النموذج التنموي الجديد: لنتناقش من دون أحكام مسبقة

منذ الإعلان عن تقرير النموذج التنموي الجديد، مباشرة بعد تقديمه، يوم الثلاثاء الماضي، أمام جلالة الملك، بدأت تتهاطل التعليقات من كل جهة، وتتعدد القراءاتُ والتأويلاتُ، وتتكاثر اللقاءات والمناظرات. ومن المرجح أن يزداد ذلك اتساعا في المستقبل. وهو أمر إيجابي في حد ذاته، بالنظر إلى كونه يساهم في تغذية وتنشيط الحوار في بلدنا، خصوصاً خلال هذه المرحلة ما قبل الانتخابية. حيث يجب القول إنه على الرغم من التأخر المُسجل في بلورة التقرير المذكور، إلا أنه جاء في وقته المُناسب.
إن كافة المغاربة مدعوون إلى مناقشة هذا التقرير والتعليق عليه، ولم لا انتقاده، إِن اقتضى الأمر ذلك، شريطة أخذ ما يكفي من الوقت لقراءته من دون خلفيات أو أحكام مسبقة. ولذلك ينبغي، في رأينا، تفادي السقوط في أحد المنزلقَيـن: القيام بالتطبيل والتصفيق للتقرير دون تَحَــمُّــلِ عناء الاطلاع على محتوياته ودراستها؛ أو أيضا اتخاذ موقف سلبي إزاءه، بشكلٍ إطلاقي، ورفضه مِــنْأساسه بنوع من التعصب. فكلا الموقفين، سواء التبريري أو العدمي، لا يعتبران فقط غير ممنتجين، بل إنهما مضران. باعتبارهما معا يصبان في اتجاه معاكس للممارسة الديموقراطية، بالإضافة إلى كونهما يُساهمان في الكسل الفكري وتكريس ثقافة الحد الأدنى من الجهد.
بالمقابل، فإن القراءة السليمة والبناءة تتطلب، من وجهة نظرنا، البحث أولا عن الفهم، ثم تحليل الوقائع والمعطيات والنص والسياق، والتمييز بين المأمول وبين الممكن. فـمن خلال تبني هذه المقاربة في القراءة، سوف نتوصل بالضرورة إلى نقط الالتقاء ونُقط الاختلاف. كما أنهينبغي، من جهة أخرى، قراءة التقرير،باستحضار التكليف الذي أُسند للجنة من طرف جلالة الملك، كما تم التذكير به في مستهل التقرير الذي نحن بصدده.
انطلاقاً من كل هذه الاعتبارات الأولية، نُسجل استغرابَنا حينما نجد بعض المُعلقين يُقْـــدِمُونَ، غداة تقديم التقرير، على كتابة أشياء لا يُمكن قبولها إطلاقا ولا تستقيمُ منطقيا. من قبيل أن «تقرير الخمسينية كان أكثر جرأة وأفضل من تقرير النموذج التنموي»!
صراحة: أن نُقارن ما لا يقبل المقارنة هو أمر يعود إلى الغباء. فحتى لو افترضنا جدلا أن هذه المقارنة واردة وممكنة، يَــحِــقُّ لنا أن نتساءل كيف لأستاذنا الجامعي أن يقوم بهذا التمرين، وأن يخلص إلى هذه الخلاصة، في مجرد ليلة واحدة، ويقرأ علينا في الصبيحة الباكرة من الغد المُوالي فتواه العجيبة تلك؟! اللهم إلا إذا كان قد استعان بقوى ميتافيزيقية خارقة، أو ب»الجن» كما يقالُ في الخيال الشعبي!!
هذا، دون الحديث عن العدميين الذين يكررون دوماً نفس الأسطوانة المشروخة، سواء كان التقرير أو لم يكن. حيث أنهم اتخذوا موقفاً بخصوص عمل اللجنة، منذ تشكيلها، وحتى قبل أن تشرع في عملها، مُعتبرين أن الإصلاح الدستوري شرطاً مُسبقاً لكل عمل، مُتغاضين عن كل المُستجدات الإيجابية التي حملتها مقتضيات دستور سنة 2011.
والآن، بعدما تم توضيحُ إطار الحوار، نأمل، بكل تواضعٍ، المساهمة فيه، من خلال تناول الموضوع في مرحلة أولى بشكلٍ عام، مع الأمل في العودة إلى مناقشة القضايا القطاعية والمُــدقَّــقة.
بدايةً، يتعين التنويهُ بالطريقة التي اعتمدتها اللجنة، وهي طريقة تشاركية قائمة على الإنصات والعمل الميداني. فالشهادات وجلسات الاستماع المدونة في مُلحقٍ خاص بالتقرير تُشكل، إلى جانب المذكرات الموضوعاتية، مرجعية ضرورية لتقييم عمل اللجنة. وهذه الوثائق جميعها متوفرة للعموم على موقع https://www.csmd.ma/ بالنسبة لمن يريد أن يطلع عليها. أما التقرير التركيبي، على الرغم من أهميته، فهو لا يتضمن ما يكفي من المعطيات والعناصر التي تسمح بتقييمٍ موضوعي للنموذج التنموي الجديد المُقتَــرَح.
ومن جهة أخرى، فالمنهجية المـتـبعة لا تخرج عن القاعدة، فهي منهجية كلاسيكية نجدها، تقريباً، في مختلف التقارير، حيث يتم القيام بالتشخيص قبل تقديم اقتراحات الحلول.
فالتشخيص المُــقّدم، والذي أكدته بجلاء جائحة كوفيد 19، لا يمكن التشكيك فيه، وهو معروف لدى الجميع. وكان بإمكان التقرير أن يقتصر على تلك العبارة التي صرحت بها إحدى المُسْــتَجْوَبات، وهي طالبة: «هناك من يتوفرون على كل شيء، وهناك من لا يملكون أي شيء». ولا شك في أن اللجنة استعارت هذه العبارة واقتبستها، عن وعي، في مُستهل الجزء المتعلق بالتشخيص. فهي عبارة مُبالَغٌ فيها، بكل تأكيد، إلا أنها تُترجم، إلى حد بعيد، ما يفكر فيه ملايين المغاربة الذين يَــئِــنُّــونَ تحت وطأة التهميش ومحنة الحرمان من الحقوق الأساسية الضامنة لكرامة الإنسان. ومع ذلك لا ينبغي «الإلقاء بالرضيع مع ماء الاستحمام». ذلك أن الحصيلة تتضمن، بالتأكيد، إيجابيات وسلبيات. ولكن طالما أننا نبحث عن «الجديد» فقد تم التركيز على ما هو سلبي من أجل تجاوزه ومعالجته.
وعلى هذا الأساس، حدد التقرير أربعة مُعيقات وكوابح في وجه التنمية: غياب التناسق العمودي بين الرؤية التنموية والسياسات العمومية المُعلنة وغياب الالتقائية الأفقية بين هذه السياسات؛ بطء التحول البنيوي للاقتصاد من جراء عدم كفاية ضبط الحقل الاقتصادي؛ ومحدودية قدرة القطاع العمومي في ما يخص تصور وتنفيذ السياسات العمومية والخدمات العمومية ذات الجودة؛ الشعور بضعف الحماية وعدم القدرة على التنبؤ الذي يحد من المبادرات بسبب الهوة ما بين بعض القوانين، التي تتخللها مناطق رمادية، من جهة، والواقع الاجتماعي، من جهة ثانية.
ولذلك، بات التغيير متّخذاً طابعاً استعجاليا بنفس قَدر ضخامة المشاكل وعمق التحولات التي يشهدها العالَم والتي سيشهدها خلال العشريات القادمة. فالعالم ما بعد كوفيد 19 صارت معالمه تتضح بجلاء أمام أعيننا. وبلادنا ليس لها الحق في أن تتصرف كمتفرج عادي. ولهذا ينبغي أن تُعطيَ لنفسها طموحاً وتحدد أفقا زمنيا بأهداف مضبوطة.
هكذا، فالطموح تم تلخيصه من قـبل التقرير في هذه الصيغة المقتضبة «دولة قوية ومجتمع قوي». وهذا الطموح هو طموح مغرب مزدهر، ومغرب الكفاءات، ومغرب إدماجي ومتضامن، ومغرب مستدام، ومغرب الجرأة. أما الأفق الزمني فقد حدد في عام 2035. والأهداف تم الإعلان عنها بوضوح إلى درجة المراهنة بترقيمها، بما فيها تقدير التكلفة المالية للنموذج التنموي الجديد. وهي قضايا سنعود إليها في القريب.
أخيراً، لقد كان بالإمكان أن يكون التقرير أكثر وضوحا لو اعتمد أسلوبا سهلا وسلسا وأقل تعقيدا، ولو تفادى استعمال بعض العبارات الرنانة التي تعود إلى التسويق/الماركوتينغ السياسي.

> بقلم: د. عبد السلام الصديقي

Related posts

Top