الفنانة شيماء الرداف: فن الملحون ديوان المغاربة

إيقاعات خاصة ومواويل أصيلة، تفصح عما يخالج الإنسان من أحاسيس ومشاعر تتخذ، تارة، من اللهجة الدارجية أداتها، وتارة أخرى، من قاموس اللغة الفصحى بشعرها ونثرها مادتها، التي تتلون مواضيعها بألوان المدائح النبوية والسلام وغيرها.

إنه فن “الملحون” المغربي، الذي يرجع تاريخ ظهوره لأول مرة إلى عهد الموحدين، خلال القرن السابع الهجري، حيث بدأت نشأته في سجلماسة وتافيلالت، ثم نما في مراكش وفاس وبعد ذلك انتشر في جميع المدن المغربية..

مارس هذا الفن كثير من الفنانين الكبار الذين كرسوا حياتهم للاهتمام به وللحفاظ عليه إلى أن سلموا المشعل لثة من الشبان والشابات، موزعين عبر ربوع المملكة، نذكر منهن بمنطقة دكالة عاصمة إقليم الجديدة، الشابة الفنانة المتألقة شيماء الرداف  كريمة المناضل والصحفي الأستاذ الحاج محمد الرداف، البنت البارة لمسقط رأسها والتي تعتز بانتمائها لعبق التاريخ أزمور؛ وهي واحدة  من الأصوات التي تناضل فنيا من أجل الحفاظ على هذا الموروث التراثي الفني الأصيل، سلاحها الاجتهاد والمثابرة والتنظيم بين حياتها الفنية والعلمية، وقد أسست تجربتها الفنية متأثرة بوالدها الذي شجعها على خوض غمار الفن، وبانخراطها في العمل الجمعوي المهتم بفن الملحون، من خلال نشاطها في جمعية “أحمد بنرقية لفن الملحون”.  وقد تنبأ لها عراب الملحون عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري بمستقبل زاهر في هذا الفن التراثي، قبل أن تصبح فنانة تشارك في ملتقيات وطنية ودولية، ولازالت تواصل السير بخطى ثابتة وبثقة في نفسها الممزوجة بكثير من التواضع .

ولم تتخل عن دراستها، حيث استطاعت أن توفق بين الدراسة والطرب وخير سند لها  والدها وأساتذتها الأجلاء ومريدو فن الملحون والإنشاد؛ والفنانة شيماء خريجة المعهد الوطني للتهيئة والتعمير وحاصلة على شهادة الماستر في العلوم الجيو مجالية والحكامة العقارية من معهد الحسن الثاني الزراعة والبيطرة بالرباط، حيث تشتغل الٱن كباحثة مساعدة بذات المعهد.

في هذا الحوار مع جريدة بيان اليوم تؤكد الفنانة شيماء الرداف أن  فن الملحون هو اللغة السليمة والمرنة التي تعبر عن المشاعر الصادقة بأسلوب بسيط يفهمه الجميع، وسنسافر معها في هذا الحوار، من خلال عطائها المتميز ورؤيتها الفنية العميقة لفن الملحون، وارتباطها الواعي بأسئلة هذا الفن، لتكشف للقارئ الكريم أسباب اهتمامها بهذا الفن، وتسرد تجرتها الفنية، بدءا من ممارستها للتنشيط والغناء وهي تلميذة صغيرة في مرحلة الابتدائي، إلى أن وصل صوتها لجمهور عريض، يتابعها ويدعمها، كفنانة شابة بطموح فني كبير..

وفي ما يلي نص الحوار :

*  مرحبا بك في بيان اليوم، ونستهل هذا الحوار بسؤال البدايات، فكيف بدأت حياتك الفنية؟

**  في البداية أشكر جريدة بيان اليوم على دعوتها الكريمة لي في هذا المنبر الإعلامي الورقي المتميز، لإجراء هذا الحوار الذي أتمنى أن يكون عند حسن ظن الجميع..

وجوابا على سؤالكم، بدأت ميولاتي الفنية تظهر في سن مبكرة منذ المرحلة الأولى من مساري الدراسي، حيث كنت أترأس زميلاتي في الدراسة، خلال تقديم لوحات غنائية، ونشارك في كل المناسبات التي تحتفل بها المؤسسات التعليمية بالمغرب. كما أني اكتشفت ميولاتي للملحون هذا الفن الراقي، لما كنت أصاحب العائلة من أجل حضور خميس التراث الذي كانت تقيمه جمعية “أحمد بنرقية لفن الملحون” في الخميس الأخير من كل شهر، بالمسرح البلدي بمدينة الجديدة.

 * من شجعك ودعمك على الاهتمام بهذا الفن التراثي الأصيل؟

   **  لي عظيم الشرف والافتخار بأن أبوح باسم كان له الفضل الكبير في اهتمامي بفن الملحون والاستمتاع به فوق الخشبة في مختلف المهرجانات والاحتفالات، إنه والدي الحاج محمد الرداف الذي كانت له ميولات فنية بل كان رفيق الشيخ المرحوم عبد المجيد رحيمي،  حيث كان في بدايته الفنية عضو مجموعة فنية تهتم بالأغاني الجميلة لجيل جيلالة وناس الغيوان، وكان إلى جانب ذلك عضوا بمكتب جمعية أحمد بنرقية لفن الملحون.. كما كان والدي يشجعني ويصاحبني في كل مناسبة ملحونية، إذ كان يوفر لي جميع الإمكانيات بعد أن آمن بقدراتي في ميدان الإنشاد، وبعد أن  تفاجأ للمستوى الذي ظهرت به، من خلال لوحة فنية قدمتها رفقة مجموعة من الأصدقاء خلال احتفالات نهاية السنة الدراسية لمؤسستي التعليمية، حيث قدمت قصيدة  “البراقية” والتي كانت بداية مشواري في الإنشاد في فن الملحون .

الفنانة شيماء الرداف رفقة نبيل بنعبد الله الأمين العام للتقدم والاشتراكية

كما أن انخراطي بالعمل الجمعوي المهتم بفن الملحون ساهم بشكل كبير في بزوغ اسمي ضمن فنانات وفناني هذا اللون الغنائي، حيث انخرطت في جمعية “أحمد بنرقية لفن الملحون” التي تعنى بهذا الفن، وكان مؤسسها يزودني بكل ما قد يفيدني ويختار لي القصائد التي أقدمها للجمهور  .

وما شجعني أكثر هو نجاحي في أول لقاء لي مع الجمهور وأنا  صغيرة جدا، خلال حفل تكريم  مستشار صاحب الجلالة الدكتور عباس الجراري الذي أنشدت أمامه قصيدة “الأم”، وحينها بدأ يتنبأ لي بمستقبل زاهر في هذا اللون التراثي الجميل، بل حرص على تشجيعي، حيث جعلني أصغر عضو في لجنة أنطلوجية الملحون لأكاديمية المملكة المغربية، كما كان للمرحوم الفنان عبد المجيد رحيمي، رئيس جوق أحمد بنرقية، الفضل في تشجيعي كفنانة صاعدة من عمق دكالة، وحرص على أن أغني القصائد الأزمورية التي نظمها فطاحل الشعراء الأزموريين كالشاعر أحمد بنرقية الذي تحمل اسمه الجمعية التي ترعرعت بين أحضانها..

* كيف ترين فن الملحون؟

** الملحون، فن شعري إنشادي وغنائي متميز في المغرب، وهو واحد من أنواع الموسيقى التي يتميز بها المجال الفني في المغرب عن باقي البلدان العربية، حيث يعد رافد أساسيا من روافد الذاكرة الفنية المغربية، منذ قرون. وقد عرف صعود أسماء ستظل عالقة في الذاكرة الشعبية المغربية. ويعتبر من التراث الخالد، لما لقيمته الأدبية واللغوية من جمالية في الشعر وروعة في التعبير والإفصاح عما يخالج الإنسان من مشاعر وأحاسيس راقية ويعتبر فن الملحون ديوان المغاربة .

* كيف يمكن الحفاظ على هذا الفن في ظل موجة الأغاني العصرية؟

** معلوم أن فن الملحون قد قاوم وصمد لأكثر من ثمانية قرون، وعلى الشباب الحامل للمشعل أن يهتم به حتى يتمكن هذا الفن السامي من مواصلة الصمود قرونا أخرى، أمام الأغاني الشبابية العصرية   .

ولذلك فهو أمانة في عنق كل من يهوى الإبداع الحقيقي والإنساني الجميل، وينبغي على كل المهتمين والمسؤولين العمل من أجل صيانة هذا الموروث وتوفيره في مطبوعات مرفقة بتحقيقات وشروحات وتفسيرات..

* ما الذي يستميلك في فن الملحون؟

** استهوتني في فن الملحون القصيدة الشعرية، لأن الملحون هو شعر نظم ليُتَغنى به، وأجد فيه راحتي الفنية والنفسية، لكونه يعالج جميع مواضيع الحياة .

* ما أهم محطاتك الفنية التي ستظل راسخة في ذاكرتك الفنية؟

** استقبالي من طرف مستشار صاحب الجلالة، الدكتور عباس الجراري، وأول لقاء لي مع الجمهور بمؤسستي التعليمية، ثم مشاركتي في العديد من الملتقيات الوطنية مع كبار المنشدين والمنشدات، ونيلي عدة جوائز وكانت الجائزة الثمينة بالنسبة لي هي المشاركة في الملتقى الوطني للإنشاد بسجلماسة في النسخة 21، حيث فزت بالجائزة الأولى، ثم عززتها بمشاركتي كضيفة شرف في النسخة الرابعة للملتقى الدولي للملحونيات بدويتو ملحوني رفقة الطفل نزار رحيمي؛ لتصبح “شيماء” بعد ذلك رقما أساسيا في نسخ ملحونيات بدعم من  الجمعية الإقليمية للشؤون الثقافية بالجديدة وبدعم وتشجيع من عراب ملحونيات مدينة أزمور العامل السابق معاد الجامعي.

* ما السبيل للرقي بفن الملحون في  المغرب عموما و مسقط رأسك أزمور خصوصا؟

**  في البداية أقول إن التراث بمختلف ألوانه وتجلياته عنصر أساسي في الحفاظ على هوية الأمة وحمايتها من التشتت والضياع.. والمغرب الحبيب يزخر بتراث ضخم ساهمت في بلورته مجموعة أجيال، وكل الأجيال المتعاقبة أدلت بدلوها في مجال الحفاظ على هذا الفن التراثي الأصيل .

والمغرب يحق له، عبر تاريخه الطويل والعريق، أن يفتخر بتراثه الثقافي المتنوع الذي لازالت الأمم والشعوب تحميه وتحافظ عليه، وانطلاقا من هذا المعطى التاريخي، يجب علينا خلق محطة سنوية وطنية دولية لهذا الفن، يلتقي فيها كل المهتمين به من مختلف بلدان العالم وخاصة العربية منها، بالإضافة إلى تنظيم مهرجانات موسمية خاصة للاحتفال بفن الملحون.

الفنانة شيماء رفقة الدكتور عباس الجيراري

كما أن للإعلام على اختلاف أنواعه، الورقي، السمعي، السمعي البصري، الإلكتروني،  دورا مهما في استمرار والحفاظ على الفنون بصفة عامة، من خلال مقالات تحليلية، استطلاعات، تحقيقات، لقاءات وندوات صحفية وحوارات. فالإعلام أهم وسيلة للنقل والنشر والتبليغ إلى الجمهور العريض.

كما أناشد كل المسؤولين بالمجال الفني بضرورة إعطاء عناية كبيرة لهذا الفن التراثي الأصيل، الذي يشكل مرجعا لهويتنا، حتى يمكن الحفاظ عليه في ظل موجة الغناء العصري.

* ما هي العوائق التي ما زالت تقف في وجه الفن والفنانين المغاربة على وجه الخصوص؟

** لا أحد ينكر بأن الفنان المغربي يعاني من مجموعة من العوائق والإكراهات، منها تغطيته الصحية وحمايته الاجتماعية ومستقبله وتقاعده .

بالإضافة إلى تهميشه في بعض المنابر الإعلامية وفي المهرجانات الوطنية وتشويه أعماله وتفقيره من خلال سرقته عن طريق القرصنة التي أقفلت مجموعة من الشركات الكبيرة الخاصة بالإنتاج الفني.

* ما هو جديد أعمالك ومشاركاتك الفنية؟

 

                                                                                                       الفنانة شيماء الرداف في مهرجان ملحونيات

** حاليا أحضر للمشاركة في المهرجانات القادمة، إن شاء الله، سيكون الأول في الأسبوع الأول من ماي القادم بمدينة الريصاني ملتقى سجلماسة لفن الملحون الذي كان هو الانطلاقة الحقيقية لمشواري الفني بعد فوزي بالجائزة الكبرى للإنشاد؛ كما أشتغل حاليا على تسجيل بعض القصائد بطريقة جديدة لتحبيب فن الملحون لشبابنا، كما أرغب في تسجيل قصائد ملحونية لبعض فطاحل الشعراء الأزموريين وخصوصا قصائد الشاعر أحمد بنرقية تكريما للفنان الراحل الشيخ عبد المجيد رحيمي الذي غادرنا مؤخرا إلى دار البقاء، تغمده الله بواسع رحمته.

* كيف تقيمين تجربتك مع فن الملحون؟

** تجربتي مع فن الملحون تجربة متواصلة تشق طريقها بخطى ثابتة، لا سيما وأني قد وجدت نفسي وذاتي في هذا اللون الغنائي الراقي، الذي يترجم معنى الموسيقى المغربية الأصيلة، ومن هنا أؤكد أن فن الملحون، هو الفن المغربي الأصيل، الحي والمتجدد، والذي  أدافع عنه في الكثير من اللقاءات والندوات التي أشارك فيها، سواء على المستوى المحلي أو الوطني.

* ماذا تعالج قصائد الملحون؟

** فن الملحون بصفة عامة يتناول كل الأمور المتعارف عليها في الحياة، اجتماعية، دينية، ثقافية سياسية وغيرها، فإذا كان الشعر العربي قد تميزا بالتنوع في مواضيعه وأوزانه، فإن شعر فن الملحون تنوعت مضامينه أكثر من ذلك، حيث أن فن الملحون يجمع بين عدة ألوان، منها المدح، الرثاء، الغزل والنسيب…. وغيرها، إضافة إلى أنه عالج مجالات فنية أخرى، كالمسرح والحكاية..، إذ أن الملحون يتميز بالتنوع والغنى.

* ما هو تقييمك لمردود القنوات المغربية والبرامج التي تقدمها بخصوص هذا الفن؟

** قنواتنا المغربية تتعامل مع فن الملحون تعاملا عاديا، على غرار تعاملها مع مجموعة من الفنون الأصيلة الأخرى، وإن كانت  تحاول ما أمكن أن ترضي الذوق الغنائي السائد، فإنها لا تبخل عن تقديم فنات وفناني هذا اللون الغائي الأصيل، وتحاول جاهدة المساهمة في الحفاظ عليه. وبهذا الصدد أقترح خلق برامج تعنى بتقديم جميع الفنون، والتحدث عليها من خلال استضافت فنانات وفنانين، لتقريب الفنون بطريقتهم الخاصة إلى الجمهور العريض، ومنها فن الملحون.

* كلمة أخيرة لجمهورك ولقراء بيان اليوم

** أشكر جريدة “بيان اليوم” التي أفتخر وأعتز بخطها التحريري، على استضافتي في هذا الحوار، واشكرها على سعة صدرها، وقربها من الفنانين، لنقل ونشر أفكارهم وتصوراتهم الفنية، وأتمنى لها المزيد من التألق والنجاح في مسارها الإعلامي المهني المتميز.

وأغتنم هذه الفرصة لأشكر الجمهور المغربي المتعطش لفن الملحون، وأشكر الجمهور الأزموري الذي يعشق فن الملحون والشغوف بمتابعتي؛ فالجمهور هو السند الرسمي لكل فنان، والمحفز على الاستمرار، وبذلك فالجمهور المحترم يساهم في الحفاظ على الفن فله مني ألف تحية واحترام.

أجرى الحوار: محمد الغوات

Related posts

Top