المطرب المغربي نعمان لحلو كرس مرحلة هامة من تجربته الفنية للتغني بمدن مغربية عديدة

ينفرد المطرب المغربي نعمان لحلو عن غيره من الفنانين المغاربة كونه خصص مرحلة هامة من تجربته الفنية للتغني بالمدن المغربية.
العديد من المدن، سواء في شمال المغرب أو جنوبه أو في غير ذلك من مناطق هذا البلد الشاسع المترامي الأطراف والغني بتعدد ثقافاته وتضاريسه وعاداته وتقاليده، كانت موضوعا أساسيا لإنتاجاته الغنائية الأخيرة على وجه الخصوص.
هذا لا يعني أن نعمان لحلو لم يتناول أغراضا أخرى في تجربته الغنائية، غير أن قسما كبيرا من هذه التجربة المتفردة، كان مقصورا على الاحتفاء بمددنا، ونستعمل هنا كلمة احتفاء بشكل قصدي، اعتبارا لأن أغانيه بهذا الخصوص لم تعن فقط بنقد الجوانب السلبية وإبراز الخصاص الذي تعاني منه هذه المدن، بل أولى بصفة أساسية الاهتمام بإظهار الصورة الجميلة التي يكونها عن كل مدينة على حدة، أخذا بعين الاعتبار الخصوصيات التي تميزها، سواء من الناحية الجغرافية أو الحضارية أو غير ذلك، دون أن يسقط في البهرجة.
لكن ما الذي يجعل نعمان لحلو يولي اهتماما للتغني بعدة مدن، في مجموعة من أغانيه، على امتداد مرحلة زمنية، لا تزال متواصلة إلى الآن؟
الجواب، يمكن أن نجده في متن هاته الأغاني بحد ذاتها، هناك إحساس لدى هذا الفنان بأن المدينة تعد كائنا حيا، وهي تبعا لذلك، منذورة للتطور والتحول، وبالتالي خشية منه أن تطمس معالم مدننا كما هي مصورة في وجدانه ووجدان معاصريه، حرص على القبض على تفاصيلها واستحضار جزء من ذكرياته معها.
هذه الأغاني إذن التي كرسها نعمان لحلو للحديث عن مدننا والتذكير بأمجادها، هي بمثابة توثيق لهذه المدن، لكنه ليس توثيقا تسجيليا ساذجا، بل تمت فيه مراعاة الجانب الفني والإبداعي، سواء من حيث الموضوع أو الكلمة أو اللحن أو حتى الأداء، إلى غير ذلك من العناصر المكونة للمنتوج الغنائي، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن تجربة هذا الفنان تنتمي إلى الفن الغنائي المعاصر والحديث الذي يهتم بالاشتغال على إيقاعات موسيقية مستمدة من تراثنا ومعبرة عن هويتنا، وهذا أمر طبيعي، بالنظر إلى أن موضوع هذه الأغاني هو بالضبط المدينة المغربية، ليس غير.
من الأغاني التي يمكن اعتبارها تمهيدا لهذه التجربة الغنائية المكرسة لمدننا، هي تلك التي أداها برفقة المطربة لطيفة رأفت والتي تحمل عنوان “جبال الأطلس”، والتي يقول مطلعها:

“أمانة عليك يا مركب وصلني لبلاد المغرب
عفيني من غربة أعوام و فرح قلبي يا مركب
أمانة عليك أمانة عليك
أمانة عليك يا مركب وصلني لبلاد المغرب
ولما فارقت عيني من يوم ما غابت المغرب
فينك يا جبال الأطلس فينك يا بلاد الأعراس
فينك يا بحور البوغاز والشمس اللى ما تغرب
أمانة عليك أمانة عليك”

إنها أغنية طافحة بالحنين إلى البلد الأصلي الذي هو المغرب، بعد غربة لا تحدد لنا الأغنية مداها، لكن شدة الشوق إليه، والانتظار بفارغ الصبر وصول المركب الذي يقلهما إلى أرض الوطن، يبين لنا إلى أي حد تلك العلاقة الوثيقة التي تجمعهما ببلدهما المغرب والتي كانت قد أرغمتهما ظروفهما على مغادرته والاكتواء بنار الغربة، وإذا كنا لا نعلم تجربة الاغتراب للمطربة لطيفة رأفت، فإن نعمان لحلو، مر فعلا من هذه التجربة، خاصة في بلدين معينين هما مصر والولايات المتحدة الأمريكية، حيث عمل على صقل موهبته وإتمام تعليمه العالي هناك، وقد ساهمت هذه التجربة في تمتين ارتباطه ببلده المغرب، وهو ما ترجمه من خلال مجموعة من الأغاني التي كرسها لمددنا على اختلافها.
***

يا شفشاون يا نوارة

لم يكن تغني نعمان لحلو بالمدن المغربية إذن وليد المصادفة، أو أنه مجرد نزوة عابرة أو موضة أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان مفكرا فيه، وكان نابعا من الإحساس بحاجة ملحة للتعبير فنيا عن ما تكتنزه مدننا من جمال ومظاهر حضارية مختلفة. وقد رأينا كيف أنه في كل أغنية من الأغاني التي أبدعها بهذا الخصوص، يبرز ذلك الإلمام بتاريخ المدينة وماضيها البعيد وأناسها الأوائل الذين صنعوا أمجادها وشرفوها بوجودهم وشرفوا المغرب ككل، يقول في مطلع أغنية عن المدينة الجبيلة شفشاون:

“مولاي علي براشد والسيدة الحرة
واراضيين عليك لآخر الزمان
يا شفشاون يا نوارة
يا الحبيبة يا المنارة
ليغارة ليغارة
بأروحنا نفديك والله علينا شاهد”

في هذا المقطع بالذات يقوم اللحن بالتعبير عن أحاسيس فياضة، وهو لحن ينسجم مع مضمون الرسالة التي حاول المؤلف أن يوصلها إلى المتلقي، والتي مفادها أن هناك خطرا يتهدد هذه المدينة المعروفة بأصالتها وتقاليدها العريقة، ولذلك لا بد من إعادة الاعتبار إليها، وهذا يتجلى من خلال التذكير بأنها عبارة عن نوارة ومنارة وحبيبة وو.. وبالتالي ينبغي الحفاظ على هذه الخصوصيات المرتبطة بأمجاد المدينة.
****

احنا ولادك يا تافيلالت

ثمة حرص من طرف الفنان نعمان لحلو في اشتغاله على الأغنية التي تتمحور حول كل مدينة على حدة، أن تكون ناتجة عن بحث عميق في تاريخ هذه المدينة، من خلال الرجوع إلى المصادر التاريخية والالتقاء بشيوخها الذين عايشوا جزءا من ماضيها المنقرض ويشكلون ذاكرة أساسية للاقتراب من واقعها وعقد مقارنة بين الأمس واليوم، ومن المؤكد أن الفنان لحلو لا يغني عن مدينة ما إلا بعد أن يكون قد زارها عدة مرات وقضى فيها أياما غير معدودة، وتشبع بطابعها الخاص، ولذلك تأتي ألحانه وأداؤه لأغانيه منسجمة مع خصوصية تلك المدينة، ففي الأغنية التي كرسها لمدينة تافيلالت، يقول:

“صور صايلة مولاتي هي … واشمن قصور
نخيل ووديان وواحات ورمال ذهبية
شتا وربيع وصيف
احنا ولادك يا تافيلالت
وولاد مولاي علي الشريف
باقيا يطو وخلافا وآيت عطا وجرافا
عايشين فحب ووفا
حكاية تحكيها لقصور
وآيت خباش وخملية والطاوس والرملية
والصحرا يا سبحان الله
كيف كانت بحور
ماشكمانا ربي هو تاوانا
وسجلماسة تجمعنا أكثر من شي ألف سنة
كي ألوان الطيف..”

في المقطع الغنائي حرص على ذكر مزايا المدينة، مدينة تافيلالت، وهي مزايا لا يمكن إلا أن تغري بزيارتها والإقامة فيها، بالنظر إلى أنها متجذرة في الطبيعة بعناصرها المتعددة، سيما وأن هذه العناصر باتت مفتقدة في العديد من مدننا التي ما فتئ يزحف إليها الإسمنت والحديد من كل حدب وصوب، حتى القاموس اللغوي في الأغنية له ارتباط وثيق بالمدينة المذكورة، إلى حد أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إلصاق – إذا صح التعبير- هذه الأغنية بمدينة أخرى، فهي ليست مجرد بطاقة بريدية، يمكن أن تنتهي وظيفتها بمجرد إطلاق نظرة عليها، بل هي أغنية مدعاة للتأمل والتفكر، وفيها توثيق لحكاياتها ولأمجادها ولتاريخها العريق بأناسه وقبائله وتقاليده مثلما فيها توثيق لطابعها الجغرافي ولمناخها الخاص.

واش عقلتي على ذيك الدار؟

لم يقتصر نعمان لحلو على ذكر المزايا الجغرافية للمدينة المغربية: الجبال، الوديان، الرمال.. إلى غير ذلك من المزايا الطبيعية، بل نجده قد لفت الانتباه إلى بعض الجزئيات التي صارت مهددة بالاندثار، مع أنها من صميم المدينة، تعد بمثابة وجهها الأصيل، سواء كانت هذه الجزئيات لها ارتباط بما هو مادي: السقاية، الدار.. أو بما هو أخلاقي سلوكي: النخوة، المعاملات البسيطة، القيمة الإنسانية.. إلى آخره. يقول في مطلع أغنيته التي تحمل عنوان المدينة القديمة:

“واش عقلتي على ذيك الدار دلمدينة لقديمة
والدنيا واشحال كان عليها د القيمة
والحومة والجيران والنخوة د ناس زمان
كانت الحياة بسيطة وكانت الفرحة ديما
هاديك الصورة مازالا فعيني غير البارح
ذكريات كيف كانت لمدينة وكيف ولات
والرحبة دالسقاية عقلتي عليها؟
اللي كانت فجنب الواد
كثرو لمعامل فيها وتبدل لون الواد
وقالوا والله أعلم
بسبابو مرضو لولاد وبسبابوا خوات الحومة
والرحبة وماليها
هاديك الدار لكبيرة فراس الحومة
تعقل على شامة؟ اللي كانت ساكنة تما
دابا هاديك الدار وقع عليها لغيار وقسموها بيوت بيوت
ومن بعد تنادم معاهم الحال ولكن حتى فات الفوت
الدار تباعت مقسومة هكذاك بيوت بيوت
وفين مشاو الخوت وفينك يا شامة ..”

من الواضح أن تغني نعمان لحلو بمدننا، شمالا وجنوبا وغربا وشرقا، نابع من الغيرة على هذه المدن، ومن خوفه على اندثار معالمها الخاصة التي تضفي عليها ذلك الطابع الخاص الذي يميزها عن غيرها من المدن، سواء داخل الوطن أو خارجه، لقد رأى كيف أن المدينة القديمة – وهنا كناية على جزء من المدينة الذي يعتبر النواة الأولى لنشوء هذا الفضاء وتوسعه- في الوقت الذي ينبغي الحفاظ على هذه البقعة منها التي تعد تراثا إنسانيا، ومنها ما هو مسجل فعلا لدى اليونسكو بهذه الصفة.
هناك نوع من التحسر يطفر من ثنايا هذه الأغنية، تم التعبير عنه بالكلمات واللحن والصوت والأداء، هناك تساؤلات عديدة يطرحها المبدع في هذه الأغنية، تنم عن إحساس بالحيرة والقلق والاغتراب.. على اعتبار أن المدينة التي كان يعرفها منذ زمان، قد فقدت وجهها الحقيقي، حتى أناسها تغيرت سلوكاتهم نحو الأسوأ بالنظر إلى التحولات التي طرأت على المجتمع، وانعكس تأثيرها على كل شيء.
****
تلك مجرد عينة من المدن التي تغنى بها نعمان لحلو، فهناك بلا شك العديد من المدن التي لا يتسع المجال للوقوف عندها، فبالإضافة إلى المدن المذكورة، غنى لحلو عن طنجة وزاكورة ووزان ووو.. وغيرها من المدن، ويمكن القول بصفة إجمالية أن اشتغال هذا المطرب والملحن على المدن المغربية، لا يتم بسذاجة وبشكل سطحي، بل ينم عن إلمام عميق بكل مدينة على حدة، بحاضرها وماضيها، وهو تبعا لذلك يضع اللحن الذي يوازي فضاءها الخاص، وهو لحن يستمد إيقاعاته في الغالب من تراثنا الغنائي الأصيل، كما أن هناك حضورا قويا للشعر الحكائي والقصصي في الأغاني، المغني في هذه الأعمال المكرسة للمدن المغربية، يحكي ويتذكر ويذكر وينذر ويتحسر ويبكي ويعبر عن قلقه وحيرته بالقدر نفسه الذي يعبر فيه عن إعجابه وسعادته، كل ذلك من أجل أن يوصل رسالة محددة، مفادها أن المدينة هي بمثابة كائن حي، وبالتالي ينبغي رعايته وعدم التفريط فيه.

> بقلم: عبد العالي بركات

Related posts

Top