تستطيع القصة القصيرة أن تتحول إلى أداة للبحث والغوص في النفسيات ودهاليزها، ضمن الوضعيات
الاجتماعية القاتمة. بهدف الامساك بنبض الهوامش الملقاة لمصيرها الأعزل. في هذه الحالة، يمكن لهذه القصة أن تتخلق بين الواقع والمتخيل، ضمن مربعات تتحسس قوائمها، أعني على وعي بوجودها المرتعش. حضرتني هذه الفكرة المركبة، وأنا أقرأ المجموعة القصصية “أحلام معلبة” الصادرة عن مكتبة سلمى بتطوان، مؤخرا للقاص البشير الأزمي.
المجموعة تلك، اختارت رصد معاناة أسرة واحدة، في تركيز على أفرادها من أبناء، و بالأخص المدعوة قيد السرد “سليمة” والأم والأب، في علاقاتهم جميعا بالعالم الخارجي الذي يعتبر بشكل من الأشكال الملمح لها هنا، سبب تعاستهم وهشاشتهم الاجتماعية. ورد في المجموعة قيد النظر، في قصة “ذكريات الصمت”: أحتفظ بذكرياتي للصمت.
أحدق في وجه أمي، تجاعيد وجهها تشي بالمعاناة التي عصفت بها خلال ما مر من زمن، تحاول أن تخفيها وراء ابتسامة جهدت في رسمها على محياها. باهتة هي ألوان الابتسامة، تنفلت منها، تجهد ذاتها في إعادتها لتستقر على شفتيها اللتين اعتصرهما الحزن، تسقط منها وتضيع في بحر الأسى. عميق هو بحر الأسى الذي تسبح فيه أمي من فترة، من يوم ألقى أبي الياطر في ميناء العبث.. بحر أمواجه العالية، العاتية تحاصرها. تلفها وترمي بها إلى قعر الألم والمعاناة، وأبي على ربوة اللامبالاة واللامسؤولية يرمي ببصره صوبها وبشيح وجهه عنها، تاركا إياها تتقاذفها أمواج الانكسار. تجهد أمي نفسها في التصدي له، ترميه بنبال كلماتها شبه المكسورة، غير القادرة على اختراق صدره”.
لهذا فهذه المجموعة تؤسس لوحدتها الموضوعية، أي أننا نرى التيمات تمتد في القصص. منها تيمة الطفولة المغتصبة أي حرمان الأطفال ومطاردة عيون البشر لهم أو ما تسميهم المجموعة بالذئاب البشرية. فضلا عن سلطة الأب الذكورية وتربص الآخرين بالأسرة، أثناء منعطفات الحياة، منها الموت . . لهذا فالمجموعة تغوص في النفسيات، سعيا إلى رصد ما يسري في الدواخل، في صلته بالآخر. بهذا، المجموعة تزخر بحمولات اجتماعية ونفسية. انطلاقا من أسرة، في سعي حثيث إلى تصوير الملامح والحالات، طبعا في شرك القصة الذي له إرغاماته منها أن الكاتب اختار تكسير السلطة الذكورية ولو من خلال اختيار سارد “امرأة”، في تقمص للحالة والوضعية. وفي هذا تعميق لمقولة السارد التي هي في واقع السرد، طريقة في الحكي أي تقديم الحكاية بشكل ما. وهو ما سعت إليه المجموعة من خلال تثبيت عين امرأة، مشاركة في الأحداث، تقيم بين الواقع و المتخيل السردي أيضا. في هذا السياق، فالحكاية في المجموعة تعتني بالحالات ضمن وضعية اجتماعية خانقة. وبالتالي فالأحداث تتطور تصاعديا، بنفس درامي يعمق الملامح والحالات النفسية من خوف وتردد وقلق، فكان من الطبيعي حضور الوصف في أشكاله العديدة، وصف الشخوص في جدلية مع الأمكنة التي غدت بدورها مشاركة في بناء الدلالة العامة للنصوص. بل أكثر من ذلك، هناك نوع من التوازي بين الحدث والمكان الذي بدا ضيقا، مهمشا.. إنه مكان ذو امتداد في التاريخ وفي النفسيات أيضا. نقرأ من نفس المجموعة مقطعا حكائيا في قصة “سكون الليل”:
” فؤادي ينفطر عند ناشئة الليل .. الظلام يسربل المكان ووطأة المشاعر الثقيلة تجثم على صدري، ظل الألم يطل من عيني أمي تحت ضوء بئيس للشمعة اليتيمة بالبيت. نفذت كل الشموع التي كانت متواجدة. علينا أن نقضي الليالي المتبقية تحت سلطة الظلام. وعلى أمي أن تقضي ما تبقى لها من الحياة تحت وطأة ظلام وظلم أبي. لم تعد طيور السعادة تحلق فوق عش الزوجية،
هشا وقابلا للانكسار أصبح”.
اختارت المجموعة أرضها السردية أسرة، تشخص
معاناة حياة رقعة جغرافية لها أحلامها الصغيرة من لعب وتطلع لحياة سوية وكريمة. لكن الصد يلازمها بأشكاله. ومنه تحركات شخوص متسلطة بدافع الرغبة والغريزة. كأن الأمر يتعلق بعلاقات حيوانية لا منبه أو موجه لها. ضمن هذا المستنقع، تبدو حياة الأطفال والنساء آثمة ومحاصرة. كما أحلام معلبة، ليس فقط أحلام أسرة بل أحلام القصة أيضا التي تسعى إلى تكسير ذاك التماس بين الواقع والمتخيل. فكان الوصف السردي موغلا في رمزية تنسج عن قرب، من عناصر المحيط ( بحر، ظلام، نوافذ، فراشات…). ورد في قصة “وخز الأحلام”، من نفس المجموعة: ” أسبح بنظري إلى الأفق بهيام .. أيد كثيرة متشابكة، تريد الالتفاف حولي وإخراجي للفضاء الرحب، وأنا أجهد نفسي للانفلات من قبضتها والبقاء، لفترة غير محددة، في رحم أمي.
بدأ الحقل يقفر واليوم الغائم يزداد جهمة والتراب الداكن للأرض يحدث في العين والقلب شقوقا غائرة. طيور سود تحوم فوق رؤوسنا وتصدر أصوات شؤم نذير وأمي تردد أدعيتها بصوت هافت ودون توقف”.
أعرف القاص البشير الأزمي الذي تدرج سردا في هدوء. إنه يبني مربعاته القصصية على حافة الواقع، ساعيا إلى رصد غرابته، من خلال استقصاء ما تنطوي عليه الهوامش. كأنه يهدف إلى تدوين سيرة المحيطات المرمية لمصيرها وقدرها. فكان لا بد من حضور الاجتماعي، وبأدق اليومي، في جدل مع النفسي. ويبدو أن القاص يركز على ما هو نفسي، ليس بمنظور علم النفس ولكن من خلال وصف حاذق يقدم الصفات والحفريات الصموتة، في ارتباطها بالأحداث والأفعال الدقيقة. وهنا تبرز يد الصانع التي تنسج قصة عارفة بالواقع والسرد. لهذا، في تقديري، وجب انصاف القصاصين، من خلال ضبط الخصوصيات السردية والاختيارات الجمالية. وفي ذلك غنى للمدونة السردية مغربيا وعربيا. والبشير الأزمي واحد من تلك الأقلية التي تعارك الواقع في السرد، دون ذوبان الآليات الجمالية التي تتخلق بين الواقع في تناقضاته وغرابته، و المتخيل الذي يصنع حلة سردية مناسبة لفكرة أو رغبة صغيرة.
بقلم: عبد الغني فوزي