لا بديل عن الوحدة النقابية في جميع المراحل والظروف لحماية المكتسبات وتحصينها وتحقيق مطالب الطبقة العاملة، وبالرجوع إلى التجارب الماضية منذ مرحلة الاستعمار الفرنسي نجد أن الحركة النقابية كان لها دور كبير بفضل وحدتها في إخراج المستعمر، وخلال المرحلة الممتدة من 1956 إلى 1960 قامت بأدوار طلائعية في إطار الاتحاد المغربي للشغل، إذ عرفت توسعا كبيرا في جميع القطاعات على المستوى الوطني أدى إلى إبرام العديد من الاتفاقيات الجماعية، وإلى تحقيق مكتسبات كبيرة، وفي إطار الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل تم القيام بخطوات كبيرة ومنها إضرابات 10 و 11 أبريل 1979 و 20 يونيو 1981 و14 دجنبر 1990 الذي تم بتنسيق بين الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب وصولا إلى توقيع التصريح المشترك لفاتح غشت 1996 والذي مهد الطريق إلى إبرام الاتفاقيات التي جاءت بعده وإلى التوافق على مدونة الشغل كحدث بارز وغيرها، وخلال مرحلة حكومة السيد عبد الإله بنكيران تم في إطار العمل الوحدوي الذي تميز بنقاش قوي وصريح بين الاتحاد المغربي للشغل والكونفيدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل وبعد ذلك كان التحاق الاتحاد العام للشغالين بالمغرب حيث تم خلال هذه الفترة القيام بالعديد من المبادرات ومنها تنظيم مسيرة الكرامة بتاريخ 27 ماي 2012 وتهييء ملف مطلبي وبرنامج مشترك لحضور جلسات الحوار الاجتماعي حيث بذلت المركزيات النقابية مجهودات كبيرة من أجل التوصل إلى التوافق حول القضايا المطروحة وكان من الممكن لو تم بذل المجهودات المطلوبة من طرف الحكومة أن يتم التوصل إلى نتائج إيجابية تنعكس إيجابا على كافة المستويات، ويساعدها على النجاح في مهامها لكون هذه المحطة لم تكن أكثر صعوبة عند توقيع الاتفاقات على عهد الحكومات السابقة.
وتعد هذه الإنجازات الكبيرة التي تم القيام بها من طرف المركزيات النقابية خلال جميع المراحل الماضية ذات أهمية سواء من حيث النتائج التي تحققت لصالح الطبقة العاملة أو من حيث انعكاساتها على الأوضاع المهنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتي يجب التعامل معها وتقييمها حسب طبيعة كل محطة من المحطات، والمرحلة التي تمت بها، ويبدو واضحا أن الحركة النقابية من حقها أن تفتخر بما قامت به.
وخلال السنوات الأخيرة لم يعد للحركة النقابية تأثير كبير مقارنة بما كان عليه الوضع من قبل، ويعود سبب ذلك في نظر البعض إلى انخفاض عدد المنخرطين في العمل النقابي، وهو غير صحيح إذ في جميع المراحل الماضية كانت تكمن قوة الفعل النقابي في المواقف والمبادرات التي يتم القيام بها، ولمعرفة عدد المنقبين حاليا يمكن الرجوع إلى ما جاءت به الإحصائيات التي أعدتها المندوبية السامية للتخطيط حول المميزات الأساسية للسكان النشطين المشتغلين لسنة 2018 وهي آخر المعطيات المتوفرة حول هذا المجال والتي جاء فيها أن عدد السكان النشطين المشتغلين هو 10.811.000 منهم 10.346.127 غير منخرطين في العمل النقابي أي بنسبة %95,7 وأن نسبة المنخرطين في العمل النقابي هو %4,3 أي 464.873 ويبدو واضحا أن هذا الرقم دون مستوى الدور الاستراتيجي الذي تقوم به الحركة النقابية من خلال الإنجازات التي قامت بها خلال جميع المراحل السابقة وهي أكبر بكثير إذا ما قارناها بعدد المنخرطين في العمل النقابي لكون النتائج لا تقاس بعدد المنخرطين بل تقاس بمدى جديتها وعلاقتها بالقضايا الكبرى التي تهم الطبقة العاملة ولها تأثير كبير على جميع الفئات الأخرى، ومن هنا تأتي أهمية الوحدة النقابية ورغم أن الجميع يتفق على ضرورة تقوية النقابات لما تقوم به من دور كبير، غير أن ما يجري على أرض الواقع يخالف ذلك حيث يتعين العمل على توفير شروطها والمتمثلة في :
استقلالية العمل النقابي
لكي يقوم العمل النقابي بدوره على الشكل المطلوب يجب أن يكون مستقلا، تماشيا مع طبيعته المهنية في علاقتها بما هو اجتماعي واقتصادي وانسجاما مع دستور منظمة العمل الدولية ومع الاتفاقيتين الدوليتين رقم 87 و 98 ومدونة الشغل، ومبدأ الاستقلالية له علاقة بالمبادئ الأربعة، والمتمثلة في الجماهيرية بأن تكون النقابة مفتوحة في وجه جميع العمال بغض النظر عن أن يكونوا منتمين حزبيا أو غير منتمين، والتقدمية، والديمقراطية، والوحدوية، لكون هذه المبادئ تتكامل فيما بينها حيث يتعين الحرص على احترامها.
دور العمل الحزبي داخل النقابة
يقوم العمل الحزبي بدور كبير في تقوية العمل النقابي لكون المناضلين الذين ينتمون إلى الأحزاب التقدمية والديمقراطية يلعبون دوراً أساسياً داخل النقابات لما يتوفرون عليه من تكوين فكري وإيديولوجي، غير أن هذا الدور يجب أن يسير في اتجاه استقلالية العمل النقابي، وهي مسؤولية تقع على عاتق الأحزاب الوطنية والتقدمية والديمقراطية، لكون الحزب له منظور مجتمعي يعني كل فئات المجتمع بما فيه الطبقة العاملة، على خلاف العمل النقابي الذي يقوم بالدفاع عن الأجراء وفق منظور مجتمعي لكون النقابة وإن كانت تدافع فقط على حقوق الأجراء غير أن لها تصورا يشمل المجتمع في شموليته وهي تلتقي مع الأحزاب التقدمية والديمقراطية في الدفاع عن العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتقوية الاقتصاد الوطني ومحاربة كل أشكال الفساد، ومن شأن تقوية العمل النقابي أن يؤدي إلى تقوية الأحزاب الوطنية والديمقراطية.
تقوية العمل الوحدوي
تزخر جميع المركزيات النقابية بطاقات كبيرة من حيث عدد المناضلين والكفاءات الذين يتوفرون على تجربة كبيرة تمكنوا منها من خلال الممارسة في الميدان مما يستوجب معه تقوية التنسيق والعمل الوحدوي حتى لا تضيع هذه الإمكانيات لما يمكنها أن تقوم به من دور أساسي لتقوية دور الحركة النقابية وهي مسؤولية تقع على جميع النقابيين، على أن يتم التركيز على ما هو مشترك بهدف تعديل ميزان القوى لصالح الطبقة العاملة مع مراعاة مبدأ التعددية النقابية كقاعدة دستورية، ومن هنا تأتي أهمية العمل الوحدوي الذي تقوم به النقابات التعليمية من أجل تحقيق مطالب هذا القطاع والمبادرات الوحدوية التي تقوم بها بعض النقابات القطاعية ونتمنى أن يزداد هذا العمل اتساعا وهو ما سيساعد على توحيد وتقوية العمل النقابي كهدف استراتيجي.
تقوية التنسيق أثناء جولات الحوار الاجتماعي مع الحكومة
من الضروري أن يتم التنسيق بين المركزيات النقابية خلال محطات الحوار الاجتماعي المقبلة مع الحكومة مما يساعد على تحقيق توازن ميزان القوى ويعطي مصداقية أكثر لما يتم التوصل إليه من النتائج التي يجب أن تهم جميع القضايا الكبرى في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية وفي علاقتها بالشأن العام لما يخدم مصلحة جميع الأطراف والصالح العام بالعمل من أجل تحقيق الأولويات التالية :
-1 تطبيق مقتضيات مدونة الشغل
يمكن تطبيق مقتضيات مدونة الشغل من خلال اعتماد منهجية واضحة تستهدف إزالة الهشاشة وهيكلة القطاع غير المهيكل ودعم المقاولات التي تطبق القانون وتتحمل مسؤوليتها الاجتماعية، وتقوية رصيد الشغل والتعامل مع أشكال العمل الجديدة وفق ما يؤدي إلى حماية المكتسبات وتوفير شروط العمل اللائق واحترام حقوق الإنسان وفق ما يراعي حقوق المقاولات والأجراء.
-2 ملائمة الأجور والأسعار
من أجل تحقيق ملائمة الأجور والأسعار وإزالة الاختلال القائم يتطلب تناول الموضوع من مختلف جوانبه الاجتماعية والاقتصادية وليس فقط من خلال الزيادة في الأجور بهدف حماية حقوق الأجراء والمقاولات وتقوية الاقتصاد الوطني لما لهذا الموضوع من أهمية بالنسبة للأطراف الثلاثة، ولتحقيق الاستقرار.
-3 تسريع وتيرة تعميم الحماية الاجتماعية وإصلاح صناديق التقاعد
من أجل الإسراع بتعميم الحماية الاجتماعية وفق ما جاء به القانون الإطار رقم 09.21 يتطلب تعميم التصريحات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على جميع الأجراء وإصلاحها من العيوب الناتجة عن عدم ملاءمة الأجور المتوصل بها وأيام العمل المنجزة وإصلاح صناديق التقاعد وكافة المؤسسات الاجتماعية بالتوافق بين الأطراف الثلاثة.
-4 تقوية دور اتفاقيات الشغل الجماعية
من الضروري تقوية الاتفاقيات الجماعية لما تقوم به من دور كبير على كافة الجوانب المهنية والاقتصادية والاجتماعية وهو ما يتطلب وضع برنامج يشمل جميع القطاعات المهنية والجهات والأقاليم واعتماد الحوار والمفاوضة الجماعية بشكل دائم ومستمر بالقطاع العام والمؤسسات العمومية مما يؤدي إلى إزالة أسباب التوترات الاجتماعية بهذا القطاع.
-5 مراجعة النظام الأساسي للوظيفة العمومية وتسوية وضعية المتعاقدين بالقطاع العام :
من الضروري مراجعة النظام الأساسي للوظيفة العمومية وإصلاحه بإدخال التعديلات التي يتطلب إدخالها وتسوية وضعية المتعاقدين بالقطاع العام خاصة وأن هذا الموضوع ظل مطروحا منذ فترة طويلة.
-6 تجاوز الاختلافات المفتعلة
– موضوع المطالبة بتعديل مدونة الشغل تم طرحه من طرف أرباب العمل مباشرة بعد التوافق عليها، في حين كان يجب إعطاء الأولوية للتطبيق مقتضياتها، وما يمكن اتخاده من تدابير اجرائية لتغلب على الصعوبات، وهو أمر طبيعي خاصة وأن الجوانب التي تمت المطالبة بتعديلها لا تستدعي ذلك، مما أدى إلى الدخول في نقاشات هامشية كانت لها انعكاسات سلبية خلال جميع المراحل الماضية، و لتجاوز هذه الوضعية يمكن تكوين لجنة ثلاثية الأطراف تنكب على مناقشة وتهييء التعديلات عن طريق التوافق على أن تشمل مدونة الشغل، وقانون النقابات، ومأسسة الحوار الاجتماعي، لكون هذه المواضيع الثلاثة متضمنة في مدونة الشغل، ومع مراعاة التراكمات التي تحققت في الميدان من خلال الممارسة منذ حصول التوافق و التطورات الحاصلة حول شروط العمل اللائق، واحترام حقوق الإنسان، فإن التعديلات التي سيتم إدخالها ستكون متوازنة تراعي حقوق الطرفين.
– ويمكن التوافق على قانون الإضراب باعتماد معايير منظمة العمل الدولية وما تحقق من تراكمات على أرض الواقع، مع تطويرها نحو الأفضل، ولا يشكل هذا الموضوع أي صعوبة إذا تم اعتماد الموضوعية في مناقشته بهدف حماية هذا الحق الدستوري.
– وبذلك سيتم وضع حد لهذه النقاشات الهامشية وما ينتج عنها من توترات اجتماعية مما يساعد على خلق شروط الثقة بين الأطراف الثلاثة.
– ولا بد من التأكيد على أن مجال التشريع الاجتماعي سواء من خلال القوانين الموجودة أو من خلال ما تحقق عن طريق الممارسة في الميدان من تراكمات كبيرة يتوفر على مؤهلات وإمكانيات كبيرة يتعين استثمارها، وأكبر عائق ظل قائما هو التهرب من التطبيق وما ينتج عن ذلك من سلبيات الكبيرة لا يستهان بيها .
تقوية العمل السياسي
و باعتماد هذه المنهجية من خلال ما أشرنا إليه يمكن تقوية العمل السياسي، إذ بالرجوع إلى جميع المراحل الماضية يتضح أن العمل السياسي لا يمكن أن يكون قويا إلا إذا كان العمل النقابي قويا ومن أجل أن يكون العمل النقابي قويا يجب حماية الحريات النقابية وتطبيق القانون الاجتماعي بشقيه : قانون الشغل، وقوانين الحماية الاجتماعية، واعتماد الحوار الجاد والمسؤول بين الأطراف الثلاثة، وهي مسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق الحكومة، وهو الخيار الوحيد الذي لا بديل عنه لتقوية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو قابل للتطبيق إذا توفرت الإرادة السياسية لدى الحكومة.
19 فبراير 2022
بقلم: عبد الرحيم الرماح