الإنسان مجبول على حب التملك وحب الذات، مطبوع على حب الخير والاستحواذ عليه ولو على حساب الآخرين. ولا ريب أن هذا قد يلقي بظلاله على العلاقات الإنسانية بعضها ببعض، فتختلط المصالح وتتشابك فيما بينها فينجم عن ذلك نزاع وصراع.
وشأنها شأن باقي الجماعات الإنسانية، فإن الأسرة إحدى أهم الجماعات التي يحيط بها النزاع كلما تضاربت المصالح، وتنافرت الأهداف وتباينت القيم والآراء.
ولئن كان الصلح أهم الوسائل التي تعتمدها معظم التشريعات – التشريع المغربي أنموذجا – ،كوسيلة لحل المنازعات الأسرية، فإن هذا الأخير أثبت عدم قدرته على رأب صدع الأسر المتنازعة، بل لا يعدو أن يكون في كثير من الحالات مجرد أداة شكلية لا تحوز أي أهمية بالنسبة للأطراف، لدى وإزاء إخفاق التدخل من أجل إصلاح ذات البين بين الزوجين.
في سياق تفعيل مسطرة الصلح، نتساءل حول دور الوساطة الأسرية في حل المنازعات التي تنشأ بين أطراف العلاقة الأسرية، ومدى نجاعتها في حل هذه المنازعات.
وقبل الخوض في مدى فاعلية مسطرة الوساطة الأسرية في حل المنازعات، لابد لنا من الوقوف عند تعريف الوساطة، وتعرّف هذه الأخيرة اصطلاحا بأنها وسيلة لفض المنازعات، يقوم بواسطتها طرف ثالث محايد يسمى الوسيط الأسري مهمته توفير المناخ الملائم للمقابلات التواصلية السرية، بمساعدة أعضاء الأسرة المختلفين للتوصل إلى حل طوعي مؤقت أو دائم وقبول مرضي للجانبين، ومتفاوض بشأنه ويضمن استمرارية العلاقات الأسرية بمختلف مكوناتها.
وبالنظر للمميزات العديدة التي تمتاز بها الوساطة الأسرية، فقد أخذت بها العديد من الدول منها فرنسا وبلجيكا التي تعد تجربتها الأنجح في هذا المجال، وعلى هذا الأساس فالمغرب مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى تبني الوساطة الأسرية كآلية لحل المنازعات الأسرية في ظل إخفاق باقي المؤسسات الرسمية والبديلة في حل هذه المنازعات.
والوساطة الأسرية كما سبق الذكر، هي إحدى أنجع الطرق البديلة عن القضاء لحل المنازعات المتعلقة بالأسرة، والتي عرفت انتشارا واسعا لفوائدها الجمة، أبرزها تخفيف العبء عن القضاء، فهي عملية ناجعة في بناء أو إعادة بناء الروابط العائلية بين أفراد الأسر المتنازعة من خلال تدخل طرف ثالث محايد هو الوسيط، وذلك من خلال تنظيم اجتماعات سرية وإدارة الصراع بين أطراف الخصومة الأسرية بهدف إيجاد حل ودي للخلاف، فالوساطة الأسرية هي قطب الرحى في السعي نحو حل النزاعات الأسرية وفي البحث عن التوفيق بين الأطراف، وهي اليوم ضرب من ضروب عدالة القرب، مستقلة وفعالة، والوصول إليها ميسر، وهي أيضا متكيفة مع البيئة الثقافية للمجتمع المغربي، إذ أن النزاعات الأسرية إلى زمن قريب، ناذرا ما كانت تصل إلى القضاء، إذ كانت تتكلف “الجماعة” -هيئة عرفية تضم شيوخ القبيلة وكبرائها ومن لهم مكانة محترمة عند أهلها- بحل الخلافات الأسرية، وإلى اليوم لا تزال بعض القرى والمناطق المغربية تحل نزاعاتها الأسرية بأسلوب تصالحي يعيق تطور النزاع ويحسمه بمصالحة.
وانطلاقا من وعينا الراسخ بالمساهمة في تعميق النقاش حول الطرق البدلية لحل المنازعات ومدى تأثيرها في إعادة الاستقرار للأسر المتنازعة، نتساءل: أما آن للمشرع المغربي أن يؤسس للوساطة الأسرية بشكل قانوني شأنها في ذلك شأن مؤسسة الصلح؟
للإجابة عن هذا الإشكال، سنحاول البحث في واقع الوساطة الأسرية في المغرب، وآفاق إعمالها كمؤسسة قانونية (أولا)، لنقف بشكل من التفصيل عند المعيقات التي يمكن أن تقف حاجزا أمام نجاحها (ثانيا).
أولا: واقع الوساطة الأسرية بالمغرب.
ولئن كانت الأسرة النواة الأولى للمجتمع وخليته الأساسية، فإن واجب الدولة العمل على ضمان الحماية القانونية والاجتماعية والاقتصادية لها، وهو ما يستشف صراحة من منطوق الفصل 32 من دستور المملكة.
وقد نظم المشرع المغربي الوسائل البديلة لحل المنازعات بنص خاص في القانون رقم 95.17 وحصرها في التحكيم والوساطة الاتفاقية، مع منح إمكانية إبرام عقد الصلح في الفصل 1098 من قانون الالتزامات والعقود المغربي، كما أجبر المحكمة وقبل الخوض في جوهر النزاع على إجراء محاولة الصلح بين الأطراف، لكنه لم يتعرض للوساطة الأسرية كمؤسسة قانونية قائمة بذاتها، إذ اكتفي في ديباجة مدونة الأسرة بالنص على تعزيز آليات التوفيق والوساطة بتدخل الأسرة والقاضي حال نزوع أطراف العلاقة الزوجية إلى الطلاق كحل لفك رِباط العلاقة الزوجية، وهو الشيء الذي يؤاخذ به العديد من الباحثين والدارسين في القانون المشرع المغربي في ظل فشل القضاء الرسمي وعدم فاعليته وعجزه عن حل الخلافات الأسرية، كما أن مجموعة من الإحصائيات، أظهرت أن مؤسسات الحل الودي للخلافات الناشئة بين الزوجين المؤطرة قانونا – الصلح أنموذجا – محدودة الفعالية في تحقيق الأهداف المرجوة.
ويمكن أن تسهم الوساطة الأسرية وفق هذه المقاربة في التقليص من نسب الطلاق وما يترتب على ذلك من نتائج سلبية وذلك من خلال عدة منطلقات أهمها:
- خلق نقاش فعال وتواصل بين أطراف العلاقة الزوجية الجانحة إلى الطلاق.
- حفظ الترابط بين أفراد العائلة وتجنب الظروف السلبية التي تؤدي إلى الخلاف.
إن الإصلاح التشريعي المنشود لإدماج الوساطة الأسرية داخل المنظومة القانونية والقضائية المغربية لن يتكلل بالنجاح إلا إذا أعقبه تفعيل عملي لهذه المقتضيات القانونية من طرف مؤسسات الدولة من جهة ومن طرف مؤسسات شريكة من جهة ثانية.
ولعل أبرز هذه المؤسسات -الشريكة- نجد المجلس العلمي الأعلى وفروعه الجهوية والإقليمية، الذي سيسهم لا محالة في رأب صدع الأسر المتنازعة، ومرد ذلك تشبع المغاربة بالقيم الدينية الداعية إلى التغافر والعفو، من خلال توفير مرشدات ومرشدين مؤهلين لأداء دور الوسيط بين أفراد الأسرة المتنازعة. كما يمكن الاستعانة بمراكز الاستماع وباقي المؤسسات الاجتماعية باعتبارها مكونا أساسيا في المجتمع المدني والتي تعرف ولوجا كبيرا من طرف الأسر المتنازعة.
وتعد مؤسسات المجتمع المدني بما فيها الجمعيات ومراكز التكافل والعمل التطوعي إحدى أهم المؤسسات التي يمكنها الانخراط في ورش تفعيل الوساطة الأسرية، وذلك من خلال توفير مراكز للاستقبال والاستماع لمساعدة الأسر التي تعيش وضعية نزاع من خلال مبادرات الصلح والإرشاد مع توفير تكوينات وورشات تدريبية، بالإضافة إلى إمداد هذه المؤسسات بالدعم الكافي على مستوى الموارد البشرية المكونة.
ثانيا: معيقات تطبيق الوساطة الأسرية بالمغرب.
على الرغم من نجاعة الوساطة الأسرية في حل المنازعات الأسرية ونجاحها في العديد من البلدان، إلا أنها تصطدم في المغرب بالعديد من المعيقات التي تحد من فعاليتها وتقف حاجزا أمام نجاحها، ويمكن التمييز في هذا الإطار بين نوعين من المعيقات، الأولى قانونية (أ)، والثانية اجتماعية وثقافية (ب).
- المعيقات القانونية.
لم يتطرق المشرع المغربي للوساطة الأسرية كما سبق الذكر، كمؤسسة قانونية ولم ينص عليها كآلية لحل الخلافات الأسرية في مدونة الأسرة اللهم ما تضمنه القانون 95.17 من مقتضيات عامة تنظم الوساطة الاتفاقية، فالوساطة الأسرية يمكنها تحقيق نتائج باهرة إذا ما تم تفعيلها ووضع إطار قانوني لها، إن في صيغة قانون خاص بها، أو التنصيص عليها في مدونة الأسرة كحل بديل عن القضاء، مع تحديد شروط وكيفية تطبيقها.
- المعيقات الاجتماعية والثقافية.
لا يمكن إنكار أن ثقافة الحلول البديلة لا تزال غائبة لدى الكثير من المغاربة -على الرغم من إرثهم الديني والثقافي الغني، وتشبعهم بالقيم السمحة والفضيلة، وذلك راجع إلى عدم اقتناعهم بفعالية الطرق البديلة لحل المنازعات ودورها في حل النزاعات. كما أن واقع المجتمع وما يرتبط بالذهنيات والثقافات والتمسك بالمواقف والعناد والكيد والتعسف، قد يصعب مهمة الوسيط.
وفي الختام، لا يختلف اثنان على أن للأسرة مكانة عظيمة في المجتمع، والعناية والاهتمام بها ضرورة لا محيد عنها، وهو ما أتى به دستور المملكة لفاتح يوليوز 2011 في منظوره للأسرة كمفهوم قديم باعتبارها اللبنة الأساسية في المجتمع، فقد حمل الدولة وهيئاتها بمسؤولية جديدة وبعناصر غير مسبوقة في الدساتير السابقة بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها.
وفي ظل فشل النظام القضائي المغربي في حل النزاعات الأسرية وارتفاع نسب الطلاق والشقاق وما لذلك من تجليات على مستوى الأسرة والمجتمع، فقد بات من الضروري ركوب قاطرة الوساطة الأسرية كخيار استراتيجي وضرورة مجتمعية من أجل تسوية ناجعة للمنازعات بما يضمن حقوق أطراف النزاع.
بقلم: ذ. عبد الكريم الجلابي
باحث في القانون الخاص