الشاعر جمال أماش: كل المؤشرات تبين أن المستقبل للنشر الرقمي

يشهد الكتاب الورقي تنافسا شديدا من لدن الكتاب الإلكتروني. مع ذلك، فإن حركة النشر بنوعيها، تواصل نشاطها غير مبالية بإكراهات الواقع.
على هامش الدورة السادسة والعشرين للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، كان لبيان اليوم حوار مع نخبة من الأدباء حول إصداراتهم الجديدة وحول مشاركاتهم في الفعاليات الثقافية للمعرض، وكذلك حول نظرتهم الخاصة لمستقبل الكتاب الورقي، بالإضافة إلى قضايا أخرى.

كانت لي مشاركة في الدورة الأخيرة للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء في ندوة “تجارب في الشعرية العربية”، وهي مناسبة للكشف عن مطبخ الشاعر، خلفياته الفلسفية والفكرية، ومرجعياته الأدبية، رغم أن مثل هذه المناسبات تكون قليلة. كما أنها مناسبة للبحث في الطبقات السفلى للنص الشعري، من حيث مكوناته المترسبة في الأعماق،ومن حيث عصوره وأزمنته. وهي مناسبة لتجسير المسافة بين الشاعر والمتلقي، ناقدا أو جمهورا،إذ غالبا ما يعيش الشاعر والكتاب عموما في عزلة في مرافقة نصوصه، وقراءاته، وربما أسفاره الداخلية والخارجية. كما أنها مناسبة لتقاسم أسئلة الكتابة الشعرية بالمغرب وبالعالم العربي، من حيث الأسئلة الكبيرة التي تواجه النص الشعري الجديد من حيث البناء والدلالة، ومن حيث العلاقة بين الشعر والنثر، مستقبل القصيدة في المغرب وأفقها، وغيرها.

****

آخر إصداراتي هو مجموعتي الشعرية الرابعة “ملح الفجوات” التي صدرت سنة2017 ،عن دار نشر “Editions Plus “.وهي استمرارية في البحث في مجرى شعري، يسعى إلى توسيع ضفاف القصيدة، وتشديبها من النباتات المتوحشة، التي قد تلحق بها، بعد تشظي الغيمات. أكتب كما أعيش، في علاقتي بالمكان والناس، الكلمات والأشياء؛ وأحيانا أعود للطفولة، لأبقى مرتبطا بالأرض وبالجذور.

****
بشكل عام تنتمي تجربتي إلى النص الشعري الجديد الذي تبلور في الثمانينات، رغم أنني لا يعجبني تحقيب الشعر بالجيل. تعريف الجيل يحيل على الوحدة والتماثل في الكتابة، وهو ما يتنافى مع الكتابة التي أشتغل عليها، او التي يشتغل عليها شعراء آخرون. لأن الكتابة بطبيعتها فردية، قد نلتقي في موجة الحداثة، والتي تبتدئ في نظري منذ الستينيات في المغرب، برموزها المعروفين. ولكنني بدأت بمحاولات قد أسميها تخطيطات أولى،أوانفعالات من واقع اجتماعي وسياسي صعب عرفته السبعينات والثمانينات، وتأثرت به، فعبرت على مواقفي، لرفض هذا الواقع، بكتابة نصوص قصصية وشعرية،كنت أخفيها وأخاف منها ومن الكتابة أصلا؛ إلى أن تورطت فيها بنشر أحد النصوص في أواسط الثمانينات في صفحة على الطريق. ومن ثمة بدأت رحلة مجهولة في الذات وفي مجاهيل الكتابة وسراديبها وعذابها، بدأت البحث عن صوتي ببطء شديد، وعلى نار هادئة.خصوصا حين يتعلق الأمر بكتابة جديدة ومغايرة عن الذائقة المحافظة والمدرسية التي تنصت وتسمح لنص واحد فقط، هو النص أو القصيدة العمودية.وببلاغة قديمة، لا تجيز إلا ما يشبهها، من حيث الوزن والبحر واللغة.في حين كنت لا أعرف إلا الجملة الشعرية التي تصادفني أو أصادفها، في شارع ما، أو في بحر من البحور التي كنت أسبح فيها ولا أخشى العرق، واللغة التي أعيش فيها وبها، في الحي وفي مختلف الساحات والفضاءات. قد لا أخرج عن مقومات النص الشعري ومكوناته الجمالية، ولكنني كنت أخرج عن ضجيج الواقع بحثا عن صمت القصيدة.كنت وما زلت أكتب في عزلة الملائكة.قد يأتي صمت القصيدة فجأة، مثل شواظ بركانية، فأكتب جملة شعرية أو مقطعا وأتركه يخمر، إلى أن أشعرباكتمال القصيدة على الورق، وأعود اليها مرات عديدة إلى أن تبدو لي قابلة للنشر لتقاسم فرحها مع الآخر، إذذاك أسمح لها بأن تغادرني، وتلتحق بعيون أخرى، تبحث عن مصيرها ومكانها بين نصوص أخرى ومتن في طور التكون والنمو؛ نحو شكل أو أشكال شعرية، تتطور بالمعرفة الفكرية والنقدية بالنصوص الجديدة، وبمهاوي الشعرية العربية والعالمية.لا يمكن للكتابة أن تتطور من تلقاء نفسها، لأن الكتابة الجديدة لا تؤمن بالإلهام والبكاء على الأطلال، ولكنها تأخذ طريقها المختلفة، بقراءة التراث الشعري العربي، ومختلف الشعريات العالمية.

****

سؤال كبير، يحتاج إلى دراسات كثيرة ,إلى باحثين أكاديميين، ونقاد. سؤال التقييم، هو سؤال الحكم على الأدب المغربي المعاصر،تصنيفه وترتيبه.وهذه عملية، تحتاج إلى أدوات قياس دقيقة.ما يظهر لي ،هو أن هناك حركية كبيرة وحيوية في النشر سواء الورقي أو الرقمي.هناك إمكانيات لدعم الكتاب، وهناك دور نشر أصبحت تهتم بالأدب بشكل عام،رغم أن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك.لأن هناك عدم معرفة،أو ربما تجاهل أو إقصاء البعد الثقافي في التنمية.وهو ما ينعكس على نموذجنا التنموي بشكل عام.لأن الأدب بشكل عام،يدخل في نظر بعض المسؤولين في باب الترفيه،و مع الأسف، ليس من أولويات التنمية السياسية والمجتمعية.ولهذا ترى محاولات قليلة قد تسترعي الاهتمام والانتباه. ربما لغياب الإعلام، وعدم تتبعه للأعمال الأدبية وللكتاب بشكل عام.وهناك خفوت المجتمع المدني وبخاصة اتحاد كتاب المغرب في النهوض بمسؤوليته في التعريف بالمنتج الأدبي المغربي في الداخل وفي الخارج، بالإضافة إلى دور المدرسة في عدم التعريف بالكتاب المغرب، في المناهج المدرسية.هناك أسماء مكرسة لقربها من الضوء، ومن المركز أو من الإعلام. وهناك عدد كبير من الكتاب المغمورين الذين يحتاجون إلى تسليط الضوء عليهم وإتاحة الفرصة لهم، لإبداء آرائهم، وإبراز كتاباتهم.وهناك مشكل يتعلق بانحسار دور الجامعة في قراءة الإبداع الادبي المغربي بشكل عام، خاصة الأدب الجديد. إذ أن سلطة الجامعة لا تعترف بالأدب الجديد بشكل عام. لأنه لا يوافق مرجعيتها الكلاسيكية والأكاديمية. والأدب المغربي الذي يتميز بالإبداعية والتميز فهو إبداع مختلف وهامشي، وأشير هنا إلى كتابات محمد شكري على وجه الخصوص.هناك مسألة أخرى في مجال الشعر، وهي أن المشهد الشعري متنوع،يزخر بشعراء لهم أهميتهم في مختلف الأشكال الشعرية، ومن مختلف الأعمار. رغم أن هناك هجرة كبيرة إلى مجال الرواية. ومما لا شك فيه أن ذلك ينعكس، بشكل جيد، على كتاباتهم الشعرية .وهو ما يظهر في بعض أعمالهم الأخيرة، والتي أتيحت لي فرصة الإنصات إليهم في الأمسيات والملتقيات التي يقوم بها بيت الشعر ودار الشعر في المغرب. كما لا أنسى الحركية الكبيرة في مجال الكتابة الزجلية والتي تعرف تنوعا كبيرا، وأصواتا متعددة،لها أهميتها وحضورها في المشهد الشعري بشكل عام.
من المؤكد أن المغرب يمتاز بحضوره القوي في مجال النقد الأدبي، وخاصة في العالم العربي، بحكم حضوره في أهم الملتقيات العربية، وفي الجوائز على الخصوص. إلا أن النصوص الأدبية الأخرى في مجال المسرح والشعر والرواية أصبحت له مكانته في المشهد الأدبي العربي والعالمي بشكل عام، وهذا بشهادة أغلب النقاد. صحيح تجربتنا الأدبية الحداثية لازالت في بدايتها، وتحتاج إلى عمل كبير، وحوار متواصل للتخصيب والتلقيح، من أجل التجاوز والقطيعة، وبهدف إنتاج أعمال كبيرة، ولكن الأعمال الكبيرة والقوية لأدبائنا الكبار تبقى لها أهميتها ومكانها الوازن، رغم كثرة النشر الرقمي، الذي يتيح إمكانية التعرف على مخاض القصيدة وآلامها. هذه فقط ملاحظات رجل يعاشر كائنات الظل، ويسجل ما يقوله الصمت في ضجيج عالم يمشي مقلوبا.

****

النوارس قد تترافق الريح، وقد تحلق في سماء غائمة، ولكنها تصدر أصواتا، قد يكون غناء، وقد يكون بكاء، لكنها لا تحط في نفس المكان. هكذا الكتابة الومضة، القصة القصيرة جدا، وشعر الهايكو، كائنات ولدت بشكل قيصري، من رحم القصيدة، وهي تمرد وصراخ ضد الملحمة والقصيدة العمارة، وغيرها. وبالمناسبة لا أتفق على أن الهايكو هو تطور لقصيدة النثر،أو هو منفصل عنها،كما لست متفقا على أنه شعر ياباني بوجه عربي لأن هذا التوصيف محكوم بخلفية تقليدية، تنظر إلى الأدب انطلاقا من مقاييس معينة، في حين أن العولمة فتحت الأدب على كل الأفاق والجغرافيات، وهذا نقاش آخر.كما أن بعض قصائد النثر نجدها تضم نصوصا قصيرة، قد نسميها هايكو، أو شيء آخر.وهذا عمل النقاد والمتتبعين بشكل نافذ للنصوص القصيرة،سواء كانت أقصوصة أو ومضة، أو هايكو،أو غير ذلك.
وللإشارة فقط فإن نصوص الهايكو، كما هو معروف، هي من أصول أسيوية ويابانية على الخصوص. نصوص مضغوطة ومكثفة، وتحتاج إلى دراية كبيرة، واستيعاب كبير للثقافة اليابانية، ولبلاغة الهايكو الياباني، ففي قصرها أو صغرها، تكمن صعوبتها، كما لها قواعدها وتراكيبها ونظامها الخاص. وهنا يجب الرجوع إلى مجموعة من الدراسات الأكاديمية في هذا الميدان. وشعر ينتصر للصمت وإلى البياض، أكثر مما يميل إلى الموسيقى، كما لجأ إلى ذلك اليونان مع هوميروس الأعمى،حيث اعتبروا الشعر موسيقى، وهو ما أسعف خورخي لويس بورخيس إلي التأثر بها ونقلها إلى أمريكا اللاتينية وإلى الشعر الأمريكولاتيني.
وبالنسبة لنا في المغرب، فنلاحظ حيوية كبيرة في كتابة ونشر الهايكو، وعقد لقاءات حوله. وهو ما سيمكن من تطوير هذه التجربة وصقلها، وفتحها على آفاق جديدة. وبدون شك فالإقدام عليها والتورط فيها ليس مرده إلى اقترافها كموجة جديدة، ولكن لعلاقتها بالسرعة في القراءة من جهة، وبالصورة والفنون التشكيلية من جهة أخرى.

****

كل المؤشرات تبين أن المستقبل للنشر الرقمي، وتراجع الكتاب الورقي. وذلك من خلال الارتباط العضوي الذي أصبحنا نلاحظه في العالم، في علاقة الإنسان والمجتمع بالموارد الرقمية، ودورها في الحياة. وذلك لعلاقة الإنسان بأجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة وغيرها. بالإضافة إلى سرعة المعلومة وسهولة الحصول عليها، كما بإمكان نقرة واحدة في مكتبات العالم الرقمية أن تساعدنا على قراءة آخر المنتوجات الإبداعية والثقافية. وهو ما أصبح لا يحتاج للمرور من الناشر والمطبعة، وغيرها من تقنيات وصناعات الكتاب الورقي، الذي يحتاج إلى وقت طويل. بالإضافة إلى دور النشر الرقمي في الترجمة الفورية، والتي كانت من بين أسس النهضة وشروطها في النقل والانتشار، وفي سرعة الانتشار.
وبالرغم من ذلك يبقى للكتاب الورقي جماليته وأهميته في التواصل مع الكتابة والكاتب من خلال الورق ولمس الورق والحفاظ على الكتاب وعلى قدسيته، في حفظ الحضارة الإنسانية بشكل عام. وبالرغم من سيادة العالم الرقمي والنشر الرقمي على الخصوص فإن الكتاب الورقي، سيحافظ على مكانته الرمزية في الكتابة. وأشير هنا إلى أن أهم الأجناس والمجالات الأدبية كانت تحتاج إلى الكتاب،مثل المقالة والمقامة والخطبة، وغيرها.
لكن هناك تحديات يعيشها الكتاب الورقي اليوم، تتمثل أساسا، في انتشار المكتبات الرقمية في مختلف المجالات والحقول. كما أن جميع عمليات التخزين أصبحت تعتمد العمل الورقي. بل أكثر من ذلك أن الكتاب الورقي يحتاج إلى المصدر الرقمي، بهدف الترويج والتسويق له، وإلا حكم عليه بالفشل والتهميش.

اجرى الحوار: عبد العالي بركات

Related posts

Top