تستمر المظاهرات الصاخبة في مختلف جهات الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عقب مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصول إفريقية، على يد ضابط شرطة حاول إعتقاله بعنف، ما أدى إلى وفاته مختنقا بين يديه.
المظاهرات المذكورة، بحسب ما تتناقله وسائل الإعلام، تتخللها أعمال شغب وعمليات نهب وسلب، وأيضا اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين الغاضبين وعناصر الشرطة، وكل هذا لفت انتباه كل شعوب الدنيا، وبات الجميع يتابع ما يقع في الدولة الأقوى في العالم.
إن حجم التداعيات الميدانية لمقتل جورج فلويد وما خلفه ذلك من غضب شعبي عارم، قد يجد تفسيره في عقلية عنصرية لها حضورها وسط المجتمع الأمريكي، وتحس، تبعا لذلك، فئات عديدة في المجتمع الأمريكي بالتهميش والتمييز في حقها، وعندما يكون المقيم في البيت الأبيض هو دونالد ترامب، فهذا الإحساس بالدونية من لدن الأمريكيين من أصول إفريقية أو وسط قوميات أخرى، يتفاقم، ويفضي إلى ما تشهده البلاد هناك هذه الأيام من عنف ودمار واعتقالات.
المجتمع الأمريكي يبدو اليوم أنه لم ينجح في القضاء نهائيا على ثقافة العنصرية والكراهية وسط مواطنيه أو في العلاقة بين القوميات والأصول المختلفة، ولم يستطع منح الأمان للأمريكيين السود وتجاوز شعورهم بالإحباط والتهديد.
من جهة ثانية، كان يمكن لرئيس البلاد ترامب تدبير المرحلة الحرجة بإعلان موقف مطمئن، والتعاطي بعقلانية وذكاء وحكمة من أجل احتواء الغضب المعبر عنه وإشاعة الأمان، لكنه فضل التصعيد وإعلان المواجهة والتهديد في حق المتظاهرين، وتوزيع التهم والنعوت تجاههم، ما انتقل بالأحداث لكي تتجاوز الاحتجاج على مقتل مواطن على يد ضابط شرطة، وتتحول إلى تنديد كل الفئات المهمشة بما تعانيه من عنصرية وإقصاء وإحباط، وأن يتنامى التعبير عن رفض أسلوب ترامب وسياسته بشكل عام.
الرئيس الأمريكي واصل، برغم التطورات الميدانية للأحداث، تهديده باستعمال الجيش، وأحاط البيت الأبيض بعناصر الشرطة لحمايته، وأمر بنشر قوات الحرس الوطني في ولايات عديدة، ولجأ هو إلى مخبأ طوارئ قبل أن يخرج منه ويجدد تهديداته مرة أخرى في وجوه الغاضبين، ما جعله في مواجهة مباشرة معهم، وبرز سلوكه السياسي والتدبيري مرتبكا وانفعاليا في تعاطيه مع المرحلة الدقيقة في بلاده.
السياق العام أيضا لم يكن غائبا أو بلا تأثير، ذلك أن الارتباك في تدبير منظومة مواجهة تفشي “كوفيد – 19″، وأيضا إشعال توترات واشتباكات مع عدد من الدول والمنظمات والقوى الدولية والإقليمية، والتهديدات القائمة اعتبارا لدور الإدارة الأمريكية في عدد من بؤر ومناطق النزاع والتوتر عبر العالم، كل ذلك يحضر اليوم متداخلا في خلفية ما تشهده الولايات المتحدة الأمريكية من احتجاجات ومظاهرات غاضبة، ومن المؤكد ستكون له امتدادات في المستقبل.
إن ما يجري اليوم داخل المجتمع الأمريكي، وفِي سياق مرحلة ما بعد “كوفيد – 19″، يبرز أن المسألة الاجتماعية وإعمال العدالة والمساواة بين فئات المجتمع وتطوير الاندماج والانسجام الوطنيين مطروحة بقوة أيضا داخل أعتى قلاع الليبرالية والاقتصاد الحر، كما أن السؤال الثقافي ومحاربة الرواسب والمعتقدات العنصرية والتمييزية مطروح أيضا بذات القوة، علاوة على أن الليبرالية المتوحشة تأكد عجزها عن تقديم الأجوبة الناجعة لهذين التحديين الكبيرين.
تكشف أحداث أمريكا كذلك، وخصوصا أسلوب الرئيس ترامب في مواجهتها، أن الشعارات الديمقراطية التي تتغنى بها واشنطن، وكون النظام السياسي الأمريكي يقوم على الحرية المطلقة، كل هذا يختفي لما يتعلق الأمر بالمصلحة الأمريكية الخاصة أو اختلالات المشهد الداخلي في البلاد، وتتعبأ ماكينة الليبراليين والجهات الدينية الداعمة لهم ومنظومة الإعلام للاصطفاف جبهة واحدة ضد الشعارات المذكورة نفسها وتجليات التعبير عنها، وتجتهد في تزييف الأخبار والصور .
قد تنتهي الاحتجاجات الحالية، وقد تنجح الإدارة الأمريكية في إخمادها أو احتوائها، وقد تجد لها مخرجا في قضية مقتل جورج فلويد، ولكن من المؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تشهد تحولات مختلفة لا شك سيكون لها الامتداد مستقبلا.
< محتات الرقاص