المرأة وسلطة الإيحاء في ديوان “على مشارف شهقة القلب”

قراءة نقدية

ولأن الشعر تماهي وحلول في الذات والطبيعة والإنسان، فدور الشاعر هو تخصيب تلك العلاقة الحية بينه وبين أسرار ذلك التماهي ليوقد ويوقظ كيمياء الجمال. في ديوان “على مشارف شهقة القلب”، وهو الإصدار الجديد للشاعر محمد الصفي ، عن منشورات جامعة المبدعين المغاربة لسنة 2020، أقول في هذا الديوان استطاع الشاعر أن يهدينا نصوصا انتزعت تفوقها من بساطتها وخفتها وأناقتها ، لتصل في تمام شفافيتها إلى وجدان القارئ / المتتبع ، شفافية جعلت من النص ينقاد ويخترق بسكون كيان هذا القارئ ويطبع على خد جوانيته ضياءات الكلمة المنسابة .. هو منجز شعري رافقتنا فيه روح شاعرة صافية تنصت لخفق الوجود و تجترح المعنى من معين الذات وفوضى العالم ، وتؤثث بصمة الكتابة الشعرية بملامح خاصة ، حتى تتحقق قيمة الخطاب الشعري، لأن ” القيمة الجمالية للكتابة الشعرية ، تكمن في تعبيرها عن جوهر القول الخاص بكل تجربة على حدة ” (التباسات الكتابة الشعرية / الأستاذ رشيد المومني). تناول الديوان مواضيع تروم الإنسان في علاقته بالوطن والحرية والحلم والقيم ، غير أن التيمة الأساسية التي شكلت لبنات و زوايا المنجزالشعري هو المرأة ورمزياتها ، هذه الرمزية التي تتعدد لتفصح عن جوهر وجماليات هذا العنصر، لتتدفق النصوص وترسم إيحاءاتها المتبلة بشهوة المجازات، فتارة تأتي المرأة لتوحي بكل ما تحمل من عنفوان وطراوة الأنثى والمحبوبة والمعشوقة ، فتتقاذف في هذا الباب رسائل الحب الحمئة ، والوجد الجارف والغياب والبعاد والحنين و الكبرياء والخيانة ، وحينا آخر تأتي المرأة لتوحي برمز الحبر والقصيدة والكتابة بصفة عامة ، فتتقاذف في هذا الباب عبارات الطوع والتمنع ، وأحيانا أخرى تأتي المرأة لتوحي بالحضن الكبير أي الوطن أو الملاذ ، فتتقادف في هذا الباب عبارات الخذلان والخيبة و القتل الرمزي ومختلف الخرابات النفسية والندوب السحيقة .. فالمرآة في الديوان ذريعة لافتعال واشتعال رسائل وتلغيزات جديرة بالكشف ليحيا القارئ لذة التشظي في منافي الفكرة ، هكذا يقودنا الشعر ويسلبنا إلى التنقيب عن مفازات المعنى ويرغمنا على التيه بين فجاج السؤال .. وبالرغم مما انساب من إيحاءات ومعاني بخصوص التيمة الأساسية فالشاعر محمد الصفي يصر أن يتوج سر وجوهر الكلمة الشعرية باحتفائه بالمرأة، واحتفائه بسمو أحاسيسها وعواطفها وجمالها وذكائها وكونها تمثل ذاك الكل المنشود بينها وبين الآخر / الرجل ، وبهما يكتمل التناغم المبتغى ، وبآصرة الحب يتحقق ذاك التناغم ويزهر المعنى الحقيقي للوجود الإنساني، فالمرأة التي يرى فيها الشاعر الأم والزوجة والأخت والصديقة حقيقة بكل عناية واحتفاء وحب ورعاية وتقدير، وجديرة بكل تتويج وتضحية ونبل . وفي المقابل نجد الشاعر أيضا يستنكر كل خذلان وخيانة وجرح باطني قد تسببه المرأة وتقتل بذلك كنه كل وصال وتواصل فترتبك قوى الروح ويرتج كل الكيان.
ولأن الكتابة محو، فالكتابة الشعرية بالخصوص انمحاء صارخ ، يعلن ويسر ميلادات لا حدود لها ، حيث الكلمات تمارس لعنتها الأخاذة واللغة تتجاوز لعبتها لتخفق شيفرة النص و يتكوثر نبض الروح ، فينطلق البوح لتمتد وتتمدد شموس حواس بأكملها ، فيشيد المجاز قلعة احتمالات وممكنات شعرية جمالية وفينة حية ومتقدة .. هكذا نجد الشاعر محمد الصفي في ديوانه ” على مشارف شهقة القلب ” يمسح عين العالم المجروحة بهبات نصوص رائقة ، نصوص تلفظ كل غموض وإرباك وثقل ، لتحلق خفيفة كدم الحب وواثقة كضوء الحلم وشفافة كرهبة النور.. نصوص تزهر الحياة في أرض الجرح وتؤجل الموت ببهجة اليقين وتبني القيم بسواعد المعنى الحقيقي للإنسان و تحقق الإنسان بشهوق الحب .. رافقنا الشاعر في هذا المنجز الشعري وهو يوزع بروحه الشاعرة نوبات مخدرة بجنون العشق ، مفعمة بأحاسيس صادقة ، أحاسيس تترنم بسر الشعر ولوعته لتحقق الخلاص المرتجى ، خلاص الجمال ، و رغبة الاحتماء بظلال الجمال الخالدة .. يقول الشاعر في قصيدة “آه لو تدرين سيدتي”:
“أتت وفي يدها أزاهير
وغصن ليمون
أتت وبعينها عبق
وسحر السنين
هي حلم
رؤى
من الأفق الأسود
أتت
قد ينام كفي نهارا
وينسلخ الصخر
تحت قدميها ويلين
فتطفو الكلمات
بين شفتيها بطعم الملح
و رذاذ الآهات
ص77″.

Related posts

Top