تأملات سينمائية -الحلقة 10-

تعتبر السينما من بين أشكال التعبير الفني الأكثر انشغالا بقضايا الإنسان. هذا الإنسان الذي ظل قلقا بشأن كينونته، إنه لا يكف عن تجريب كل الوسائط لترويض الطبيعة ثقافيا، بحثا عن الانتماء الآمن للمشترك الجمعي.
ووسط الصخب البصري والحوارات “الشفافة” التي أصبحت تغمر وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، تتزايد الحاجة إلى السينما بوصفها فنا يحكي بـ”ذكاء” و”عمق” وبشكل “بسيط” هموم الكائن البشري، بانتقاء سلسلة من المشاهد البصرية المكثفة رمزيا، والحوارات المشبعة بالمعاني والدلالات.
وفي هذا الصدد، اخترنا في جريدة بيان اليوم الوقوف في هذه الزاوية طيلة شهر رمضان عند بعض الأعمال السينمائية، التي اهتدى مخرجوها إلى معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية، برؤى فنية وتصورات فكرية مختلفة تعكس اهتمامهم بمشاكل الإنسان.
قد يبدو في الظاهر، أن بعض الأفلام تصور تجارب أشخاص أو جماعات تنتمي لبيئات في مناطق جغرافية أخرى بعيدة بآلاف الأميال، إلا أنها رغم ذلك، تنقل ضمنيا انشغال الذات الإنسانية بوجودها كفرد أو بانتمائها إلى الجماعة.
أن تشاهد فيلما سينمائيا، معناه أن تحجز تذكرة لرحلة سفر جميل واستثنائي، يمثل فرصة للتأمل والتفكير، ولإعادة النظر في الكثير من الأشياء التي قد تبدو مع مرور الزمن من البديهيات، لاسيما في عصر يتسم بالإسهال في “الإنتاج”، إنتاج “اللاشيء” في الكثير من الأحيان.
إننا لا ندعي في هذه الزاوية، تقديم قراءات نقدية عميقة أو أكاديمية، بقدر ما نتوخى الوقوف عند بعض الأعمال الفنية التي حظيت بإعجاب النقاد والمتتبعين.

فيلم The Bang Bang Club للمخرج الكندي- الجنوب إفريقي ستيفن سيلفر

الصورة الصحافية وصراع الأخلاق

لم تكن الصورة، يوما، شيئا عاديا في التجربة الإنسانية، ولن تكونها، نظرا لخصوصيتها في العملية التواصلية. إن أول ما اهتدت إليه البشرية، الخربشة، والرسم على جدران الكهوف والمغارات، ثم النقش والنحت على الصخر.. وهكذا دواليك.
لقد صاحبت الصورة الإنسان في مختلف مراحل تطوره، وصولا إلى العصر التقني والتكنولوجي. وارتفعت أسهم هذا المكون الأيقوني أكثر مع الصحافة، فوسائل الإعلام اهتمت أيما اهتمام به، إلى جانب المكون اللساني أو اللفظي، لدوره في تعزيز المادة الإعلامية (الخبر).
وبما أن الصورة تتميز بالانفلات، فإنها تطرح باستمرار إشكالية الحاجة لالتقاط الأشياء الممثلة قبل نشرها أو بثها، وهو ما جعل وسائل الإعلام التقليدية، أي الجرائد الورقية والتلفزيون، إلى وقت قريب، ولحدود اليوم، أكثر حرصا على التوظيف “الهادف” للصورة من خلال انتقائها بعناية خاصة، استنادا إلى الخط التحريري للمؤسسة، ومراعاة الجوانب الأخلاقية في استعمالها من قبل “حراس البوابة”.
ويقودنا الحديث عن الصورة وعلاقتها بالصحافة إلى الإحالة على الفيلم السينمائي The Bang Bang Club، باعتباره من الأعمال البصرية التي توثق لهوس أربعة فوتوغرافيين صحافيين بالصورة، كانوا يشتغلون ضمن “نادي” (افتراضي)، مع جريدة The Star المحلية بجنوب إفريقيا، ومجموعة من الوكالات الدولية.

ويمتح فيلم المخرج الكندي- الجنوب إفريقي ستيفن سيلفر (إنتاج سنة 2010)، أحداثه الحقيقية من كتاب يحمل الاسم نفسه لجريج مارينوفيتش وجواو سيلفا، يحكي عن قصة المصورين الصحافيين الأربعة الذين مارسوا التصوير بين سنة 1990 و1994، أثناء الأحداث التي شهدتها جنوب إفريقيا في الفترة الانتقالية التي سبقت سقوط نظام الميز العنصري (الأبارتايد).
وواكب مصورو “نادي بانغ بانغ” الأحداث الدموية التي كان ضحيتها أنصار حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تحت قيادة نيلسون مانديلا، وحزب إنكاثا للحرية وهو حزب زولي قومي بزعامة مانغوسوثو بوتيليزي.
وكانت مهمة المصورين الأربعة تتحدد في متابعة الحرب الشعواء التي تدور رحاها في الشوارع والأحياء بين أتباع زعيمي الحزبين، ذلك أن جريج مارينوفيتش (رايان فيليب)، وكيفين كارتر (تايلور كيتش)، وجواو سيلفا (نيلز فان جارسفيلد)، وكين أوستربروك (فرانك راتشينغبورغ)، كانوا شديدي المغامرة من أجل تحقيق السبق الصحافي، عبر أخذ الصور المناسبة لتطور الوقائع في الميدان.
وواجه المصورون في الكثير من الأحيان أسئلة مؤرقة بشأن طبيعة عملهم التي تحتم عليهم تغطية الحروب والمآسي الإنسانية، بطرح أسئلة من قبيل: ألا يعتبر تصوير الجثث والدم والمواجهات القاتلة عملا لا أخلاقيا؟ هل الصحافي الفوتوغرافي مطالب بتوثيق الأحداث أم بإنقاذ الضحايا؟ وهل على الصحافي الفوتوغرافي أن ينحاز لجهة على حساب أخرى أم يلتزم الحياد بعدسة كاميراته؟…
وفي ظل تناسل كل هذه الأسئلة المزعجة، وحضورها في ذهن الأصدقاء الأربعة، ناهيك عن المخاطرة اليومية بالتوغل في فضاءات العنف، استطاع جريج مارينوفيتش الفوز بجائزة بوليترز للتصوير الفوتوغرافي (Prix Pulitzer)، سنة 1991، عن صورته الشهيرة التي التقطها لحظة الحرق الوحشي لمناصر من حزب إنكاثا للحرية، على يد أشخاص ينتمون لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي.
وجرت هذه الصورة التي نشرت في جرائد عالمية، انتقادات واسعة على جريج مارينوفيتش، رغم ظفره بالجائزة واحتفال إدارة مؤسسة The Star بهذا الإنجاز، الأمر الذي جعله يشعر بالذنب لعدم التدخل لإنقاذه عوض توثيق موته التراجيدي، علما أن جريدة The Star التي يتعاون معها لم تنشر الصورة، بينما نشرت في وسائل إعلام دولية أخرى.


ووحدها المخدرات والخمور، تحمل الإنسان لعوالم أخرى تنسيه الواقع الأليم، لهذا كان يلجأ أعضاء “نادي بانغ بانغ” للمؤثرات العقلية، الشيء الذي أوقع كيفين كارتر في المحظور، وطرد على اثر ذلك من جريدة The Star.
وقرر كارتر عقب فشله في إيجاد عمل جديد لتأمين مصاريف الحياة، التوجه رفقة زميله جواو سيلفا نحو السودان، سنة 1993، بهدف تغطية المجاعة والفوضى الناتجة عن الحرب الأهلية هناك.
ولإضفاء المزيد من الدراما على هذا العمل السينمائي (106 دقيقة) المثير للحيرة والقلق والسؤال، أدرج المخرج، قصة التقاط كيفين كارتر للصورة الشهيرة وذائعة الصيت التي يطلق عليها بصورة “النسر والفتاة الصغيرة” (The Vulture and the Little Girl)، توثق لطفلة سودانية تتضور جوعا بينما النسر يتحين الفرصة للانقضاض عليها من الخلف، وعوض أن ينقذها هذا المصور اختار أن يلتقط لها صورة بقيت حية إلى اليوم!
صحيح، أن كيفين كارتر حصل على جائزة بوليتزر، خلال 1994، عن هذه الصورة، إلا أن تأنيب الضمير ظل يلاحقه، ناهيك عن ضغط الشارع الذي استنكر هذا العمل “اللاأخلاقي” و”اللاإنساني”، أي أن الصورة التي نشرت في The New York Times أثارت جدلا واسعا، وانقسم الجمهور حولها، وللإشارة فإن المخرج لم يقدم، هنا، رأيه في الموضوع، واكتفى بنقل الأحداث فقط..
وسيؤدي الندم، وجلد الذات، إلى جانب لوم وعتاب الرأي العام، باختيار كيفين كارتر وضع الحد لحياته بشكل تراجيدي، حيث قرر الانتحار عن عمر يناهز 33 عاما، لعدم قدرته على الاستمرار في تحمل الآثار الجانبية للمهنة التي لا يجيد فعل شيء آخر غيرها.
وصور الفيلم، أيضا، النهاية المأساوية لكين أوستربروك الذي توفي برصاص المحتجين في الشارع، بينما واصلا جريج مارينوفيتش وجواو سيلفا التصوير بنفسية محطمة، علما أن جريج سيقرر، فيما بعد، التوقف نهائيا عن تصوير الحروب.
لقد حاول فيلم The Bang Bang Club، إعادة توثيق القصة الحزينة للفوتوغرافيين الأربعة، إنه شبيه بعمل وثائقي يصور أحداثا حقيقية، وهذا ليس بغريب على مخرج متمرس في العمل الوثائقي، بدا واضحا تأثره بالتوثيق في هذا العمل السينمائي، حيث استطاع أن يجذب الجمهور لمتابعته، نظرا لأهمية الموضوع الذي يدور حول سؤال الضغط النفسي والأخلاقي الذي يتعرض له المصور الفوتوغرافي في تغطية الحروب والكوارث الطبيعية.

***

ستيفن سيلفر

ستيفن سيلفر (Steven Silver)، مخرج ومنتج كندي-جنوب إفريقي، معروف بأعماله في الأفلام الوثائقية والروائية. أبرز أعماله تشمل فيلم “نادي بانغ بانغ”، إنتاج سنة 2010. فاز بجائزة إيمي الدولية عام 1997، عن فيلمه الوثائقي ” جيري ولويز”. شارك في تأسيس “كيو ميديا جروب”، و”بلو آيس جروب”. ويعتبر من بين المخرجين النشيطين في دعم صانعي الأفلام الوثائقية في إفريقيا.
 
الإخراج: ستيفن سيلفر.
السنة: 2010.
الإنتاج: أنجيلا بوت، ديرك بيترسون، براندون ترينر.
مدة العرض: 106 دقيقة.
السيناريو: سيلفر سيلفر.
مؤلف الكتاب الأصلي: جريج مارينوفيتش، وجواو سيلفا.
إدارة التصوير: مييروسلاو بازاك.
الموسيقى التصويرية: فيليب ميلر.
التشخيص: رايان فيليب، تايلور كيتش، نيلز فان جارسفيلد، فرانك راتشينغبورغ.

> إعداد: يوسف الخيدر

Top