عندما نتحدث عن مسؤولية النظام الرأسمالي عن الموت والدمار والمرض، يظن البعض أننا أصبنا بمرض الأفكار والمعتقدات السائدة…
لن أتناول ما يمكن وضعه في إطار نظرية المؤامرة. سأحيلكم إلى تجربة لبنان، وفي كل الأحوال تجربة ايطاليا وفرنسا لا تختلف إلا بالكم…
العلاج الأساسي يستلزم العزل والتعقيم وهذا ما يستلزم موادا مكلفة وعرضة للاحتكار ولمنطق الربح السريع وبالتأكيد هنالك نصف الشعب اللبناني، وأجزم حوالي ثلث الأوروبيين غير قادرين على تأمين شروط العزل الصحي…
وأيضا المنظومة الصحية، ترتكز على القطاع الخاص ومنطق الربح… حتى الفحوصات تحتاج الى 150 ألف ليرة للشخص الواحد، فكيف للعائلة؟
إن النظام الرأسمالي يؤمن شروط انتشار الوباء ولا يؤمن إمكانية معالجته، هذا إذا لم نحتسب تأثير الحصار الذي تمارسه الامبريالية على بعض الدول (الشعوب) من إيران وفنزويلا ولبنان، وليست كلها بقدرات كوبا ونظامها الصحي…
لنقارن كل ذلك بما قدمته الصين لشعبها ونستنتج الفرق…
في مواجهة كل الحروب والكوارث، كانت الرأسمالية العالمية إما مسببا، أو حاجزا عن المواجهة أو متاجرا بالكارثة باتجاه الربح…
حتى في مجال إنتاج الأدوية والعلاج، وتحت شعار “السر العلمي”، أي محاولة احتكار المعرفة، كانت السلطات (الرأسمالية) تمنع التفاعل والتواصل وتسبب التأخير في إنتاج العلاج… هذه هي ممارسة ترامب وجونسون في التعاطي مع موضوع الكورونا اليوم، ليس في العالم، بل حتى في بلدانهم…
الشعب الأميركي يدفع ثمن السياسة النيوليبرالية في المجال الصحي وغياب منظومة صحية وطنية، والثاني يحاول تدفيع الضعفاء في صحتهم (كبار السن) والفقراء كلفة الحد من خطر الكورونا، إنه التعبير السياسي للمالتوسية الجديدة…
وكما الأمراض كذلك الحروب، في أزمتها الأولى فجرت الرأسمالية الحرب العالمية الأولى، علها تستطيع عبر وراثة العثمانيين حل أزمة أوروبا المأزومة وفي أزمتها الثانية فجرت الحرب العالمية الثانية وخلقت الكيان الصهيوني لتكريس نهبها لثروات العالم الثالث ومعها تثبيت الزعامة الأميركية للامبريالية الجديدة، وهي (أي الرأسمالية) كانت قد أنتجت النازية والفاشية ومن ثم ورثتها…
الشيوعيون، كانوا على الدوام دعاة وحدة البشرية في مواجهة الكوارث، فالإبداع الماركسي لم يكن خاصا بشعب بعينه أو دولة بعينها، ولم يخف النظام الاشتراكي إنتاج العلماء، في كافة المجالات وأسسوا لانطلاق المواجهة الشاملة للنازية والفاشية (ولمن يجهل، دون سياسة الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين، لم يكن ممكنا إنشاء القوة العالمية المواجهة) …
حتى لا نتوسع في التاريخ، ها هي الصين التي دفعت الثمن الأكبر لتفشي فيروس الكورونا، تعمل لمواجهته ليس داخل الصين فقط بل في كل العالم…
بداية، أؤكد أنها أفكار أولية للنقاش ولذلك لا أدعي الحقيقة فيها…
ستشكل “كورونا” تحولا في منظومة القيم والمفاهيم الاقتصادية والاجتماعية، كما الفكرية والأخلاقية، تماما كما شكلت محطات تاريخية (حديثة بمعنى وقوعها في مرحلة الرأسمالية، على تقويم كارل ماركس)، مثل الحربين العالميتين في السابق… وليس صدفة ترافق ذلك مع أزمة الرأسمالية، سواء في مرحلة الصعود إلى الإمبريالية، التي بشر لينين بأنها ستكون أعلى مراحلها، أو في إطار إحدى أزماتها الكبرى التي أنتجت الحرب الكونية الثانية التي نقلت مركزها من العجوز أوروبا إلى أمريكا الفتية…
طبيعي أن تترافق هذه التحولات الاقتصادية والسياسية مع نظريات يمينية ومبررة لها في الفكر وحتى في تأويلات العلوم. هكذا استندوا إلى مالتوس ونظرياته السكانية لتبرير الفكر النازي والفاشية، وهكذا استغل الأميركي علم الفيزياء النووية من أجل استخدامها لصنع السلاح النووي و”تجربته” في مئات الآلاف من الضحايا في اليابان، هيروشيما وناغازاكي، ليثبت تفوقه العسكري إيذانا بنقل مركز الإمبريالية إليه…
طبعا أدى هذا إلى خلق أزمة حقيقية على مستوى أخلاقيات العلوم دفعت أهم العلماء، منهم اينشتاين وماري كوري، للنشاط من أجل وقف الحرب والتفكير بنمط جديد من أخلاقيات العلوم، والذي لم تحترمه الولايات المتحدة بكل الأحوال…
أما على المستوى السياسي، أحدثت هذه الحرب منهجين متصادمين أدى التوازن بينهما (على المستوى العسكري) إلى عدم تحول الصدام إلى حرب عالمية ثالثة. وأدى هذا التوازن (مرحلة الحرب الباردة) إلى تغيير في نمط ممارسة النهب للثروات من النهب والوجود المباشرين، إلى نمط فرضته الشعوب، بمساعدة الاتحاد السوفياتي، وأدى إلى موجة حركات التحرر والاستقلال الوطني من جهة، ولكن من جهة أخرى أدى إلى تغييرات جيو- سياسية، حرصت الإمبريالية معها على خلق كيانات ومراكز في كل العالم تساعدها في عملية النهب (الاستعمار غير المباشر) والذي ارتكز على وضع أسس النظام الاقتصادي المشرع للنهب بواسطة الاقتصادات التابعة…
في منطقتنا كان لنا حصة أساسية من سياسة النهب الجديدة عبر تأسيس الكيان الصهيوني ومجزرة اقتلاع شعب فلسطين، ومن جهة أخرى عبر تكريس دويلات و”مزارع” النفط التي مهدت لها بريطانيا كما اغتصاب فلسطين واستكملتها الولايات المتحدة…
بعد ذلك وتحديدا بعد تشرذم الاتحاد السوفياتي، شهدت البشرية مرحلة انتقالية من أسوإ المراحل، يمكن تسميتها بمرحلة وهم “فوكوياما” وتنظير الجريمة لـ “هاتننغتون”…
قرأت في المدة الأخيرة العديد من المقالات تتحدث عن مرحلة ما بعد الكورونا في العلم والسياسة والاقتصاد وبشكل خاص المقارنة بين ممارسات الولايات المتحدة وأوروبا وبين ممارسة الصين وكوبا، وبالتالي محاولات تعميم المقارنة لتطال النظامين الرأسمالي والاشتراكي وبشكل خاص الجوانب الإنسانية. ولم يستثن النقاش الدين ومقارنة أخلاقياته وممارسته بما هو سائد…
ولعل الدراسة الأوسع والأكثر جدية هي التي شارك فيها عدد من رجال الاقتصاد والسياسة من العديد من دول العالم وتشكلت من أجوبتهم على سؤال: “كيف سيبدو العالم ما بعد الكورونا؟” وجمعت مجلة (الفورين بوليسي) في عددها الأخير، في تقرير واسع، لن نناقشه اليوم طبعا، الكثير من الأفكار التي عرضناها وأخرى لا نوافق عليها ولكنها جدية وتستحق النقاش.
سأستعرض بشكل سريع ما ميز المرحلة الانتقالية، وخاصة على المستوى الفكري. لن أتناول النتائج بالمعنى الحديث (انهيار المنظومة الاشتراكية) بل انتمائها الفكري. الأبرز في هذا المجال نظريتان: نظرية نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية كنظام أبدي للعالم، ونظرية صراع الحضارات والتي شكلت الخلفية الفكرية للممارسة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة منذ الثمانينات حتى الآن. هاتان النظريتان دفعتنا لنقاش جدي مع كل حرب تعلنها الأمبريالية وبشكل خاص بعد انهيار التوازن القديم وبذلك اعتقدوا (منذ بوش)، أنهم قادرون على استبدال الاستعمار غير المباشر بالعودة إلى التواجد العسكري المباشر تحت عناوين مثل تعميم الديمقراطية (الحضارة الغربية)، وهنا يحضر هتنغتون للتبرير النظري ولتعميم الإسلاموفوبيا كخلفية لهذه الحروب، بما يقتضي ذلك من خلق ودعم المنظمات الإرهابية وادعاء محاربتها… وليس في الشرق الأوسط فقط بل في كل العالم، من لم يستطيعوا مواجهته “بالديمقراطية” فبدعم الإرهاب كما في أميركا اللاتينية وبحصار وتجويع “المتمردين” كما في كوبا وفنزويلا وروسيا والصين وإيران ولا ننسى سوريا حيث اختلطت الأدوات…
وكان لا بد للسياسة الجديدة من مشروع “مارشال” جديد يضم إلى شعار عدم السماح بعودة الشيوعية، شعار مواجهة الأنظمة “المارقة” ومواجهة الديكتاتوريات وتقديم شعار فسادها، فمن لا يتم إخضاعه بالحروب، يتم إخضاعه بالثورات الشعبية (الملونة). جاء ساويرس ليستكمل مارشال موجها وممولا، وجاءت مؤسسات المجتمع المدني، تستبدل الأحزاب وبشكل خاص أحزاب اليسار، وتقوم بعملية “الثورات” وإتمام الاستبدال الطبقي للأنظمة “منتهية الصلاحية”…
طبيعي أن تكون الأحزاب الشيوعية واليسارية، الميدان الطبيعي لممارسة مارشال الجديد، عبر لبرلة الشعار والتنظيم والتسلل إلى خلايا الأيديولوجيا وزرع “الفيروسات” الفكرية فيها. والأسوأ كان استعمال الدخول الناعم، تحت شعار مراجعة نقدية للماركسية (وهذا نجده في الماركسية نفسها) عند البعض إلى تشويه الفكر وجعل “التجديد” مسوغات للتخلي، وإظهار الماركسية وكأنها محتضنة للإرهاب والجمود.
جاءت شعارات التخلي عن الصراع الطبقي ومنطق الثورات الشعبية والديمقراطية “البرجوازية” وغيرها من الشعارات والتي كان أخطرها الترويج للعولمة، بديلا لمفهوم التضامن الأممي وإضفاء الطابع “العصري” للشعارات والممارسات التي تستهدف التخلي عن الطابع الثوري لأحزابنا، حتى شعارات مثل “المقاومة” أصبحت خشبية وموضع تشكيك…
في المنطقة كان لنا حصة كبيرة من هذه المرحلة التي جاء احتلال العراق قمة جانبها العسكري، وجاءت “الثورات المضادة” بالاستناد إلى “المجتمع المدني” و”الإسلام المعتدل دولا وتنظيمات”، جاءت لتصادر الانتفاضات الشعبية بشعارات ساوروس و”ثوراته الملونة” والأخطر في ” الفكر الجديد” هو الترويج لعملية “التطبيع” مع العدو الصهيوني كشعار خلفي لما هو معلن من “التربية على السلام” و”الديمقراطية” ومن تكامل الشرق الأوسط وغيرها من الشعارات الناعمة…
في متابعة للنقاش حول ما بعد الساعة صفر بعد الكورونا، لا بد من التذكير بأن النظام العالمي الانتقالي (القطب الواحد ونهاية التاريخ)، لم يبدأ بالانهيار اليوم… أزمة النظام الرأسمالي العالمي وصلت إلى واحدة من ذرواتها عام 2008 وفي المركز بالذات، وهذا ما دفع النظام الأميركي ليصبح أكثر يمينية ويزيد من خطواته لنهب ثروات العالم وتحديدا الشرق الأوسط، ودفعه أيضا للتخلي عن الكثير من التزاماته تجاه حلفائه وبشكل خاص تجاه أوروبا… وشهدت هذه المرحلة في السنوات الأخيرة استنهاض الدول رافضة القطبية الواحدة وبشكل خاص شهدت تقاربا روسيا صينيا، كنواة لمحور اقتصادي عالمي جديد (البريكس)…
في منطقتنا كانت السياسة الأميركية قد بدأت تعاني من تكون محور مواجه لها وإن تعددت الأسباب وتمايزت الاتجاهات داخل هذا المحور مما دفع هذه السياسة للانكفاء، رغم ما حققته سابقا من إنجازات…
وعلى المستوى الفكري وخاصة عند قوى اليسار، تراجعت إلى حد كبير تأثيرات الفكر الانحرافي المعولم، ولا أقصد هنا فقط الاتجاه الذي التحق بهذا الفكر اليميني (فهو قد أصبح يمينا رغم الأسماء)، بل أقصد الذين روجوا لأفكار توفيقية (تحمل بذور الانحراف) وأساسها إيجاد زواج قسري بين العولمة والتضامن الأممي أو بين الماركسية وإلغاء الصراع الطبقي وتشويه مادية ماركس التاريخية أو الترويج لفكر اشتراكي ديمقراطي أكل عليه الزمن حتى في بلاد المنشأ…
إذن انهيار هذه المرحلة بدأ قبل الكورونا، وها هو بعدها يتجه بسرعة نحو هاويته…
تعليقات كثيرة مرت ومليئة بالأخلاق، وبشكل خاص المقارنة بين نظام رأسمالي لا ينشد إلا الربح ليس على حساب فقراء كل بلد فقط، بل على حساب فقراء العالم، نظام ينتج الحروب وينشر الأمراض ويهمل الصحة ويحولها إلى سلعة، نظام يترك حلفاءه في أزمتهم ويبتز الآخرين للتعويض عن أزماته الاقتصادية… بين هذا النظام والفكر الاشتراكي الذي يدعو إلى تضامن أممي إنساني، يواجه الحروب والأمراض وغضب الطبيعة…
لن أسترسل هنا وسأنقل بأمانة أفكارا واحتمالات عرضها مفكرون وسياسيون لا ينتمون بمعظمهم إلى الماركسية. سأعرض هذه الأفكار بشكل خام ودون ترتيب كما قرأتها، وكما وردت في تقرير “الفورين بوليسي” :
> فشل الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، في قيادة العالم وتحول الدفة إلى الصين ودول جنوب شرق آسيا…
> النظام العالمي وتوازن القوى سيتغيران بشكل كبير..
> انتهاء نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد المتبادل والبحث عن سلاسلتوريد محلية…
> نسف القواعد الحالية لعمليات التصنيع والإنتاج العالمية…
> فشل المؤسسات الدولية في القيام بدورها الذي كان متوقعا في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة…
> توقع تفكك الاتحاد الأوروبي بعد غسله في مواجهة الأزمة على مستوى أعضائه…
> مزيد من الانكفاء على الداخل وتراجع القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك…
> تقوية مفهوم الحكومة المركزية وتعزيز قبضة الحكومات دون معارضة…
> قوة الروح الإنسانية ونجاحها في مواجهة الخطر…
> المنتصر في الحرب ضد الكورونا سيكتب التاريخ ويحدد المستقبل بشكل كبير…
> سيكون العالم أقل انفتاحا، أقل حرية، أكثر فقرا…
هذه الأفكار لخصتها المجلة عن آراء هؤلاء المفكرين والسياسيين (أكرر غير الماركسيين) وهي أفكار تستحق مع غيرها الكثير من النقاش.
وسأحاول وضع الاحتمالات في كل جانب، بتوافقها وباختلافها، مع ما أراه من احتمالات غير واردة… المتفق عليه في الآراء التي وردت، والتي لم ترد أيضا، أن العالم القديم بنظامه (الأميركي السيطرة)، قد انتهى ومعه سقوط المفهوم الممارس للعولمة الاقتصادية التي تعني تركز رأس المال العالمي بيد شركات عابرة مركز القرار ومركزها في الولايات المتحدة، بما يعنيه ذلك من سقوط مذو للنظام الرأسمالي كنظام عالمي سائد، وهذا لا يعني سقوط الرأسمالية المباشر بقدر ما يعني دفن نهائي للرأسمالية، ويعني أن الاشتراكية لا زالت هي الحل، ونحن لم يخطر لنا غير هذا الحل، لا على المستوى الشخصي ولا في حزبنا خصوصا بعد المؤتمر السابع، حيث حسمنا النقاش (قبل عودة بعض الأفكار مؤخرا).
أما هل أن الاشتراكية ستكون حلا تلقائيا؟ حتما لا.. ستستعيد أفكار ماركس ولينين وغيرهما من مفكري الاشتراكية دورها في صراع إيديولوجي وسياسي، وقد يكون بأساليب أخرى، لأن قوى رأس المال ستلجأ حتما لكل أسلحتها على أنواعها وأكثرها لا أخلاقية، في محاولة للاستمرار في المرحلة الأولى واستعادة المبادرة والسيطرة في مرحلة ثانية…
وإذا عدنا إلى ما تحدث به البعض (غير الماركسي) حول العولمة، نلاحظ تفاوتا في التوصيف، من قول وزير خارجية سنغافورة السابق (كيشور محبوباتي): “سنشهد تحولا في العولمة من عولمة تتمحور حول أميركا إلى أخرى تتمحور حول الصين”، إلى قول الاقتصادي دوبين نيبالت: “يمكن أن يكون كورونا القشة التي قصمت ظهر بعير العولمة الاقتصادية”. الثاني ينعي العولمة كإطار اقتصادي، بينما الأول يختصر التحول بتغيير المحور…
بالنسبة لي أعتقد أنه سواء كان تغييرا كاملا أو تغييرا للمحور، فإن هذا النظام العالمي قد انهار، ليس بسبب الكورونا فقط، بل إن الوباء جاء ليكشف الأسس الاقتصادية والأخلاقية لهذا الانهيار الذي كان قد بدأ…
الخلل الثاني في هذين الرأيين القصوويين، هو محاولة تجاهل دور الفكر الاشتراكي ومحاولة حصر الدور الصيني (مع تجاهل الكوبي) بأنه يأتي في إطار معركة الاستقطاب الصيني لعولمة جوهرها مستمر وقطبها مختلف أو متصارع عليه…
المادة الثانية من النقاش هي حول الجغرافيا السياسية للعالم ما بعد الكورونا. هنا أيضا تتباين آراء المحللين وإن اتفقت حول مقولة الانكفاء إلى الداخل لعدة سنوات، ولعل الانسحاب الفرنسي الكامل والأميركي الجزئي من العراق يعطي حجة لأصحاب هذا الرأي. ويصل هذا الرأي بأقصاه إلى حد توقع انفراط التكتلات الإقليمية وتحديدا الاتحاد الأوروبي وتعاظم دور الحكومات الوطنية…
أنا أعتقد أن شكل الصراع في العالم سيتغير، وممارسة السيطرة الإمبريالية سيتغير أسلوبها وربما مما توقع جون ألين وهو جنرال أميركي سابق: “سيتعرض النظام العالمي لضغط كبير ينجم عنه عدم الاستقرار وخلافات بين وداخل الدول”، ما ورد يفضحه ما يمارسه ترامب وإدارته كل يوم.
الكونغرس أقر سياسة التريليونين لدعم الاقتصاد الأمريكي، بعد زيارة بومبيو للسعودية (ولا نعرف ما هي الخطوة التي فرضها) وأيضا تصعيد الضغط على أميركا اللاتينية من فنزويلا إلى كوبا وغيرها من احتمال اشتعال الحروب الأهلية في أكثر من مكان ومن سعي حثيث لاستعادة دور الكيان الصهيوني في المنطقة كبديل لاضطرار أمريكا لتخفيف وجودها المباشر..
أما بخصوص الاتحاد الأوروبي فهو حتما لن يستطيع الاستمرار بصيغته الراهنة وهذا ما يظهره ليس الموقف البريطاني السابق من كورونا فقط، بل أيضا رفض ألمانيا للخطة الصحية الأوروبية التي عرضها ماكرون يؤشر على عدم إرادتها (أو عدم قدرتها)، على مساعدة الجنوب الأوروبي، إسبانيا وإيطاليا، على الخروج من المحنة.
هل سنعود إلى مرحلة الدول المستقلة؟ من المبكر الحسم بأي اتجاه ستسير الأمور. الأكيد أن السائد اليوم لن يستمر وانهياره طبيعي مع أزمة النظام الرأسمالي العامة ولكن بأي اتجاه؟
أبسط الاحتمالات التي أراها هي استعادة الحكومات الوطنية لجزء كبير من الصلاحيات التي أخذها الاتحاد الأوروبي وأقصاها العودة الكاملة لاستقلالية الكيانات، وما بينهما نشوء محاور بين الدول الأكثر تقاربا، فتحاول فرنسا أن تشكل محورا بقيادتها مع دول جنوبي أوروبا وتستعيد ألمانيا السيطرة على بعض دول شرق أوروبا في استعادة لأحلام إمبراطورية بروسيا ومشاريع هتلر وتبقى بريطانيا بهمومها مع تصاعد إمكانية استعادة روسيا لدورها في بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق الأوروبية كما الأسيوية…
في كل الحالات، إذا لم يكن موت النظام الرأسمالي فهو حتما التشظي الذي لا يجعل، كما قلنا، الانتقال إلى الاشتراكية تلقائيا، بل يستدعي التهيؤ لمعركة قاسية وقد تكون طويلة…
ولكن الحلم تحول اليوم إلى أمل بل إلى هدف واقعي، لنعد له العدة كما لنا سلاحنا الفكري، الماركسية اللينينية، فأيضا على المستوى السياسي والتنظيمي وكافة الأشكال…
ينبغي التحذير من العيش على تلقائية سقوط الرأسمالية، وعلى تلقائية انتصار الاشتراكية. فالنظام العالمي، الذي ساد في المرحلة التي تلت انهيار المنظومة الاشتراكية، هو الذي انتهى (ونهايته بدأت قبل الكورونا وحتما ستتسارع بعده) وهذا لا يعني نهاية النظام الرأسمالي، بل الواقعي القول إن هذا النظام أظهر الحد الأقصى من اللاأخلاقية، من احتقار الوجود الإنساني، من أولوية الربح و”الاقتصاد”، على حياة الناس وصحتهم وقوت أطفالهم، وبالتالي فإن المرحلة ما بعد الساعة “صفر” ستشهد فترة قد تكون طويلة من الصراع ما بين عدة أنماط وجبهات…
النظام الرأسمالي سيحاول حتما الدفاع عن نفسه كنموذج اقتصادي وسيحاول تخطي هذه الأزمة (كما تخطى قبلها العديد من أزماته البنيوية) وربما قد نجد عدة نماذج من هذا الطرح، تتراوح من العودة إلى كينزية جديدة تعيد بعض المسؤوليات في الرعاية الاجتماعية للدولة على حساب القطاع الخاص، وهذه الأفكار تسود اليوم في الصحافة اليمينية والاشتراكية الديمقراطية في أوروبا وبعض الإعلام الاميركي… أما الاتجاه الآخر فسيمضي بالمكابرة واعتماد سياسة هجومية، وهذا ما يمثله الاتجاه اليميني المتطرف والذي سيحاول طرح شعارات شعبوية تذكر بـ “اشتراكية هتلر” وربما بعض اليمين الحاكم اليوم سيتجه هذه الوجهة، والشعارات التي يعتمدها ترامب وجونسون لن تكون بعيدة عن هذا الاتجاه…
هذان الاتجاهان وخاصة الاتجاه الأول، سيحاول طرح شعارات تضع المسؤولية على “النيوليبرالية” ومحاولة تمييزها عن الرأسمالية، ولكن نقطة الضعف بهذين الاتجاهين هي حقيقة أن الذي انكشف سقوطه، هو نمط الملكية والعلاقة مع القوى المنتجة وبشكل خاص البشر ووجودهم واقتصاد السوق وطبعا هذا جوهر النظام الرأسمالي …
يبقى ما هو متعلق بنا.. إن محاولات الفكر الرأسمالي أمامها تحديات كثيرة، عدا عن الذي قلناه سابقا، فانهيار الاقتصاد العالمي أو الانكماش الاقتصادي، لن يطالا الرأسماليين فقط، بل هما بانعكاساتهما الاجتماعية سيطالان العمال، حيث سيصبح قسما أساسيا منهم عاطلين عن العمل وسيتعرض من يبقى منهم للابتزاز بحرمانهم من حقوقهم تحت ضغط الاستمرار بالعمل، وهذا سيخلق عدة ردات فعل منها ما هو فردي أو فقدان الوجهة والالتحاق بالتطرف اليميني وتحميل المسؤولية للعمال الوافدين من الخارج، وهنا مسؤوليتنا ومسؤولية النقابات العمالية، في العمل على تأطير العمال (والمعطلين عن العمل) وتوجيه نضالهم باتجاه تقويض أسس النظام الرأسمالي وبأن الاشتراكية هي الحل.
فبعد الكورونا سنكون أمام حقيقة الصراعات الاجتماعية الحادة بين من هم (فوق) وهم الأقلية، وبين من هم (تحت)، كما عبر أحد منظري الاشتراكية الديمقراطية الفرنسيين (جيروم فوكيه)، موصفا الوضع بالصراع حتى على مستوى الموقع من الإنتاج نفسه، حتى بين القوى العاملة، واصفا الصراع بالصراع بين أصحاب البزات البيضاء الذين يعملون بشكل آمن في بيوتهم (فوق) وبين العاملين اليوم في أماكن عملهم غير الآمنة تجاه الوباء (تحت)…
علينا البدء منذ اليوم بصياغة خطتنا في الصراع على كل المستويات الفكرية والسياسية، كماركسيين لينينيين، وبناء تحالفاتنا الشعبية على هذه القاعدة، فالوضع لا يحتمل الشعبوية وعدم بذل جهد حقيقي خاصة على المستوى الفكري…
على مستوى العالم العربي ليس جديدا أن دور الجامعة العربية بدأ بالتلاشي منذ غياب عبد الناصر، إذ أن السيطرة السعودية على القرار هي سيطرة غير موضوعية، حيث أن وجود هذه المؤسسة ارتبط بتوازن أساسه العلاقات المصرية-السورية، وحيث شكلت القضية الفلسطينية نقطة الارتكاز فيها… لا الموقف السعودي من القضية الفلسطينية ولا علاقاتها مع بقية الدول العربية أهلتها لترث هذا الدور، ورغم وزنها (المالي) الكبير، لم تستطع أن تلعب الدور القيادي فيها…
والسؤال اليوم إلى أي مدى سيستكمل هذا الانهيار؟ إذا كان الاتحاد الأوروبي، بتكامل وظيفته السياسية والاقتصادية، قد أصبحت جدواه موضع مراجعة حتمية بعد الكورونا، فهل ستصمد مؤسسة فقدت وظيفتها ودورها (الضعيف أصلا)، هل تستطيع مثل هذه المؤسسة الاستمرار؟ تقديري أن هذه المؤسسة ستنتهي شكلا بعد أن فقدت مضمونها… السؤال المطروح وماذا بعد؟
لنبدأ أولا بالأنظمة والكيانات العربية، تلك الأنظمة التي تعرضت لاهتزازات مزدوجة المصدر، الاعتداءات الخارجية من جهة والانتفاضات الشعبية من جهة أخرى وما بين الاثنين من ترابط ولو جزئي، أقله ارتباط ما أسميناه بالثورات المضادة داخل الانتفاضات، ارتباطها بمنطق (وتخطيط) مسوقي وداعمي الثورات الملونة وبالتالي انتهاء قسم منها بالاكتفاء بالاستبدال الطبقي للسلطات القائمة وارتماء قسم آخر في سوريا وليبيا كمثال في خطة الحرب الأميركية على المنطقة، وهنا يجب الحسم بأن هذه الانتفاضات، ولو رغبت أقليتها، لا تستطيع ولا تطرح أمام نفسها مهمة أن تكون طليعة حركة تحرر وطني من نوع جديد. إن أي استنتاج بهذه الوجهة وحتى لو عبر عن رغبة صادقة، هو استنتاج قاصر ويفتقد للرؤيا والتحليل الجدلي الصحيح…
إذن المنطقة قادمة على تحديات جدية، فمن جهة أن أسباب سايكس-بيكو وخلق الكيانات المفتعلة بما في ذلك اغتصاب فلسطين، الأسباب المتمثلة أساسا بالثروة والنفط والموقع، هذه الأسباب لم تزل راهنة، ولذلك فإن التوقع الأساسي هو تصاعد العدوانية الأميركية في المنطقة وتشديد الضغوطات من أجل استمرار التحكم خصوصا في منطقة الخليج، وبالتالي فإننا قادمون حتما على مرحلة جديدة من الصراع، تتزاوج فيها عسكرة المنطقة ومحاولة استعادة وظيفة الكيان الصهيوني، وما الرعب الأميركي من انخفاض سعر النفط إلا دافعا للمزيد من العدوانية…
في الجانب الآخر الأقل سوادا، فإن انهيار نظام العولمة بشكله السائد والمترافق مع تغيير ميزان القوى المؤدي إلى عالم جديد لا يخضع للقطب الواحد سيؤدي حتما إلى تعديل في توازنات المنطقة واتجاهات الصراع فيها…
استنتاجي الأول هنا، أن هذه التوازنات لن تسمح بمرور سهل (وقد لا تسمح نهائيا) لمؤامرة العصر وصفقته، فمن جهة ازدياد العدوانية ومن جهة أخرى تعديل في موازين القوى، إذن نحن أمام احتمال جدي تستعيد معه القضية الفلسطينية دورها المحوري وموقعها المتقدم في هذا الصراع…
أما على المستوى الاقتصادي، حيث كشفت الأزمة هشاشة الاقتصاد التابع، في الدول العربية الفقيرة بشكل رئيسي وحتى في دول النفط، ستستمر عملية تحميل الفقراء، كيانات وأفرادا، عبء هذه الأزمة بمفاعيلها الاجتماعية والاقتصادية، وهنا التحدي الحقيقي أمام اليسار العربي والشيوعيين تحديدا.
الاشتراكية هي الحل، شعار جميل وأغنية نسعد بإنشادها، ولكن، تطرح المزيد من الأسئلة والتحديات، أولها هل نستطيع بناء الاشتراكية في بلد عربي واحد؟ هل قوى الإنتاج والبنى التحتية تحتمل مثل هذا التحول في كيان منفرد؟ حتما لا، نحن من جديد أمام تحدي التكامل العربي، إلى حدود الاتحاد لتوفير قاعدة البناء الاشتراكي وهذا يضعنا أمام مهمة الخروج من القوقعة باتجاه تكامل جدي في نضال الطبقة العاملة في كل البلدان العربية باتجاه حركة تحرر وطني، تقودها الطبقة العاملة ونظريتها، حركة تتخطى الوضع الحالي بما فيه الانتفاضات التي يغيب عنها الطبقي والوطني على السواء، أمام تحدي استعادة اليسار لدوره في حمل قضية فلسطين، ليس كمتضامن بل كمنخرط، أمام تحدي حل مشكلة الأقليات العرقية، بشكل ديمقراطي يضع إمكانياتها في خدمة قضايانا (قضاياها) ويطلق حقوقها السياسية والثقافية واضعا إياها في رصيدنا المفترض والمشترك في إطار مشروع مواجه للرأسمالية والصهيونية أمام تحدي طرح مشروع متكامل ضد سايكس-بيكو، لا يلغي الخصائص المتكونة خلال مئة عام ولكن لا يخضع لها…
بعد الأزمة فرصتنا أكبر، الإيديولوجيات الأخرى البرجوازية والدينية أثبتت قصورها في مواجهة أزمات شاملة من هذا النوع، الاشتراكية هي الحل، نعم وفي منطقتنا كذلك، ولكن ذلك يتطلب الاستعداد على كافة المستويات الفكرية، السياسية، الاقتصادية، الاستعداد لكي نكون في طليعة المقاومة في كل الجوانب لحمل قضايا شعبنا. وكل هذا يطرح تحدي عملنا اليساري المشترك أين هو وإلى أين؟
طبيعي أن تكون الأحزاب الشيوعية واليسارية، الميدان الطبيعي لممارسة مارشال الجديد، عبر لبرلة الشعار والتنظيم والتسلل إلى خلايا الأيديولوجيا وزرع «الفيروسات» الفكرية فيها. والأسوأ كان استعمال الدخول الناعم، تحت شعار مراجعة نقدية للماركسية (وهذا نجده في الماركسية نفسها) عند البعض إلى تشويه الفكر وجعل «التجديد» مسوغات للتخلي، وإظهار الماركسية وكأنها محتضنة للإرهاب والجمود.
* الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني
بقلم : د. خالد حدادة