، كما أن أغلب هذه الدول تعيش على عائدات النفط وهو الأمر الذي جعلها ويجعلها عرضة لأطماع القوى الأجنبية سيما أمريكا التي لن تتردد في اتخاذ ما يقتضيه الحفاظ على مصلحتها، حتى لو تطلب الأمر اللجوء إلى القوة العسكرية طبقا لمبدأ كارتر لعام 1980 دفاعا عن نصيبها من عائدات النفط.
صحيح أن مبدأ كارتر أتى كرد فعل على غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان سنة 1979؛ غير أن هذا المبدأ يعتبر معطى ثابت في العقيدة العسكرية الأمريكية، ذلك أنه ليس هناك ما يمنعها من توظيفه لتقويض المبادرات الرامية للمس بمصالحها في الخليج العربي، سيما أمام تنامي نفوذ إيران الذي لن تتركه أمريكا يشكل تهديدا لأطماعها في الثروة النفطية، وهذا الأمر يبدو جليا من خلال البيان المشترك بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، الصادر في 15 يوليوز 2022، حيث شددا الجانبان على ضرورة ردع تدخل إيران في الشؤون الداخلية للدول والتأكيد؛ في نفس الوقت؛ على عدم مشروعية امتلاكها لسلاح نووي، وهذا الأمر يفسره أيضا استمرار الدعم العسكري الأمريكي للجيش الإسرائيلي في الشرق الأوسط وحرصهما على تحويل الصراع من صراع بين العرب وإسرائيل إلى صراع بين العرب أنفسهم وتغذية النزعة الطائفية.
ومما يوحي بأن أمريكا لن تسمح بالمساس بمصالحها الاقتصادية في منطقة الخليج العربي، هو رد فعلها إزاء التقارب السعودي الصيني، الذي كان من ثماره استثمار السعودية لموقعها الجيوسياسي وانخراطها الإيجابي في مبادرة الصين الرامية لإحياء أقدم الطرق التجارية بين العرب والصين عبر مشروع طريق الحرير الجديد، باعتباره استراتيجية صينية الغاية منها تمديد النفوذ التجاري الصيني نحو العالم، غير أن أمريكا لم تقف موقف المراقب لتسرب الهيمنة الصينية في الخليج العربي، بل واجهتها بإطلاق خطة مماثلة عبر مشروع الممر الاقتصادي بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا من خلال خطوط السكك الحديدية والنقل البحري وتعمدت إقحام كل من المملكة العربية السعودية والإمارات في الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية بين القوى الكبرى. قد يبدو للوهلة الأولى أن مبادرة أمريكا تسعى لتسهيل نقل الطاقة والكهرباء والهيدروجين وإنشاء خطوط السكك الحديدية والتشبيك التجاري، بيد أن الهدف المضمر للمشروع الأمريكي يتمثل أساسا في محاولة التضييق على المبادرة الصينية وتحجيم التواجد الصيني وإن كانت الجدوى الاقتصادية للمشروع الأمريكي تبقى متواضعة بالمقارنة مع مشروع الحزام والطريق الصيني.
على سبيل الختم
تأسيسا على ما تقدم، يمكن القول بأن ما تشهده حاليا بعض الدول خاصة لبنان؛ سوريا والعراق من نزاعات طائفية، تهيأت شروطها الموضوعية والذاتية منذ بداية التغلغل الإسرائيلي، ونجاحه في تغذية التوترات بين المكون الطائفي الذي يعتبر معطى أساسيا ومتجذرا في تركيبة هذه الدول، وقد كانت الغاية من تذكية النزعة الطائفية هي عدم السماح لأي دولة من الدول بأن تتقوى أكثر من اللازم أو أن تصبح على الشكل الذي يحمل خطرا على التواجد الأجنبي بالمنطقة خاصة إسرائيل، وهو الأمر الذي عانت منه إسرائيل وأمريكا مع العراق في عهد صدام حسين، وتعاني منه إسرائيل وأمريكا حاليا جراء تنامي النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
وعليه؛ وللخروج من الطائفية التي تعصف بوحدة دول المنطقة تبقى الفدرالية -التي تتأسس على الوحدة واللامركزية وتوزيع السلطة بين المركز والأقاليم- خيارا يطرح نفسه بإلحاحيَّة باعتباره بديلا للطائفية التي تغذي الانقسامات الداخلية. وبالنسبة للحالة اللبنانية؛ يمكن أن يشكل اتفاق الطائف لعام 1989 أرضية يمكن تطويرها وتجويدها نحو الفدرالية مستقبلا بدلا من اللامركزية الإدارية، الأمر الذي من شأنه أن يشكل في حالة ما تم تطبيقه بشكل سليم ـ إسوة بالتجربة السويسرية التي أسس لها أول دستور صادر في 12 شتنبر 1848 والفدرالية الألمانية التي نصت عليها المادة 20 من القانون الأساسي لعام 1949 ـ حلا لوقف الانقسامات الداخلية بين التشكيلات الطائفية؛ بل ومدخلا للتنمية بجميع مستوياتها.
بيد أن حظوظ نجاح الفدرالية في هذه الدول تتوقف أساسا على حسن تبيئتها؛ وبالتالي تجنب الغلو الذي قد يجعلها مدخلا لتجذر الفكرة الطائفية في بنية النظام السياسي، وإنما يجب تطبيقها باعتبارها مفتاحا للتسوية السياسية وإدماج المكون الهوياتي مما يؤدي في نهاية المطاف إلى لم شمل الكيانات الطائفية المتنوعة في إطار دولة واحدة، شريطة التزام الحكومات الإقليمية بعدم المغالاة في تفسير المبدأ الفدرالي على النحو الذي يؤدي إلى المطالبة باقتسام الروافد التقليدية للسيادة: “الأمن؛ الدفاع والسياسة الخارجية” مع الحكومة الفدرالية كما حدث في التجربة العراقية.
بقلم: عبد الغني السرار
أستاذ العلوم السياسية بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة المغرب.