المنظومة القيمية بين التغيير و التحول.. “الالترات” نموذجا

تشكل الفرجة الرياضية اليوم، إحدى الأشكال التعبيرية السوسيوانثروبولوجية البالغة الأهمية، نظرا لتعاظم دورها في المجتمع العالمي اليوم، حيث لم تعد الفرجة مسألة عفوية كما كانت في السابق، بل أصبحت صناعة وبناء اجتماعي يسهر عليه العديد من الفاعلين المنضوين تحت ما يسمى ب “الالترات” أو في جمعيات محبي الفرق الرياضية، مما أعطى لهذه الظاهرة (أي الفرجة) نوعا من التميز والفرادة واللطافة حتى.
وباعتبار أن الملاعب الرياضية، سواء في المغرب أو خارجه، ليست في اعتقادنا سوى مجالات عامة، تعكس جزء مما يعتمل في المجتمع من تحولات وانتقالات وتغيرات على مستوى القيم والرموز والأشكال وطرق الفعل ومبادئ السلوك والتصرف والاتجاهات، ونجازف في القول أن مجال الملعب أضحى حمالا للدلالات و المعاني و الرموز…وهذا المجال هو انعكاس جزئي للمجتمع العام.
فيمكننا ها هنا استدعاء المتن النظري الذي جاء به ارفين كوفمان Erving Gouffman، وهو سوسيولوجي أمريكي ينتمي لمدرسة التفاعلية الرمزية و هي تيار سوسيولوجي معاصر يحاول دراسة التفاعلات في الحياة الإجتماعية باعتبارها مسرحا ومجالا خصبا تنتشر فيه مجموعة من التفاعلات بين الأفراد، وعليه سنحاول توظيفه أو تكييفه بتعبير الجابري في فهم جملة التفاعلات في هذا المجال (الملعب) باعتباره مجال مفتوح يضم في كنفه مجالات عدّة مغلقة.
و سنحاول باعتماد هذا الإطار النظري لـ Gouffman دراسة التفاعلات اللامحدودة التي تجري في هذا المجال المفتوح بين الأفراد المنظويين تحت عباءة “الالترات” و هذا انطلاقا من مفهوم أساسي عنده هو وجها لوجه face to face، أي حين يكون فرد في وضعية وجها لوجه مع فرد آخر أو مع جماعة، أو جماعة في مقابل جماعة.

ثلاثة عناصر تفاعلية

في قلب هذا المجال (الملعب) الذي اعتبرناه وفق Gouffmanكمجال مفتوح سندرس ثلاثة عناصر من أجل فهم ديناميات التفاعل بين الفاعلين الذين ينتمون “بالالترا” و هي الأشكال و القواعد و الأدوار، أي أننا سندرس الطبيعة التفاعلية لكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة، و هذا سواء في الملعب كمجال مفتوح أو كمجال يتضمّن مجالات عدة مغلقة و بالتالي فالدراسة ستنكب على العناصر الثلاثة السالفة الذكر.
و الحال أن الإطار النظري الذي جاء به Gouffman يساهم و يساعد على فهم الجانب التفاعلي الذي طرأعلى الملعب و سنعتبره كقنطرة و كخطوة أولى من أجل فهم الجزء الثاني لهذا المقال أي التحول القيمي.
بالتالي فإن دراسة سوسيوأنثروبولوجية تصبح أكيدة ومشروعة وذات قيمة قصوى في ظل غياب الانتاجات ذات الصلة بمثل هذه القضايا الجديدة في مجال السوسيولوجيا والسوسيولوجيا الرياضية تحديدا.
إنه من أجل فهم هذا التغير القيمي الحاصل في مجال الملعب في علاقته ب “الالترات” كتنظيم قديم و جديد لابد من اعتماد السوسيولوجيا التاريخية، و هو الدرس الذي علمتنا إياه الابستمولوجيا، وإذ نعتبر أن عملنا ذو طبيعة عليمة صرفة، فذلك ما يسمح لنا بملامسة هذا الموضوع، ومحاولة تفكيك عناصره وتجلياته ومجالاته وآفاقه المستقبلية، أي تحليل الفعل الفرجوي المنظوي تحت”الالترا”، على مستوى الخطاب وعلى مستوى السلوك الفردي والجماعي، وعلى مستوى العلاقات والمحيط، دراسة الفعل الفردي كفعل مستقل و في الآن ذاته مرتبط بما هو جماعي ، حيث لا يمكن فهم سلوك الفرد إلا بالرجوع للجماعة التي ينتمي إليها، أي “الالترا”.
وسنحاول تسليط الضوء على منظومة القيم بين التحول و التغير الذي يطبع ذات المنظومة في مجال الملعب …و هو انعكاس جزئي لجملة التغيرات التي جرت في نهر القيم بالمجتمع و كأننا إزاء مجتمع مصغر للمجتمع الكلي و مفهوم القيم هنا سيثير جملة من الالتباسات الاثمولوجية و الابستمولوجية.

مفهوم التغير وليس التحول..

إن البنية الرياضية قبل تاريخ 2005 كانت تشهد منظومة قيمية كلاسيكية تؤثث الملاعب الرياضية سواء على مستوى الأهازيج أو الخطاب و خلافها.. فكان المشجعين آنذاك ينضوون تحت جمعيات ذات توجه رياضي تاطيري، لكن بعد 2005 وجدنا أنفسنا بصدد منظومة قيم أخرى، بديلة إن صح التعبير، تحمل خطاب من نوع أخر و لغة أخرى و هذا التحول القيمي ساهمت فيه” بالالترا”. على مستوى المفاهيم المعتمدة في هذا الموضوع يقتضي منا اعتماد مفهوم التغير و ليس التحول .
فحسب تعريف Guy Roche التغير يعني تبدل على مستوى البنية الاجتماعية ناتج عن الفعالية التاريخية لبعض المجموعات الاجتماعية و هو تبدل قابل للملاحظة، و أن التغير شمل جوانب من البنية لا كل البنية، مما جعل ذات البنية تستمر لكن مع تغير في شكل عناصرها البنيوية.
وهذا التغيير ناتج عن فعالية بعض المجموعات و هي في هذا السياق مجموعات “الالترات”، التي ساهمت في التغير القيمي الحاصل في البنية الرياضية.
وهذا التغير قابل للملاحظة و نتبينه بعد 2005 (“الالترات” كأسلوب حياة..”الالترات” فوق القانون..الوفاء للباش..عقلية الكورفا..الحركية الجديدة …وخلافها ).
ويضيف ذات الباحث أن القيم تتضمن شحنة انفعالية تستدعي انتماء عاطفي و أحاسيس قوية..و الشحنة العاطفية للقيم هي التي تفسر الثبات النسبي للقيم عبر الزمن و ذات الشحنة تفسر المقاومة التي يلاقيها تغير القيم و تبدلها داخل أي مجتمع..والقيم ها هنا هي طريقة في التفكير و الفعل عند الأفراد و الجماعات و توجه السلوك و المواقف.
هنا البنية الرياضية كانت تتوفر على قيم و معايير شأنها كشأن بنيات أخرى (اجتماعية، اقتصادية، سياسية…) و مع مرور الزمان وقع تغير في هذه القيم المتواجدة في كنف البنية الرياضية و من ثمة نسبيتها. كما أن القيم تتحدد لنا في مسالة الانتماء و تستدعي انتماء عاطفي و هذا ما نجده مع الفاعلين في “الالترات” حيث نجد ذاك الانتماء و الارتباط يكون في المجمل عاطفي و فيه نجد شحنة انفعالية و أحاسيس قوية تجعل من الأفراد يحسون بالانتماء و البحث عن الهوية من داخل هذا “الالترات”.
هذه الشحنة العاطفية التي كانت متواجدة في البنية الرياضية قبل 2005 هي التي تفسر هذا التبات النسبي للقيم، حيث انه على الرغم من وجود قيم جديدة جاءت بها “الالترات” إلاأن القيم التقليدية أو السابقة لا زالت هي الأخرى موجودة في ذات البنية .
و لا يمكننا في هذه الحالة استخدام مفهوم التحول، بحيث أن هذا المفهوم الأخير يعني تغيرا جذريا يقع في البنية، في حين أن البنية الرياضية لم تتغير بشكل جذري و إنما تغيرت جوانب منها و شكل العناصر البنيوية فيها.
كما أن التحول يعني القطع مع السابق و هذا ما لا يوجد في البنية الرياضية المغربية و ما يعتمل فيها من ظواهر، و كما يقول GEORGE BALANDIER إنه لا يمكننا الحديث عن التحول ما دمنا في ذات البنية.
وأثناء محاولتنا مقاربة هذا التغير الحاصل في منظومة القيم بالبنية الرياضية أجدنا نستدعي الفيلسوف الألمانيHEGEL FRIEDRICH و الكيفية التي قدم لنا بها الدياليكتيك (الجدل) فابرز لنا أن هناك فكرة و هناك نقيضها و عنهما يخرج التركيب وبدون الوقوع في مقارنة آلية فهذا ما وقع على مستوى البنية الرياضية، حيث أن منظومة القيم التقليدية احتكت مع منظومة القيم الجديدة مما أدى بنا إلى منظومة قيم ثالثة برزت في الأفق و هي التركيب أو المركب بتعبير هيغل.
و بما أننا نتحدث عن التغيرات التي همت المنظومة القيمية على مستوى البنية الرياضية في مجال الملعب، فإننا نستشف أربع أشكال من التغيرات التي جرت تحت جسر القيم و هي:
-أولا: جملة من القيم كانت و لازالت و لكن شكلها تغير.
-ثانيا  جملة القيم التقليدية اندثرت و حلت محلها قيم جديدة.
-ثالثا: جملة القيم التقليدية اندثرت و لم يكن لها بديل.
-رابعا: جملة من القيم الجديدة قد ظهرت لم تكن موجودة من قبل.
خلاصة القول أننا بصدد موضوع يستدعي الحذر الابستمولوجي و المنهجي نهيك عن النضج الفكري و لما لا الاستعانة بالخيال السوسيولوجي الذي جاء به رايت ميلز، و هذا ما يجعلنا نقول انه قد جرت مياه كثيرة في نهر القيم.

< المسعودي أنوار (طالب باحث في السوسيولوجيا)

Related posts

Top