في تصنيفه للشخصيات الروائية إلى نمطين، من حيث علاقتها بالحبكة، يرى الروائي الأميركي هنري جيمس في مقال شهير له بعنوان “فن الرواية”، أن ثمة نمطا يخضع فيه الفعل أو الحبكة للشخصية، وأن كل قصة أو رواية هي وصف لسمات شخصية. وإذا كان الاثنان مرتبطين دائما فإن الشخصية، رغم ذلك، أكثر أهمية من الفعل، وهذا يعني السايكولوجيا، أو أن غاية السرد إبراز خصائص الشخصية، فكل محكي هو “وصف للطباع”.
لكن الناقد تزفيتان تودوروف يرفض ذلك في كتابه “مفهوم الأدب”، مستندا إلى وجود تقاليد سردية لا تكون فيها الأفعال في خدمة إبراز الشخصية، بل إن الشخصيات تكون خاضعة للفعل، وهي تعني شيئا آخر غير الترابط النفسي، أو وصف السمات الشخصية. ومن أمثلة تلك التقاليد “الأوديسة” لهوميروس، و”الديكامرون” لبوكاتشيو، و”ألف ليلة وليلة”، التي يغيب فيها التحليل الداخلي للشخصيات، أو وصف حالاتها النفسية.
أهمية الشخصيات
-في ألف ليلة وليلة، يجد تودوروف أن أول تعارض يقوم بين القصة التي أطّرها جيمس وحكايات الليالي هو ما يبدو له على النحو الآتي: إذا كانت ثمة جملة في السرد تشير إلى أن “ك يرى ل” فإن الأهمية التي يوليها جيمس تكون لـ”ك”، في حين أن “ل” هي التي تأخذ الأهمية بالنسبة لشهرزاد، فالقصة النفسية تعتبر كل فعل طريقا يفضي إلى شخصية القائم به، لأنه تعبير عنه، وإن لم يكن هو كذلك فإنه عرض من أعراضه، ولذا لا يُعدّ الفعل لذاته، بل في تعديه إلى موضوعه.
أما حكايات ألف ليلة وليلة فهي، على العكس من ذلك، إذ إن أفعالها غير المتعدية هي التي تجليها: فالحدث يقتضي نفسه، ولا يقتضيه غيره ليكون أثرا دالا على هذه السمة الشخصية أو تلك. ولذا فإن تودوروف يعدّ ألف ليلة وليلة من “الأدب الإسنادي”، فالتركيز فيها يكون دائما على المسند، وليس على المسند إليه في الجملة، ويرى أن المثل المشهور على اختفاء المسند إليه قاعديا تعبّر عنه حكايات السندباد البحري، إذ أنها، رغم كونها تروى على لسان الشخص الأول، تبقى غير شخصية (مبنية للمجهول)، ويكون التسجيل بموجب هذا ليس “ك يرى ل”، بل إن “ل يُرى”.
ويلاحظ تودوروف، في السياق نفسه، أن الشخصية في ألف ليلة وليلة هي الحكاية المحتملة، إنها حكاية الشخصية، وإن كل شخصية جديدة تعني عقدة جديدة، ويصف ذلك بـ”مملكة البشر – الحكايات”، فما إن تظهر شخصية جديدة حتى تنقطع الحكاية السابقة لتبدأ حكاية أخرى تتلى علينا. وهكذا تشتمل الحكاية الأولى على الثانية. وهذه الطريقة تسمى “التضمين”.
لكن تودوروف يستدرك فيقول إن هذا ليس هو المسوّغ الوحيد للتضمين، بل ثمة مسوّغات أخرى، ففي “الصياد والجني” تؤدي الحكايات التضمينية دورا برهانيا، الصياد يتخذ من حكاية “دوبان” عذرا يسوّغ فيه قلة عطفه على الجني. ويدافع الملك في هذه الحكاية عن موقعه عبر موقف الرجل الغيور وأنثى الببغاء. كما يدافع الوزير عن أقربائه بدفاع الأميرة والغول.
وفي حكاية “الأختان الغيورتان من أختهما الصغرى” يكون التعاقب الزمني هو التعليل الوحيد للتضمين، لكن وجود البشر – الحكايات هو الشكل الأكثر إدهاشا للتضمين من وجهة نظر تودوروف، فثمة حكايات في ألف ليلة وليلة تبعث على الدوار، مثل حكاية “الصندوق الدامي” التي تضرب الرقم القياسي في التضمين “شهرزاد تحكي أن… جعفر يحكي أن… الخياط يحكي أن… الحلاق يحكي أن… أخاه ‘وهم ستة’…”. وتُعدّ الحكاية الأخيرة من الدرجة الخامسة. وتصل طريقة التضمين إلى ذروتها مع التضمين الذاتي، أي عندما تجد الحكاية المتضمنة نفسها وقد تضمنت ذاتها في الدرجة الخامسة أو السادسة.
الحكاية الناقصة
يربط تودوروف بين استمرار رواية الحكايات وتعددها، في ألف ليلة وليلة، وبقاء الرواة على قيد الحياة “فروى يساوي عاش”، والمثل الأكثر بداهة هنا هو شهرزاد نفسها، التي تعيش فقط ما دامت تستطيع أن تتابع الحكي، وإذا ما توقفت فإن مصيرها الموت على يد شهريار.
ويتكرر هذا الموقف في داخل الحكايات، فالدرويش استحق غضب العفريت، لكنه حظي بعفوه لأنه حكى له قصة “الحمال والنساء”، وكذلك الحال بالنسبة للعبد الذي ارتكب جريمة، فلكي ينجو بحياته فإن سيده لا يترك له إلا حظا واحدا “إذا رويت لي حكاية أكثر إدهاشا من هذه، فسأعفو عن عبدك، وإلا فسأعطي الأمر بقتله”، هذا ما يقوله الخليفة.
وثمة أربعة أشخاص اتّهموا بقتل أحدب، فوعدهم الملك بأن يصفح عنهم إذا كانت حكاية الثاني أكثر إدهاشا من حكاية الأول. وحين وجدها ليست كذلك “أجاب: يجب أن أنفذ حكم الإعدام فيكم أنتم الأربعة”.
ويستنتج تودوروف من المثل الأخير أن غياب الحكاية ليس هو الوجه المعاكس الوحيد للمعادلة: حكاية – حياة، بل إن الحكاية الناقصة تساوي الموت أيضا. وكذلك تعرّض الرغبة في سماع حكاية المرء إلى مخاطر قاتلة، فإذا كانت الثرثرة تنجي من الموت فإن الفضول يؤدي إليه كما في حكاية “الحمال والنساء”.
وأخيرا يقف تودوروف على خاصية بنيوية أخرى في ألف ليلة وليلة تتمثّل في حاجة الحكاية المتضمنة إلى أن يعاد أخذها في حكاية أخرى لأنها لا تكتفي بذاتها، بل تحتاج إلى تطويل، وإلى إطار تصبح فيه جزءا بسيطا من حكاية أخرى، وكأنها تمتلك شيئا تتمه، أو فائضا، أو ملحقا يبقى خارج الشكل المغلق الذي ينتجة تطور العقدة.
وتأخذ هذه التتمة عدة أشكال، أكثرها شيوعا هو البرهان والحجة، كما في حكاية الملك الجاحد الذي أهلك الطبيب دوبان، بعد أن أنقذ هذا حياته، فهي تحتوي على شيء أكثر من هذه الحكاية نفسها. وبسبب ذلك فإن الصياد يرويها.