لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.
فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.
فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.
هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.
قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.
أفلاطون
كثيرا ما أثارت المقالب اللطيفة في زواجه مزحات كانت تتداول في عصره، من أشهرها قصة الاستحمام التاريخي الطريفة، حين ألقت كسانتيب بدلو من الماء الآسن فوق رأس سقراط، وجاوبها هو بعبارته : «كم من مطر خفيف غلب رياحاً عاتية !».
يعد كتاب أفلاطون المأدبة “Banquet” كتابا افتتاحيا وغرائبيا، حيث رسم معالم الرؤية الغربية للحب طوال القرنين التاليين لظهوره. وقد لاحظ المحلل النفسي جاك لاكان Jaques Lacan، أنه «ساخر» لدرجة أنه لم يظهر، مذاك، أي تصور للتفكر أو التأمل الديني للرغبة، من دون أن يستند إليه كمرجع، رغم أنه (قائم على تجمع من اللوطيين (1)) .
يمثل الكتاب جلسة الشكر الجماعية التي تدور في منزل أجاتون، الفائز في مسابقة للشعر التراجيدي في الليلة السابقة للسهرة، حيث ثلة تجتمع من الشباب المنحرفين، المخمورين، وبعض الكهول المثليين المنتمين للطبقة الأرستقراطية في أثينا، ومعهم سقراط أيضاً، البالغ من العمر 53 عاما آنذاك، وعدوه اللدود الشاعر الكوميدي أرستوفان، إلى جانب كاهنة غريبة تحضر معهم هذه الجلسة على غير العادة. ومع كونها غائبة جسدا، إلا أن ديوتيم دومانتيني، كانت هي الشخصية المحورية لـ المأدبة، خاصة بعد أن اختار سقراط أن يكون هو الصوت المعبر عنها، على الرغم من سمعته بأنه ثرثار أكثر منها. كانت حاضرة باعتبارها الخبيرة، حيث اعترف الفيلسوف بأنه أمسك بالعلم الوحيد الذي تمتلكه، أي بحقيقة الحب.
هاهو الحكيم الإغريقي الكهل متآمر أكثر من أي وقت مضى. ومع كونه مثليا، إلا أنه كان على علاقة بامرأة سليطة تعيش معه، تدعى كسانتيب. وقد رزق منها بطفل، اسمه لامبروكلي. كانت توبخه لكونه مفكرا، إذ ترى أن مهنة المفكر مهنة خطرة ولا تدر المال الوفير.
وكثيراً ما أثارت المقالب اللطيفة في زواجه مزحات كانت تتداول في عصره. ومن أشهرها قصة الاستحمام التاريخي الطريفة، حين ألقت كسانتيب بدلو من الماء الآسن فوق رأس سقراط، وجاوبها هو بعبارته: «كم من مطر خفيف غلب رياحاً عاتية !». لا نعرف الكثير عن أبي الفلسفة. غير أنه ولد في أتيك في ألوبيس عام ٧٤٠ قبل الميلاد، وهو ابن لأب نحات وأم قابلة. وسوف يقارن سقراط في ما بعد بين نشاط أمه وبين : نشاطه الفكري، إذ يقول عن نفسه: «أنا مولد أرواح»، ويقولون عنه إنه تلميذ لأناكساجوراس، مثل بيركلي. وهناك ملحمة أخرى تذكر أن له زوجة ثانية، تدعى ميرتو، رزق منها بابنين هما سوفرونيسك ومينيكسن كل الشواهد تشير إلى أن إشاعة زواجه من أكثر من امرأة، والتي روجها أرسطو وديوجين لايرس، لم تكن تهدف إلا لتشويه سمعة هذا الرجل الغامض الذي يعرف الجميع أنه حكم عليه بشرب السم بتهمة الإلحاد والتغرير الفلسفي بعقول الشباب القصر. هذا على أية حال هو البورتريه الذي رسمه له تلميذه أفلاطون في حواراته الستة والعشرين التي خلدت سيرته.
ووفقا لرواية مؤسس الأكاديمية، وفي ما يتعلق بتلك السهرة التي كانت مخصصة للاحتفاء بأجاتون، فإن سقراط قد قايض ثيابه الرثة بثوب نظيف وأنيق، وانضم متأخرا إلى الثلة المرحة.
كان النبيذ ينساب طوال السهرة، واتفقوا على إقامة مسابقات شفاهية أقل إنهاكا لمدعوين حلوا ضيوفا منذ ثمان وأربعين ساعة.
وعادة ما تشكل الممارسات الراقية جزءاً من هذا النوع من الاجتماعات، إذ يسودها الحوار أكثر من ممارسة الحب المسألة تبدأ وكأنها لعبة يتنافس فيها ستة متنافسين والفائز هو صاحب أفضل مديح في الإله إيروس.
هذا الإله الذي يتضح من خلال سمات “الفضيلة” على لسان فيدرا، التي حكت، في تراخ، عن الشاعر هزيود. أكدت فيدرا أنه : «إله عظيم مثل إيروس»، وأضافت أنه بلا أب ولا أم، ولم يسبقه سوى العدم، ولأنه أقدم الآلهة فإن نِعمه هي أعظم النعم. وتضيف أن الحب يدفع بالإنسان نحو التصرفات الصائبة، إذ إن الإنسان لا يستطيع أن يفقد شرفه أمام محبوبه، حتى في لحظات الموت وأن جيشاً من العشاق لقادر على هزيمة جيش لا يهزم. ثم يأتي بوسانياس ليصف الحب بأنه «مزدوج»، وهو الذي ميز إيروس النبيل، الذي ينصب اهتمامه على الروح التي تحجبها الأجساد، عن إيروس العامي. والحب هو علاقة بين الإنسان والرب، وفقاً لرؤية أريخيماكوس، الذي يحمل بداخله صورة «هذا الرب الإعجازي، ذا الفعل الكوني».
يعد هذا الطبيب نموذجاً دقيقاً لنصير الفلسفة الوضعية، على الرغم من أن التزامه بها التزام معتدل.
وعادة ما يحمل إيروس الرخاء والصحة، إلا أن الأوبئة تنقض مع الإفراط والمبالغة. وسوف يصفها أرستوفان في الحب – الاندماج، ثم يقدم للصحبة ملحمة الأفلاك الرائعة وسط نوبات من الضحك. هل تعبر قصة أرستوفان أو ملهاته عن البعد التراجيدي للمشاعر العاطفية؟.
>إعداد: سعيد ايت اومزيد