تعد الشخصيةُ عنصرا من عناصر الخطاب السردي، تشغل دورا رئيسا في سرد القصة، إذ يصعب العثور على عمل سردي دون شخصية، حتى وإن كانت درجة حضورها تختلف من عمل لآخر باختلاف مراحل الكتابة السردية، لكنها تظل حاضرة أبدا بصورة من الصور وبأشكال متعددة. فالشخصية، في أعمال روائية ونقدية كثيرة، لم تعد ذلك العنصر المحيل على الإنسان في الواقع بلحمه ودمه، بل أضحت، مع الباحث الفرنسي رولان بارت، كائنا من ورق لا نهتم به إلا من خلال ما يقوله في العمل السردي، فحضوره متوقف على ما يصدر عنه ويفعله داخل العالم الروائي، لتتطور تقنيات الكتابة السردية، فيغدو معها مفهومُ الشخصية مجردَ رقم أو حرف، كما تقدم لنا بعض أعمال كافكا، أو مجردَ ممثل يضطلع بأدوار عاملية منفردة أو متعددة داخل خطاب سردي، ما يجعل من “القوى الفاعلة” تعبيرا أعمَّ من الشخصية؛ لأن القوى الفاعلة ليست مرتبطةً بالإنسان وحده، وإنما يمكن أن تكون إنسانا، أو حيوانا، أو مكانا، أو مفهوما مجردا… بيد أن حضورَ الحيوان وإسنادَ فعل السرد له حاضران في السرد العربي القديم، كما نلفي في”كليلة ودمنة
لابن المقفع، و”القائف” للمعري.
ومن ثم، نود أن نركز حديثنا هنا على الشخصية الرئيسة في رواية “التبر” للكاتب الليبي إبراهيم الكوني: المهري وأوخيد. فشخصية”المهري” تدفع إلى بسط التساؤل الآتي: ما دلالة هذه الشخصية؟ أهي رمز يشير إلى حيوان، كما في خطاب الرواية، أو إنسان، أو مكان، أو قيمة، أو عقيدة… ؟
يقول الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض: “إن شخصية الرواية لا تتحدد في الغالب، بالعلامة التي تُعلم بها، ولكن بالوظيفة التي تُوكل إليها” (في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد:ص87). فأي وظيفة وُكل بها المهري الأبلق؟ وأي دور أُسند إليه؟ هل اسم المهري وصفاته وأفعاله الغريزية، داخل الرواية، تسعفنا في الحسم في كونه شخصيةً حيوانيةً؟ ومرد هذا التساؤل إلى نسبية الشخصية واسمهما في العمل الروائي؛ إذ قد “يطلق روائي اسما جميلا جدا على شخصية شريرة جدا في عمله الروائي، نكاية في القارئ وتعتيما للأمر عليه؛ فلا تراه يهتدي السبيل إلى اللعبة إلا بعد انتهائه من قراءة الرواية” (مرتاض:ص87). فنسبية الشخصية في الرواية ستدفعنا إلى تأويل حضور “المهري” واعتباره رمز إلى الصحراء، والاتحاد بين روحه وروح شخصية أوخيد نقدمه بحسبانه اتحادا وحلولا بين روحين: روح المهري (الصحراء) وروح الإنسان البدوي المترحل. وهذه العلاقة الحلولية الصوفية ستجعل من المرأة والولد ملذات الحياة لا قيمة لها أمام الزهد والتحرر من قيودها. ذلك؛ لأننا نرى أن في المرأة والولد رمزا للاستقرار، وهذا منافٍ لطبيعة الإنسان الصحراوي الذي يرفض العيش في الواحة، إذ “كل سكان الواحات عبيد، لا يقوم وراء جدار أو كوخ إلا عبد. وهو عبد فريد لأنه أعمى. عبد لا يرى عبوديته. عبودية الروح”(التبر:ص127). كما أن الحلول بين شخصيتين مختلفتي الطبيعة، قد جعل السارد يقوم بشخصنة الحيوان وتسريده وتقديمه بصفته صديقا، وبعده أخا بالدم يشارك أوخيد الإنسانَ أحاسيسَه وآلامَه وأوجاعَه، وينفذ الوصية حتى وإن كانت إيماءً وإشارةً.
وهكذا، يمكن القول إن “المهري” تمثيلٌ وتجسيدٌ لقيم الصحراء ولمكانتها العميقة في نفوس ساكنيها؛ لأن علاقتها بهم تتراوح بين التأثر والتأثير، ما يجعل القيم التي يفرضها المجتمعُ زائفةً وخاويةً من المعنى؛ فالمرأة تغدو”الوهق الذي خلقه إبليس كي يجر به الرجال من أعناقهم” (التبر:ص111-112)، والولد “اللعبة التي يتلهى بها الأب معتقدا أن فيها الخلود والخلاص في حين تحمل فناء عمره وخراب ماله” (التبر:ص112، والعار هو “وهم آخر اختلقه أهل الصحراء كي يستعبدوا أنفسهم ويكبلوا رقابهم بمزيد من القيود والحبال” (التبر:ص112).
ومن ثم، يكون السبيل للتحرر من هذه القيم وقيودها هو التمسك ب”المهري”، بالصحراء وما يرتبط بها من قيم الصبر والتحرر، فهي تحلُّ في إنسانِها وهو يحلُّ فيها.
* كاتب مغربي
المصادر والمراجع:
– إبراهيم الكوني: التبر، ط3 1992
– عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة دجنبر 1998م
الشخصية وقيمها في رواية “التبر” للكاتب الليبي إبراهيم الكوني
الوسوم