بوعياش تستعرض المداخل لمعالجة معيقات الولوج للحق في الصحة

دعا المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى عودة دور الدولة التقليدي ليس كحامية لحقوق الأفراد والجماعات بل كضامنة للحقوق الأساسية، على اعتبار أنها، كفاعل أساسي، يقع على عاتقها الاستثمار في المجالات ذات العلاقة بهذه الحقوق وعلى رأسها التعليم والصحة، وإلى تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية كرهان أساسي للحق في الصحة، فضلا عن اعتماد مقاربة مندمجة متعددة تتجاوز المقاربة القطاعية للمجال.
جاء ذلك في التقرير الموضوعاتي حول فعلية الحق في الصحة، والذي قدمته آمنة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، يوم الجمعة المنصرم، والذي تضمن تشخيصا وقف فيه المجلس، من خلال لقاءات استشارية نظمها بست جهات بالمملكة، على الطابع المتعدد والمركب للعوائق التي تحول دون تمكن شرائح واسعة من المواطنات والمواطنين من الولوج إلى الحق في الصحة”.
وبرر المجلس طرحه فيما يخص عودة دور الدولة التقليدي بما أفرزته وقائع مواجهة الأزمة الصحية العالمية الناجمة عن كوفيد 19، والتي أبانت عن محدودية آليات التدبير التي تبلورت في سياق تطور وظائف الدولة الحديثة.
بل أظهر الواقع، أن الدولة تبقى الفاعل المحوري، يقول التقرير، الذي يقع على عاتقه الاستثمار في المجالات ذات العلاقة بالحقوق الأساسية وعلى رأسها التعليم والصحة، وأن دورها المحوري يخولها إدماج القطاع الخاص في النظام الوطني للصحة، حيث تتوفر للدولة الإمكانيات ليكون هذا الأخير تحت مسؤوليتها ورقابتها باعتبار الصحة خدمة عمومية، بل باعتبارها أيضا ركنا أساسيا من مكونات الحق في التنمية ورهانا مركزيا للأمن الإنساني.
هذا ووقف المجلس، في تقريره الموضوعاتي، على ما وصفه بالطابع المتعدد والمركب للعوائق التي تحول دون تمكن شرائح واسعة من المواطنات والمواطنين من الولوج إلى الحق في الصحة، والتي تشمل نظام الحكامة المعتمد، والإشكاليات الخاصة بالبنيات الاستشفائية والموارد البشرية، ومسألة التكوين والبحث العلمي المرتبط بمجال الصحة، فضلا عن الإشكاليات التي تطرحها الخصوصيات المجالية وثنائية النظام الصحي الذي يتوزع بين قطاع عام وقطاع خاص.
وقالت آمنة بوعياش في التقديم الذي تصدر نص التقرير الموضوعاتي الذي بني اعتمادا على استشارات شملت الداخلة، واد الذهب والعيون الساقية الحمراء، وبني ملال خنيفرة، ومكناس فاس، وطنجة، تطوان، الحسيمة، وجهة الشرق، ” إن التقرير يقدم مرتكزات جوهرية لبناء وهندسة استراتيجية وطنية للصحة تتمحور حول دور الدولة الاجتماعية، وتجاوز المقاربة القطاعية لضمان الحق في الصحة، في ضوء مبادئ حقوق الإنسان، ورفع تحدي الاستدامة وضمان الأمن الإنساني، وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية”.
وأكدت في هذا الصدد، وفقا لما جاء في تقديمها للتقرير، على أن معالجة الاختلالات والعوائق التي تحول دون فعلية الحق في الصحة، يتوقف على ضرورة جعل السياسة الصحية تستند إلى رؤية تتجاوز مدة الانتداب الوزاري والولايات الانتخابية والحكومية، بحيث يتم إقرار استراتيجية وطنية للصحة باعتبارها جزءا من السياسة العامة للدولة على أن يتم تصريفها عبر السياسات العمومية التي تشرف عليها الحكومات المتعاقبة”.
وشددت في هذا الصدد، على ” أن نجاح مساعي تعزيز الحق في الصحة يبقى مشروطا بوجود خطة عمل منسجمة ومتناسقة تستهدف في الآن ذاته الاشتغال على كل من المحددات المؤسساتية والقانونية من جهة والمحددات السوسيواقتصادية والثقافية من جهة أخرى”.
كما شددت، على ضرورة القطع مع مفهوم الصحة كقطاع اجتماعي محض، والعمل في المقابل على اعتماد مقاربة مندمجة ومتعددة القطاعات منبهة إلى أن الجيل الجديد من الإصلاحات في مسار تعزيز الدولة الاجتماعية وضمان فعلية الحق في الصحة، يرتهن باعتماد مؤسسات وبنيات تسمح بهندسة وبناء مقاربات جديدة واستراتيجيات بعيدة المدى للسياسات العمومية في مجال الصحة.
واردفت ملفتة، إلى أن ينبغي أن يكون بناء هذه السياسات العمومية عمادها الأساسي حوار مجتمعي قادر بنوع جديد من حيث التفكير والتدبير والتقييم على تفادي السياسات القطاعية المتجزئة والمتغيرة كليا أو جزئيا مع كل تغير للمسؤولين عن القطاع الصحي أو مدة الانتداب التشريعي والحكومي”.
وعددت ما تضمنه التقرير من مقترحات في باب فعلية الحق في الصحة، وتجاوز الاختلالات التي تحول دون تمكين المواطنات والمواطنين منه، والتي شملت مقترحات دعت إلى تعزيز الحكامة في قطاع الصحة من حيث تدبير البنيات الاستشفائية والموارد البشرية والمالية، بالرفع من الميزانية المخصصة للقطاع بل وتعبئة تمويلات مبتكرة لفائدته وتعزيز حكامة الصناعة الدوائية الوطنية.
ودعا التقرير إلى تبني نظام صحي قائم على الرعاية الصحية الأولية، لمواجهة إشكاليات وكلفة المقاربة الاستشفائية الباهظة، مع إيلاء أهمية خاصة ومتجددة للفئات الهشة خاصة الأم والطفل، الصحة الإنجابية والجنسية، ألأشخاص في وضعية إعاقة، المسنون، المهاجرون واللاجئون، بالإضافة إلى الصحة النفسية والعقلية، والتغطية الصحية الشاملة.
وفي مسألة تجاوز المقاربة القطاعية للصحة، أوصى التقرير بتفعيل تعزيز مبدأ التكامل بين القطاعات المنصوص عليها في المادة الثانية من القانون الإطار رقم 34.09، فضلا عن اعتماد مقاربة النوع بإدخال تعديلات على المادة السالف ذكرها، كما أوصى بإعادة هيكلة المديريات التابعة للصحة خاصة الوكالة الوطنية للتأمين الصحي ومديرية الأدوية والصيدلة، في اتجاه خلق بنية مؤسسية تتميز بالاستقلالية عن الوزارة، وذلك بهدف سد ثغرات ما سمتها ب” تضارب المصالح”، وتعزيز قواعد السلامة والجودة وضمان الشفافية وحرية المنافسة”.
كما أوصى من أجل تقليص الفوارق المجالية كرهان اساسي للحق في الصحة، على ربط الإصلاحات في المجال الصحة بالجهود التي تبذلها الدولة على مستوى تقليص التفاوتات سواء بين الوحدات الترابية أو داخل الوحدة نفسها، وبين المجالين الحضري والقروي على مستوى الولوج للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وفك العزلة عن هذا الأخير.
ودعا في هذا الصدد إلى استغلال ما يتيحه خيار الجهوية، بالتنصيص على أهمية دور الجماعات المحلية والمنظمات المهنية التي تعمل في مجال الصحة والحفاظ على البيئة، على المشاركة إلى جانب الدولة في تنزيل وتحقيق الأهداف المرتبطة بالصحة، هذا مع ضرورة العمل على وضع إطار قانوني ومؤسساتي مهيكل لطبيعة التعاقدات بين مختلف المتدخلين يضمن فعلية الحق في الصحة وتعزيزها كخدمة عمومية.
ونبه التقرير فيما يخص تحقيق العدالة المجالية، إلى ضرورة استحضار المعطيات الجغرافية والترابية عند التخطيط لإحداث البنيات التحتية، من أجل استغلال المؤهلات والخصوصيات الطبيعية والجغرافية لبعض الوحدات الترابية التي تعرف خصاصا مهولا في اتجاه توطني بنيات استشفائية صحية من الجيل الجديد تتكفل بالتتبع والنقاهة، علما أن المناطق الترابية الجبلية مؤهلة لمثل هذه المنشآت “.
كما دعا، من أجل توسيع دائرة الولوج إلى الرعاية الصحية، إلى تشجيع توطين واستعمال التقنيات الجديدة مثل الطب عن بعد، الصحة الإلكترونية والروبوتات كوسيلة لتحسين جودة الخدمات، وخفض التكاليف وضمان جودة الحياة.
ولتعزيز الحكامة في تدبير البنيات والموارد البشرية، اقترح التقرير، ضرورة الربط بني تأهيل العرض الصحي وتدعيم البعد الجهوي لتدبير الخدمات الصحية، واستعجالية برمجة وبناء مستشفيات جامعية في كل الجهات، مع العمل بتعاون مع الشركاء الجهويين على إعادة تأهيل المراكز الجهوية للصحة وفق دفتر تحملات دقيق يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الخريطة الصحية.
ومن العوائق التي سجلها التقرير والتي تحول دون تمكن المواطنين من حقهم في الصحة بشكل فعلي، أشار إلى مسألة محدودية التمويل الذي يتلقاه القطاع الصحي، علما أن التمويل في هذا المجال يعتبر وفق تقرير المجلس ركنا أساسيا لفعلية الحق هذا الحق، مشيرا أن الميزانية العامة لوزارة الصحة لا زالت تتراوح بين 6 و7 في المائة، عوض 12 في المائة التي توصي بها المنظمة العالمية للصحة.
وأشار التقرير إلى أن الأسر تبقى الممول الأساسي للنفقات الصحية بنسبة 63.3 في المائة منها 50.7 في المائة بشكل مباشرـ ونسبة 24.4 تمول من الموارد الضريبية، ونسبة 22.4 في المائة من النفقات يأتي تمويلها من اشتراكات الضمان الاجتماعي، مضيفا أن ارتفاع مساهمات الأسر في النفقات تكون محصلتها أنها تشكل عائقا أمام الحق في الصحة والعلاج.
وسجل التقرير أن إجمالي الإنفاق على الصحة للفرد يبلغ 161 دولار، وهو مبلغ ضعيف مقارنة بالدول ذات الدخل المتوسط الأعلى، حيث يبلغ 471 دولار، وبلدان في نفس مرتبة المغرب، مثل الأردن، حيث يبلغ 250 دولار، أو تونس 340 دولار، ودعا التقرير في هذا الصدد إلى الرفع من الميزانية المخصصة لوزارة الصحة وتعزيز المداخيل الجبائية وابتكار ضرائب جديدة تخصص لتمويل القطاع.
كما وقف المجلس على اختلال آخر يخص سوء تدبير الموارد البشرية، والذي يترجمه وفق التقري، التوزيع غير المتكافئ لهذه الأطر على التراب الوطني، حيث يعمل أكثر من نصف الأطباء بمحور الجديدة الدار البيضاء الرباط القنيطرة، مسجلا في المقابل تمركز ثلثا المهنيين الصحيين بأربع جهات من المملكة، فيما يتوزع الثلث الباقي على الجهات الثمانية الأخرى، ملفتا إلى سوء توزيع هذه الأطر داخل الجهات نفسها، ومابين المناطق الحضرية والمناطق القروية، مما يحرم العديد من المواطنات والمواطنين من الوصول إلى العلاج.
وأوصى التقرير في هذا الصدد إلى تثمين الموارد البشرية، وتحسين جاذبية القطاع الصحي العمومي من خلال مراجعة شبكة الأجور ووضع شبكة دقيقة للتحفيز في انسجام تام مع خصوصيات وبعد مواقع العمل الترابي، والعمل على رقمنة النظام الصحي، فضلا عن مباشرة إصلاح التكوين في المجال الصحي وإعادة وضع مخططات طموحة لتخريج ما يكفي من الأطر الصحية ومراجعة شروط الولوج إلى كليات الطب والصيدلة للاستجابة للحاجيات المتزايدة من الأطباء.

< فنن العفاني

Related posts

Top