الكتابة القصصية وسلطة الواقعية النقدية عند الكاتب المغربي إدريس الصغير

 تبدو الكتابة القصصية عند الكاتب إدريس الصغير، إزميل نحات يخلق عوالمه التخييلية ومنحوتاته الواقعية الساحرة، ذلك أن النص القصصي ليس تصويرا لمشاكل الناس وهمومهم فحسب، بل هو أيضا إعادة كتابة التجربة التي يعيشها الإنسان بشكل وجودي، ومن زاوية دقيقة تحسن التقاط التفاصيل الزمنية والمكانية والحدثية، ولهذا، فالقصة جنس متمنع يخرق ما يمكن أن يكون تحصيل حاصل، أو خطوة لها ارتباط بحكم جاهز متمنع، إنها لحظة عصية، تشبه لحظة القبض على حدث قدري، يقول الكاتب: “لماذا القصة القصيرة: هذا جنس إبداعي صعب جدا، جميل جدا، ممتع جدا، وأنا أحب الأشياء الصعبة الجميلة الممتعة، وكلما قرأت قصة قصيرة ممتعة أغبط كاتبها أولا، ثم أقول في نفسي، هذا ما كنت أريد أن أقوله، وبنفس الشكل، وأفضل دائما متعة القراءة على عذاب الإبداع، وحين يتمنى الكثير من الناس أن يصبحوا رؤساء حكومات، أو أناسا فاحشي الثراء، أتمنى صادقا أن أكون قصاصا. أي سرد، أية كتابة، هذا قدري، سأعشق منذ الصغر قراءة القصص القصيرة، ضمن ما عشقت قراءته. سيكون لها السبق عندي دوما، فإذا ما اشتريت مجلة مثلا، سارعت إلى قراءة  قصة العدد، انفتح أمامي عالم سحري جميل، يبدعه كتاب كبار، يطورون إمكانية بقية ممتعة. قرأت ثم كتبت، لتتزاوج القراءة بالكتابة، ومع طول المراس أكون قد تورطت حقيقة”1.   
إن القصة ليست مشتلا لتجريب عناصر يسهل التحكم في نتائجها، أو بناء يتوقف على وضع إطار هندسي قبلي وقابل للتحقق النهائي، إنها كما يقول الكاتب (الأشياء الجميلة الصعبة الممتعة) التي في تكرارها اللاتحقق، بل الإحساس بالجمال والعفوية والمتعة، فهل هذا التعارض هو ما يجعل الكتابة القصصية موئلا للصمت، وفي نفس الوقت للعذاب والألم، بل للقلق، أو أن القصة لا نهائية، حيث “…لا تبتدئ في الحقيقة إلا مع الكلمة الأخيرة”2، وبما أن هذا الارتياب صاحب القصة منذ ولادتها إلى اليوم، خاصة في محاولات التأسيس والتأصيل، حيث انصب البحث على عناصر البناء، وذلك من خلال الشكل والمضمون، لأن القص كمصدر من “قصَّ – قصا، أي الشعر ونحوه: قطع منه بالمقص. النساج الثوب: قطع هدبه … وقص قصصا عليه الخبر: حدثه به. ( قصا و قصصا) أثره: تتبعه شيئا فشيئا… والقصة. النوع من قص. الحديث، الأمر الحادث، الأحدوثة، الشأن. جمع ـ قصص وأقاصيص … (القاص) من يأتي بالقصة. الخطيب، و(القصاص) الذي يقرأ القصص في مجتمعات الناس ليأخذ الجباية منهم”3، فالقص من هذا المنظور اللغوي حركة تأمل عميقة في الزمان والمكان، “حينئذ فقط تبدأ القصة فعلها في أنفسنا نحن القراء. قوة القص، كل قوتها يبدو لي في أثرها. الأثر هو لب القصة وكنهها وجوهرها، وهذا الأثر قد يمتد في نفس القارئ إلى آخر عمره”4.   
هكذا إذن تتبدى القصة، وهي تحتمل وضع السؤال أكثر من جاهزية الأجوبة، وتنسج بذلك عوالمها الخاصة والقلقة.   

النص القصصي وسؤال الواقعية النقدية   

إن القصة عند الكاتب إدريس الصغير مثل مختبر تحليلي، تمتزج فيه المواد العضوية والكيميائية لتنسج لنا في النهاية مادة قابلة للاستهلاك الإيجابي، وهو ما يمكن تمثله من خلال مجموعته القصصية “عن الأطفال والوطن”5. الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، والشركة الشريفية للتوزيع والصحف بالبيضاء ـ المغرب، بحيث نلمس أن الكاتب يحاول أن يشخص أعطاب مجتمع متخلف من خلال تركيزه على صور غارقة في القتامة والعزلة، وتحت أسماء شخوص عديدة: بمبارا ـ السيد عباس ـ المواطن عبد الله ـ أحمد وحبيبته قطر الندى ـ السيد فلادي ـ المجنون وآخرون، ف”قوة الخلق الفني لشخصية قصصية لا تكون فقط في حياتها المتدفقة النابضة داخل القصة نفسها، بل في حياتها خارج القصة، في حياتها الممكن استمرارها على وجوه أخرى في رؤوس الناس”6.   
لهذا، فالنص القصصي يمتح نسغه من قاع الواقع، ومن درك المجتمع بالذات، إذ يحرص الكاتب على أن يكون تشكيل متنه خاضعا إلى هندسة تشكيلية لا تطل على تحولات الفرد أو الجماعة من فوق، أي من خارج، بل ترتبط بالهامش كمعبر للمركز، بحيث يستعين بتقلبات الاجتماعي، ورهانات التاريخي، و”ينهل إدريس الصغير ـ كغيره من مبدعي هذا الفن الأدبي ـ من معين التاريخ والواقع، ويعيد إنتاجهما قصصيا في أشكال فنية، ويعتبر الكاتب النص القصصي عنصرا محايدا مستقلا بذاته،  فهو في تقديره نسق لغوي ذو طقوس خاصة، يراهن على استقراء الواقع وإعادة نسجه في عالمه المتخيل، وبذلك يصبح النسق المرجعي بناء تخييليا يوجه آليات الأحداث والوقائع ويسير دفة البرامج السردية، معنى هذا أنه لا يستنسخ الواقع ولا يجتر التاريخ، بل يوظفهما بتقنياته الخاصة بشكل تحولي وظيفي، هكذا يصوغ دينامية واقعية قائمة على مرجعيات الإبداع، وبذلك يحمل النص القصصي مبرره الإنساني والذاتي والإبداعي”7.   
من خلال هذا الطرح، نرى أن المجموعة القصصية تسير وفق خط تصاعدي متنامي الأحداث، تتعاضد فيه الوقائع فيما بينها، وتتقاطع الوضعيات الاجتماعية والسياسية والتاريخية، غير أن صمتا خفيا يكمن داخل النصوص، يتمرد على الواقع، على الذات والجماعة، على الآخر، يبني لغته النقدية من جوهر ما تراه العين، وما يحس به وجدانا، يقول الكاتب:” إنها العين، نعمة الله التي أنعم بها على البشر، وسيكون عليها منذ الميلاد إلى الوفاة، أن تلتقط مالا يحصى من الصور العجيبة المتباينة، الواقعية والمتخيلة”8، لذلك فالكتابة القصصية عند الكاتب لا تنخدع أمام زيف الواقع وتلاوين نيون المجتمع وفراغ الخطابات وريائها، بل تبدو متشددة وعنيفة وليست طارئة، و”اللافت للإنتباه أن مدينة القنيطرة تحضر في نصوص هؤلاء، كنسق دال أو كبعد وظيفي أو مرجعي، يستحضر عن طريق  الذاكرة والمخيلة، كخلفية تؤطر الأحداث وترتبط بالإيحاء القصصي، من شوارعها وبيوتها وذاكرتها يقتنصون المشاهد القصصية ويؤسسون مسرح الأحداث ونسق المكونات التخييلية”9، لكن أين هي الواقعية النقدية التي يمكن الإشارة إليها من خلال قراءتنا للمجموعة القصصية؟ بدءا” صاغ هذا المصطلح الناقد غورغي لوكاتش في دراساته عن الأدب الواقعي الفرنسي في القرن 19 (روايات بلزاك وزولا تحديدا)، وعن الأدب الروسي بعد انتصار الثورة البلشفية، وهو يشير إلى الكتابة الواقعية التي تقدم تمثيلا للواقع بتحليل المجتمع تحليلا عميقا يبرز تناقضاته، ويبين احتمالات تطوره، يصير الأديب حسب هذا التصور عضوا فاعلا في عملية التطور الاجتماعي، لأنه يبشر بمآلات التطور الإيجابي حتى إن لم يتبينها صراحة (كان بلزاك ملكيا يمينيا في انتمائه، لكنه يساري في أدبه)”10، هذا الطرح يبدأ من خطاب السارد الموجه للأطفال، يقول:   
صمتا أيها الأطفال، هذه خارطة الوطن، وهؤلاء هم الأعداء.   
إصبع نحيف يرتفع، عينان متقدتان وسط وجه مجرور يعلوه شعر أشعث متسخ:   
> لكن من هم الأعداء؟ !      
> الذين سرقوا الوطن، الذين قتلوا أباك، الذين رموا بك في أطراف المدينة النائية القذرة”11.   
إن الصراع الذي يأخذ أبعادا متعددة في المجموعة، وأشكالا مضاعفة، ينفتح على توجيه رسائل مختلفة، تتميز تارة بالقسوة، وتارة أخرى باللين، يقول السارد:   
ابن الكلب، يريد أن يستدرجني … لا يستطيع أحد أن يندم من الأشياء التي لا تعجبه. التذمر جريمة. حب الوطن جريمة.   
صمتا أيها الأطفال   
لا تخونوا الوطن   
لا تبيعوه    
الخيانة جريمة   
بيع الوطن جريمة   
كانت خطواتي تغوص في حفر الشارع وبرك المياه، بلعت ريقي. كان مرا. الدخينة مرة في فمي مرارة العلقم . هذا وطني”12.   
إنها العين المضمرة داخل منظار واقعي نقدي، لا تسترخص علاقتها مع ما تراه، تثبت بثبات وتتحول بتحول، هي، إذن، رصد لما هو أمامها من علامات وكائنات وأشياء أليفة، متسامحة، حكيمة، لكنها متوحشة، شرسة ومجنونة، يقول السارد: “صمتا أيها الأطفال، الآن سنكسر الأقلام، أقلامنا لم تعد تجدي، نعم هكذا، كسروها، وعندما يعود كل واحد منكم إلى البيت سأطلب منه أن يأخذ قطعة ليصنع منها خنجرا، نعم، خنجرا، اصنعوا خناجر خشبية، سنستعملها تارة للكتابة وتارة للطعن. لطعن الأعداء. هم يطعنوننا. لابد أن نطعنهم كذلك، هذا وطني …ومن ينكر ذلك؟ ! المتسولون يملأون الطرقات. مصاصو الدماء يفزعون الأرامل واليتامى والعجائز، المفاصل والمشانق والكراسي الكهربائية”13، فمن خلال هذه الرؤية البانورامية تتحدد ملامح عناصر واقعية تختزل في شخوصها وأزمنتها وأمكنتها وأحداثها، وتتلخص في تمظهرات اختيارات مواقفها، وطرح أسئلتها بحيث يلاحظ أن النص القصصي من خلال ما يعلن عنه مباشرة، هو أنه غير متصالح مع الواقع، الأمر الذي نلمسه في حكاية بهبارا في شاطئ بانوراميك .. أو بامبرا في شاطئ الحوزية، إذ يتم الانتقال من محاولة رصد الطفولة والحلم “كبارا كنتم أو صغارا. اشتروا دائما حلوة بمبارا”14، إلى محاولة البحث عن أفق، “..وترحل إلى أي مكان آخر”15 لكن ما يسترعي الانتباه، هو أن هذا التحول مربك، “وهل هنالك مكان آخر؟ !  16، يمكن توضيحه بأنه مكانيا ممتد في الزمن، يقول السارد: “ميزت دائرة يقطعها خط أسود مائل، امتدت الطريق الإسفلتية الثعبانية أمامي طويلة متعرجة، فقلت، أحث السير ..”17، وفي جميع الأحوال، يمكن لهذا الوضع أن يتغير، أن يتحول إلى شبه انقلاب على الذات والواقع والآخر، وهو ما نجده في قصة، “بعض أحزان السيد عباس”، وذلك عندما يتساءل: “هل آكل كتبي؟ الكتب لا تؤكل. تقرأ. ثم ترف لتعاد قراءتها عند الحاجة. صحيح أنها غذاء. لكنها غذاء فكري، وهذا النوع من الغذاء يعتبر ترفا في هذا البلد، بل يعتبر جنونا”18، وإذا كانت هذه التيمات المتضاربة، تيمة الوطن، تيمة الوعي، وتيمة الجنون، تشخص بعدا اجتماعيا، يمكن الإلماح له من خلال التمدد والاتساع في نظام السرد، إذ “أن هذا التمدد الشامل هو الذي يمنع لغة السرد ميزتها الخاصة، وهو ظاهرة منطقية خالصة، لأنه يقوم على أساس علاقة بعيدة في الغالب، ويستثير ضربا من الثقة في الذاكرة المثقفية، ثم إنه يستبدل بدون توقف معنى الصيغة التي للأحداث المروية”19، هذا الامتداد يتشكل من شساعة المكان، الذي يضيق كلما انغلقت عليه كثافة زمنية مضغوطة ودائرية، بحيث يرتهن للحدثية في نص “ما حدث للمواطن عبد الله”يقول السارد: “وإذا رأيتم أنني لم أمت لحد الآن فإن ذلك …”20هذا الالتباس الحاصل في التعامل مع الذات هو نتيجة للارتباك المرجعي الاجتماعي الإيجابي، وهو أيضا بنية زمنية متغيرة بفعل  هاجس الإحساس بالآخر، ففي قصة ” أحمد وحبيبته قطر الندى …” يقول: “ومن قال بأن الكرة الأرضية تدور حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة، وأنها تدور حول الشمس في سنة من عمر الزمن، وأن السجون ما بنيت إلا لكبس كل من لا يعجبه الحال كيفما كان الحال، وأن هنالك من هم فوق القانون ومن هم تحت القانون”21، ثم يختتم بوحه ب” أما أنا. قال، أما أنا فإني متبين مخبريكم. قال أما أنا …”22، فهذا اللااكتمال، أو الحذف يؤشر على أن هناك تصدعا بنيويا بين الذات والآخر، بين الذات والواقع، وهو ما يؤكد أن الكاتب إدريس الصغير، سواء في هذه المجموعة، أو في مجموعات أخرى، يحكي واقعه على لسان شخوص عديدين، مختلفين في الرؤية والوعي والموقف، وغير مستهترين بالحكاية، أو مختبئين خلف تجريب شكلي بارد، لذلك نراه يرصد تغيرات المجتمع بعين فاحصة، متوثبة، ثاقبة ومتسائلة، “إنها العين، (يقول الكاتب) الذي يعتمل بداخلنا ونحن نكتب، أو نقرأ، أو نشاهد، أو نتذكر، أو نحلم؟ هل وصف طه حسين القرية والفتى و”سيدنا” والباخرة وسوزان …” كيف قال بشار:   
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا        وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه   
نذهب إلى المقهى لحكاية قصص وسماع أخرى، في الصحف والكتب والأفلام ومحاضر الشرطة حكايات، لو جمعتك مقصورة قطار بشخص لا تعرفه، وكنتما في سفر طويل وحيدين لقلت له أو قال لك ما قيل في قصة “شن وطبقة”:   
> أتحملني أم أحملك؟   
> فإن حل اللغز حكيتما لبعضكما حكايات صادقة أو كاذبة، وإن ظل اللغز مستعصيا على الفهم. لذتما بالصمت، ليحكي كل واحد لنفسه حكاية”23.   
إن إدريس الصغير لا يكتب القصة، لا ليصور الواقع فحسب، أو يبوح بما يجيش في صدره من لواعج إحساس، بل ليضعنا أمام سؤال وجودي قاس، ويتركنا نبحث له عن جواب، فما دام السؤال هو قلق وجودي، فإن البحث عن موئل غايته يستعصي، وهو القائل: “ليحكي كل واحد لنفسه حكاية”24. وهو القائل أيضا: “لكل واحد عينه، ولكل واحد حكاية يحكيها، ولكل واحد متلق خاص يحكي له أساسا”25.   

بنية النص القصصي   

إن أول ملاحظة يمكن الإشارة إليها، هي أن مفهوم البنية القصصية، باعتبارها، نسقا لغويا دالا، يتجاوز مفهوم الشكل إلى الأسلوب، ثم إلى الخطاب، بحيث إن كل منتوج أدبي يمكنه أن يمس محيطه ويتفاعل معه من زوايا متعددة، لهذا نرى أن البنية القصصية من خلال المجموعة متواشجة مع خارج تشكلات النص، إذ تستحضر في علاقاتها دوالا أخرى، غير أنه من الوهم (كما يقول تزفيطان تودوروف) الاعتقاد أن العمل الأدبي يوجد وجودا مستقلا، فهو يظهر داخل عالم أدبي تسكنه مؤلفات قد وجدت من قبل، وهو يندرج في هذا العالم، فكل عمل فني يدخل في علاقات معقدة مع مؤلفات الماضي التي تشكل حسب الفترات، تراتبيات مختلفة”26.   
وبهذا نرى أن منطق الحكي في القصة يتكون من منطق ضمني آخر، يستدعي أفعال القصة وشخوصها وتمظهرات الوصف فيها، وهذا يمكن تمثله من خلال التكرارات والتوازيات، كما هو حال جملة من الاشتغالات التي نصادفها في المجموعة سواء في العناوين المركزية (بهبارا في شاطئ الحوزية27ـ  بمبارا في شاطئ بانوراميك)28 أو في العناوين الفرعية (بمبارا كيف حالك؟29 بمبارا يا بمبارا30 كيف حالك؟31 كيف حدث ذلك يا بمبارا؟32 (وترحل إلى أي مكان آخر)33،(وهل هناك مكان آخر )34 .. وكما نلفي هذا أيضا، وبالخصوص في تكرار شخصية عباس التي تظهر في صورة معلنة، يختزلها الكاتب في العنوان المركزي “بعض أحزان عباس”35، ثم يدفعها إلى تحريك عناصر السرد، يقابلها حضورها في نص “مصادرة صوت السيد فلادي”36، فهذا التكرار، بقدر ما يدل على التأكيد، بقدر ما يحمل صورا بلاغية تحفل بها معاني النصوص التي تستدعي وصف الأمكنة في تجلياتها الواقعية، كعلاقة المدينة بالنهر والشاطئ والميناء والسينما ومحطة القطار والحانة والمقهى والطفولة، ولنلاحظ كيف يتم وصف المدينة في علاقتها بأشيائها الصغيرة والكبيرة، يقول السارد في نص “الأرض”:” اليوم، اليوم فقط، شربت الشاي في مقاهي مدينتي العتيقة الباردة البليدة. اليوم شربت الشاي، وكان الأصدقاء حضورا، وكان النادل يضحك، والشمس فوق رؤوسنا كانت تضحك، وقلنا: في زمن القيح، في زمن الجراح المثخنة، يتمنى الشرفاء أن يموتوا على حد السيف، وقلت: لا. لا يمكن أن تكون هذه هي مدينتي، ما عهدت حيطانها متشققة، متداعية، باهتة، ما عهدت وجوه رجالها شاحبة معروقة ذابلة، ما عهدت أطفالها، يشيخون يموتون قبل الولادة، ما عهدت نساءها، بناتها، يبكين في ثوب الحداد، ما عهدت اليوم ينعق والغراب، ما عهدت هذا، لا ولن تكون هذه مدينتي”37.   
إن هذه المكونات الدالة، تشتغل على تيمات بعينها، وتتعدد وفق تحولات السرد ووضعيات الشخصيات والأحداث، كتيمة الموت، والجنون والتخييل، إذ نلاحظ أن هذا التغير في البنية القصصية ما هو إلا استدعاء لصورة ذاتية قلقة، تثور على الواقع، تتمرد على خصوصيته وشموليته، وكأن لسان حال السارد، أو بالأحرى الكاتب يقول بلسان فرناندو بيسوا: “أحمل في ذاتي الوعي بالهزيمة كبيرق انتصار”، لذلك فبنية النص القصصي في المجموعة تارة هي مفتوحة (بمبارا في شاطئ الحوزية…، ما حدث للمواطن عبد الله..، أحمد وحبيبته قطر الندى ..، السيرك القومي، ولادة جديدة)، أما باقي النصوص الأخرى، فهي منغلقة على نفسها، بحيث تبدو من خلال تداعيات عناصرها بأنها مرتبطة بالمكان أكثر من ارتباطها بأي شكل آخر.   

نسق لا تجانس اللغة ومرجعية الخطاب   

يحدد رولان بارت في دراسة تحليلية له تخص التحليل البنيوي للسرد مفهوم اللاتجانس اللغوي على الشكل الآتي: “إنه من المشروع إذن، وبعيدا عن التنازل عن كل مطمح في الحديث عن السرد بدعوى أن الأمر يتعلق بحدث كوني، أن ننشغل دوريا بالشكل السردي (منذ أرسطو)، وسيكون من الطبيعي أن نجعل البنيوية الفنية من هذا الشكل أحد مشاغلها الأولى، ألا يتعلق الأمر دائما بالنسبة لهذه البنيوية بالحكم في لا نهائية الأقوال، والانتهاء إلى وصف “اللغة” التي منها انبثقت هذه الأقوال…، وإزاء لا نهائية السرود وعدد وجهات النظر التي يمكن أن نتحدث عنها (تاريخية، سيكولوجية، إثنولوجية، جمالية إلخ…)، إزاء ذلك يجد المحلل نفسه في نفس وصفية دوسوسور تقريبا، إذ وجد نفسه أمام لا تجانس اللغة (L’hetéroclite) وهو يبحث ضمن الفوضى الظاهرة للرسالات عن مبدإ التصنيف ومصدر للوصف”38، بحيث إن هذا التحديد يدفعنا إلى الوقوف على بنية اللغة كنسق دال، ينطلق من الجملة التي هي بتعبير ـ مارتيني ـ”…أصغر مقطع ممثل بصورة كلية وتامة للخطاب”39، وهكذا تصير اللغة مكونا من مكونات الخطاب، إذ يمكن القول: إن الجملة يمكنها أن تصير خطابا صغيرا، والخطاب، بإمكانه أن يتحول إلى جملة كبيرة  بتعبير “بارتي” (نسبة إلى رولان بارت)، لهذا  نلاحظ أن القاص إدريس الصغير، “يميل … إلى الأسلوب الأدبي الشفاف المباشر المرتكز على جمل قصيرة تعيد إنتاج المرجع والتاريخ، وتلتقط التفاصيل اليومية، كما تبدو تقنية الحوار الباطني المحرك الديناميكي للمتخيل السردي”40، وبما أن اللغة السردية هي الوسيط الوحيد المتعدد الذي تتخلله نزوعات رمزية، فإنها تخرج عن نسقها اللساني الصرف إلى تمثلات ما يشمله الخطاب من معان، وهناك نلاحظ تحاور المبنى والمعنى، والنص والقارئ، وهو ما يحصل في نسق اللاتجانس اللغوي، إذ يشعر القارئ وكأنه ضمن كتابة مفتوحة على عوالم متباينة، تتجاوز منطق الحكي الكلامي إلى الحديث، يقول القاص: “لكل واحد عينه، ولكل واحد حكاية يحكيها، ولكل واحد متلق خاص يحكي له أساسا. لا أريد المساس بقواعد اللغة، حتى لا نقصد التواصل فيما بيننا. لكن من حقي أن أبني بلاغة جديدة، أتصورها تتشكل من كتابات جيل بكامله من القصاصين”41.   
هذا البحث عن كتابة قصصية جديدة، وعن أسلوب حكائي حديث ومتجدد، جعل النص القصصي عند الكاتب إدريس الصغير يستحضر تقنيات الحكاية، وأدوات التنسيق الفسيفسائية التي تخضع إلى تركيب متقن، ويعتمد العين والنسق الهندسي المتكامل، “وبذلك تطرح إشكالية الكتابة وتغيب الحكائية بالمفهوم التقليدي، وأما اللغة القصصية، فتميل نحو الكثافة والتركيز والإيحاء، وتجنب الحشو والإطناب، كما يتم استثمار خيال القارئ، إذ لم يعد هذا الأخير مجرد مستهلك لما يقدم له، وإنما أصبح مطالبا بالتأمل وملء الثغرات الدلالية التي تتخلل أحيانا الإشارات والإحالات للمساهمة في تشكيل النص”42.    
إن ملامح البلاغة الجديدة التي يبحث عنها القاص تتمثل في شعرية اللغة السردية، ودفعها أكثر إلى التكثيف الإيحائي والنفوذ القوي بالأسلوب للتعبير عن نبض الواقع والمجتمع، دون إهمال لحركية الشخوص واستدعاءات الوقائع، فالشكل القصصي هو صانع الحدث، وهو الموجه له أثناء عملية التحبيك والتركيب والتشكيل، وهذا ما لاحظناه في كثير من نصوص الكاتب، التي يستثمر فيها الأسلوب الشعري الشاعري، حتى يكاد يتقاطع الوصف مع السرد في لغة موحية ومعبرة، يقول السارد في نص “ما حدث للمواطن عبد الله”: “اليد تشابك اليد والقلب نبض. يقول الطبيب، النبض طبيعي، وأنا وأنت إنا هنا. والمحطة المهجورة تغتسل تحت شأبيب المطر. نعود واليد تشابك اليد والقلب نبض. تسكن الأسلاك الكهربائية السوداء الغليظة الصدئة، وتضيق سكة القطار الحديدية، ويصغر القطار يصفر يصفر، يذوب في الأفق وصفيره يضعف يضعف يضعف جثتان باردتان في قبرين ملتصقين تحت شجرة بلوط عجوز تصفر الريح بين أغصانها المتخشبة، متى سقط المطر على تراب القبرين نبتت الأقاحي والرياحين”43.   
إن المتأمل في لغة القص عند الكاتب إدريس الصغير، لا يكفيه أن يقف على ما دعت إليه السرديات القديمة والحديثة، من تمثلات على مستوى التكون والتشكل، بل بإمكانه أن يراهن على أفق انتظار المتلقي، وذلك مع الاهتمام باستراتيجية الخطاب وأشكال التواصل، فالمرجع هنا هو المؤسس لشرعية الخطاب، وهو بيت القصيد بالنسبة للنص القصصي، وبهذا يعترف القاص إدريس الصغير في إحدى شهاداته، قائلا: “لقد تحدث مارسيل بروست عن الذاكرة العاطفية، وتحول بطل “المسخ” لكافكا إلى حشرة، وأصبحت سيارة أجرة أحمد بوزفور برتقالة، وبطل مصطفى المسناوي يتأبط رأسه المقطوع، وعينات من البسطاء المتسكعين، تحكي همومها في قصص محمد زفزاف ومحمد شكري وإدريس الخوري، ستحضر “الفاركونيت” لعبد الجبار السحيمي تبث الهلع والفرق، وسيغني البدو على أنات الكمان في قصص أحمد زيادي، ستتوتر اللغة في “العنف في الدماغ” لأحمد المديني، لتصبح بطلا في “أوصال الشجر المقطوعة لمحمد عز الدين التازي، سيكون البوح في قصص عائشة موقيظ، حتى يتحدث يوسف الشاروني عن مؤخرة، وتمسح العين في قصص أحمد عبد السلام البقالي هواجس عينات تتأرجح علوا ونزولا بين طبقات اجتماعية عليا ودنيا: سقف إبراهيم بوعلو وحذاؤه، قنيطرة مبارك الدريبي، برق ليل إبراهيم زايد، غضب خناثة بنونة، مشارف تيه ربيعة ريحان، سيحكي يحيى الطاهر عبد الله حكايات للأمير حتى ينام، سيسخر زكريا تامر، وسيقدم يوسف إدريس أرخص الليالي، وعبد النبي دشين رائحة الورس. هذا غيض من فيض مما رأته العين، فهل لهذا السبب انقطع الرأس في قصة محمد برادة فحام فوق البقاع يتأمل بعينيه المرئيات، فيستمر التملي في تتمة للقصة عند أبو يوسف طه وعبد الرحيم مودن؟ إنها العين”44.  

خاتمة:

إن القاص إدريس الصغير عندما يستدعي كل هذه المرئيات، فهو ينطلق من ذاكرة ثرة، لها مرجعية خصبة وحية بلغة جد مسننة وحادة، تستند إلى الإيجاز، وتعتمد التداعي الحر الشاعري المبني على الانتهاك، الذي يختزل صور المشاعر الكابوسية، والمجتمع وسلبيات أمراضه النفسية وفوارقه الاجتماعية وأعطابه الثقافية، وقد استطاع القاص إدريس الصغير أن يوظف كل آليات الكتابة القصصية من منظور خاص، وذلك من خلال اطلاعه على كبار كتاب القصة العرب وغيرهم، ومعاصرته لرواد القصة المغاربة منذ الستينيات من القرن الماضي، فهو إذن كاتب قصة محترف، وله أسلوبه الخاص الذي تميز به عن سائر معاصريه من كتاب القصة العرب، خاصة في بناء المادة القصصية وعلاقتها بالمتخيل، وهذا يظهر في نماذج قصصية مختلفة، تجرب آليات متنوعة في اللغة والأسلوب والكولاج والسرد والوصف والاسترجاع والاستباق والتقطيع والتناوب.          

هوامش :  

1ـ إدريس الصغير. لماذا القصة القصيرة؟ آفاق(المغربية) .السنة 1998 .العدد 60. البوكيلي للطباعة والنشر. صفحة 159.   
2ـ أحمد بوزفور. الحكاية والقصة.ملحق الاتحاد الاشتراكي الثقافي. العدد 10.985. 17-04-2015، صفحة 8.   
3ـ تحديدات لغوية تتفق على أن القص في اللغة يرتبط بحد دلالي واحد، سواء في معجم المعاني الجامع ـ معجم عربي عربي، أوالقواميس المختلفة، ولسان العرب، وفي المعجم الوسيط، والمحيط، والفني، ومعجم اللغة العربية المعاصرة، إضافة إلى المنجد الطلاب. صفحة 594.  
4ـ أحمد بوزفور. الحكاية والقصة م . س. صفحة 8.   
5ـ  إدريس الصغير. عن الأطفال والوطن. المؤسسة المغربية للدراسات والنشر. طبعة 7.بيروت- وسوشبرس- الدار البيضاء. المغرب 1985.   
6ـ توفيق الحكيم، فن الأدب. مكتبة الآداب. ذ ت ط. ص 224.   
7ـ إدريس الصغير.معالي الوزير. سلسلة إبداعات. شراع. نوفمبر. ديسمبر 1999 (الإحالة مأخوذة من مقدمة وضعها الدكتور حسن لشكر تحت عنوان خصائص الكتابة القصصية عند إدريس الصغير ص ص 3 -4).   
8ـ إدريس الصغير. لماذا القصة القصيرة؟ م س. ص 757.   
9ـ حسن لشكر. الخصائص النوعية للقصة القصيرة التجريبية نموذجا. Adacom، ط1 . 2006 .ص 44.   
10ـ إحسان عباس. الواقعية في الأدب. المجلد 22. ص115.   
11ـ إدريس الصغير. عن الأطفال والوطن. م س. ص7.   
12ـ إدريس  الصغير. ن م. ص9.   
13ـ إدريس  الصغير. ن م. ص 8.   
14ـ إدريس  الصغير. ن م. ص11.   
15ـ إدريس  الصغير. ن م. ص14.   
16ـ إدريس  الصغير. ن م. ص 16.   
17ـ إدريس  الصغير. ن م. ص 18.   
18 إدريس  الصغير. ن م. ص 19.   
19ـ  رولان . التحليل البنيوي للسرد . حسن بحراوي – بشير قمري – عبد الحميد عقار ، طرائق تحليل السرد الأدبي. منشورات اتحاد كتاب المغرب. ط 1 .الرباط 1992. ص 37.   
20ـ إدريس  الصغير. عن الأطفال والوطن. م س. ص 25.    
21ـ إدريس  الصغير. عن الأطفال والوطن. م س. صص 27-28.   
22ـ  نفسه. ص 25.   
23ـ نفسه صص 27-28.   
24ـ إدريس الصغير.لماذا القصة القصيرة؟ م س. ص 158.  
25ـ إدريس الصغير. لماذا القصة القصيرة؟ م س . ص160.   
26ـ تزفيطان تودوروف. مقولات السرد الأدبي. طرائق تحليل السرد الأدبي م س ص 40.   
27ـ نفسه . ص 13.   
28ـ إدريس الصغير. عن الأطفال والوطن م س ص 10.    
29ـ30ـ نفسه ص 10.   
31ـ32ـ نفسه ص 12.   
33ـ نفسه ص 14.   
34ـ نفسه ص 16.   
35ـ نفسه ص 18.   
36ـ نفسه ص 34.   
37ـ نفسه. ص 59.   
38ـ رولان بارت. التحليل البنيوي للسرد. م س. ص 10.   
39ـ نفسه. ص 11.   
40ـ حسن لشكر- الخصائص النوعية….. م س. ص 48.   
41ـ إدريس الصغير. لماذا القصة القصيرة؟ م س. ص 160.   
42ـ إدريس الصغير. معالي الوزير. م س. (التقديم). ص5.   
43ـ إدريس الصغير. عن الأطفال والوطن. م س. ص23.   
44ـ إدريس الصغير. لماذا القصة القصيرة؟ م س. ص 158.

 < محمد صولة   

Related posts

Top