تكريم الفنان التشكيلي المغربي الرائد عبد الرحمان رحول

في إطار البرنامج الفني الذي أعدته جمعية أركان بتنسيق مع هيئة “ألباديف ” ولاديب ـ جمعية من أجل التنمية المستدامة والمحافظة على البيئة ـ ، تم تكريم الفنان التشكيلي المغربي المتميز ومدير المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء عبد الرحمان رحول ، بمناسبة الحدث العالمي البارز كوب 22 بمدينة مراكش ، وذلك بفضاء ” باب اغلي ” ضمن فعاليات الدورة 3  لأركان افريقيا ، بشراكة مع مشروع ” أرت كوب 22″ ، الذي تنظمه هيئة الفن العالمي ” وايس ” للمساهمة في المحافظة على التوازنات البيئية عن طريق العمل الفني بمختلف تعابيره وأساليبه .
حول هذا التكريم المستحق والرمزي، صرح عبد الرحمان وردان رئيس جمعية أركان :” هذا التكريم رسالة تقدير واعتبار في حق مسار الفنان المبدع الرائد عبد الرحمان رحول الذي يرجع له الفضل في الارتقاء بالإبداع التشكيلي المعاصر بالمغرب بفعل مزجه بين النحت ، وفن الخزف والتصوير الصباغي والجداريات …، فمنذ بداية مساره الفني ، حقق عبد الرحمان رحول مصالحة ابداعية بين الفن ومجاله الحضاري من خلال منحوتاته الضخمة التي وسمت مجموعة من المواقع والمدن داخل المغرب وخارجه ، نذكر على سبيل المثال ، منحوتة نموذجية بأصيلا ، وكذا منحوتته التعبيرية بالديار الصينية ، حيث حضي بشرف تمثيل النحت المغربي المعاصر الى جانب مجموعة من رموز النحت العربي والدولي .” تكريم المبدع المقتدر عبد الرحمان رحول ، هو تكريم لذاكرة الفن التشكيلي المعاصر المغربي بكل تلويناته وأشكاله وتعبيراته …
نحات، وفنان خزف، مصور صباغي بارع واستثنائي هو رحول الذي تتفاعل أعماله الجمالية أيما تفاعل مع عشاق الجمال البصري من جيله ومن جيلنا المعاصر على حد سواء. فما يقدمه هذا المبدع سلطة فنية خاصة تكتسي قوة إبلاغية على مستوى الإعداد والإنجاز. إنه يعرف كيف يطور مسار تجربته في كل معرض، وكيف يصوغ لغات نحتية وصباغية معا : لغات تنم عن عمق في التصور، وحساسية في الذوق، ومراس باللغة التشكيلية بتعدد روافدها ومداراتها الأسلوبية التي تتوزع على البنائية الشكلانية والتكعيبية التحليلية.
هكذا، نسافر إلى عوالم لا حدود لهندستها الداخلية، كما ننتشي مع سحر الأشكال المشهدية وهي تتماهى مع عمق التخيل الذي يحيل على هندسة درب السلطان، وعراقة الأمكنة وأصالتها بأسلوب فتي جذاب ومقنع، أسلوب مفعم بشعر اللمسات اللونية، وجمال البناءات التركيبية المنسابة بتلقائية وحرية.
عبد الرحمان رحول لا يكرر ما أبدعه سابقا، بل يجدد نفسه الصباغي والنحتي في ضوء وحدات مغايرة تطور أدواته التشكيلية، وتجعله مخلصا للعلاقة القائمة بين المتن الجمالي والعمق الإنساني. إنها علاقة امتداد وتجاوز في الوقت ذاته : امتداد ضمن التجاوز، وتجاوز ضمن الامتداد، وذلك في سياق جمالي واحد. هكذا، تمتلك كل لوحاته ومنحوتاته الفنية نبرات موسيقية داخلية وحاضرة بقوة الألوان والأشكال. فالفنان رحول قوة داخلية تنخرط في البحث عن صيغ جديدة لتأمل فوضى مجالاتنا الحضرية وأمكنتنا العامة. فاللوحات هادئة تماما، ونقدية أيضا تجعلنا نعيد النظر في تفاصيل حياتنا اليومية بكل صخبها وضجرها.
داخل هذه العوالم شبه المعمارية، يبحث رحول عن قوة الطبيعة الإنسانية كلغة رمزية تواجه سلطة الإسمنت والحجر. فتراه يقيم نوعا من التواطؤ الجميل مع الذات، ومع اللغة التشكيلية، كما تراه يدخل في سلام عميق مع نفسه والكائنات والأشياء المحيطة به. هذا السلام الداخلي هو الذي يرسمه، بدقة وبلاغة، الفنان رحول، فهو يستثمر كل الاستعارات والبلاغات التركيبية لكي يستجيب لطموحه الفني والجمالي، أولا، ولكي يلبي انتظارات القارئ البصري ثانيا. فكل لوحة إضافة نوعية إلى سجلاته البصرية التي تبحث عن حياتها الخاصة داخل الحياة العامة : حياة شذرية ومجزأة ومتخيلة. في كل لوحة أو منحوته إيقاع خاص، أقصد بنية حركية تضفي على العمل الفني المعروض مسحة جمالية وبليغة في الآن ذاته. فما أكبر العمل الفني، وما أصغر المجال المكاني ! ألم يقل الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش : كل الأحلام تكون أكبر من شكل تحققها؟
يخرج رحول من نمطية الأعمال الفنية المشهدية المعروضة، معمقا البحث الجمالي عن دوائر الفرح بالعلائق الإنسانية، وعن مسارات الابتهاج بالطبيعة والحب، هذا ما يفسر تماهي الكائنات مع البناءات المعمارية في لوحاته ومنحوتاته المعروضة. وكلها فضاءات حنينية إلى زمن الطفولة الملازم لأي كائن بوصفها مرجعيته الوجودية التي يستعيد من خلالها وعبرها عالمه المفقود عله يتغلب على وطأة الراهن الثقيلة.
العمل الفني، إذن، كالطفولة لا تكتب أو ترسم مرة واحدة. فهي تطالعنا من حين لآخر، وتضفي على بنيات اللوحة أو المنحوتة طابعا جماليا وشعريا في الآن ذاته، فكما كانت رغبة الشاعر محمود درويش هي البحث عن الشعر الصافي، كذلك فإن رغبة رحول هي البحث عن التشكيل الصافي أو الخالص، هذا التشكيل المتحرر من عبء وضغط الواقع والتاريخ معا. كل البنايات المشهدية دليل واضح على مدى انشغال الفنان بالتقاط الجوهري في الأشياء المرئية، مفتونا بعمقها الذهني المجرد في زمننا المعرفي الاستهلاكي الذي سيد غرائز التسلية واللعب على حساب قضايانا الوجودية والمعرفية الكبرى.
رحول من أنصار الإعلان المعنوي والثقافي عن ضرورة الفنون الجميلة، ووجودها الوظيفي في حياتنا العامة، حيث ساهم بشكل كبير في تبادل الخبرات والتجارب في هذا الشأن على مستوى تقاطع وحوار الجماليات البصرية على الصعيدين الوطني والدولي. فالتشكيل كالشعر يعلمنا قيم الديموقراطية والمساواة التي لا تعرف الحدود، والمراكز والأطراف، والقوى العظمي : فهناك عولمة بصرية في التشكيل كما في الشعر، وهي عولمة نبيلة غير مهيمنة. يقول في هذا الصدد :”علمتني كل تجاربي الفنية ذات الأساليب التشكيلية المختلفة بأن الجمال البصري ضروري وممكن في مرحلتنا التاريخية الدقيقة، فشكرا لكل الذين يتفاعلون مع عوالمي الإبداعية. إن الفنون الجميلة لا يمكن لها أن تتطور دون مولعين بأشكالها ومضامينها، فهم الذين يمنحون للتجربة الفنية معانيها الحقيقية”.
يصغي رحول بدقة إلى إيقاع الزمن البصري، فهو عميق في تأملاته، وانتقائي في أعماله، هذا هو سر الأبعاد النوعية للوحاته ومنحوتاته التي تراهن على البحث عن متن بصري لم يكتب بعد، أقصد لم يرسم ولم ينحت بعد.

*******

شهادة الأديب الراحل محمد زفزاف
 في حق الفنان عبد الرحمان رحول رمز من  رموز الحركة التشكيلية الحديثة بالمغرب

 1 – يجمع  بين ما هو موروث حضاري وبين ما هو مولود من الرغبة في التجديد والتطوير…
أي بين ما هو علمي يضبط أسس البناء الشكلي في العمل الإبداعي وبين ما هو  عملي في رصد معطيات المنظور من الأشياء بواسطة النظرة الثاقبة لمفهوم الجمال، والتي تعكس اهتمام الذات  ورغبتها في تحريك المتجمد،  وتحويل المتخيل إلى تراكيب ملموسة وأنماط  تجسيدية قابلة  لإحداث  تحولات جمالية في شكل وباطن الأنماط.
< يجمع بين الرسم/استغلال ضيق  لفضاء اللوحة استغلالا تتحكم فيه القدرة على تمثل الحدث  وتوظيف  الفكرة عبر اللون والظلال وهاجس الحالة الإبداعية، وبين النحت والخزف وتسخير العناصر المهيأة لطبيعة كينونة الأرض والمتوفرة بشكل من أشكال مخاضات التجاذب والتفاعل بين الطبيعة والإنسان، لخلق الامتداد المكون لفضاء التجانس الحسي والجمالي والتعايش البيئي من خلال استحضار المقدرات التقنية على إفراز أوجه التعبير المتناغم الذي يعكس في واقع الأمر قدر سيطرته على نسج نماذج  وعينات تشكيلية متفردة بكل دلالتها وإيحاءاتها وإيماءاتها المستمدة أصلا وبالضرورة من قناعته واختياره لأسلوب ولغة الحوار.
< كونه أحد هؤلاء القلائل، والقلائل جدا بالمغرب الذين  أثبتوا حضورهم، وعمقوا مفهوم  العمل التشكيلي وجذروا جدواه  ممارسة  وتطبيقا، فربطوه بالمعيش اليومي واعتنوا بكل أسباب التواصل الجمالي عبره…
فرحول، كسر قيود اللوحة وتجاوز مسافتها المسدودة وطرح بحدة “قضية” الخطاب التشكيلي ووجد لذلك سبيلا واصلا  تمثل في العروض المفتوحة بفضاءات لا محدودة خارج إطار اللوحة وجدران القاعة، انطلاقا من تجاربه الشخصية والجماعية بالدار البيضاء وأصيلة والرباط وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وسواها، حيث اكتست  تجربته الخزفية والنحت الحجري والرسم  التجسيدي – على وجه الخصوص – قيمتها المستحقة في إظهار شخصيته الفنية.
< كونه أيضا أخضع بإمكاناته التقنية لمحك التجريب المرحلي قبل أن يستقر على أسلوبه المميز لطبيعة عمله الإبداعي الذي قام على شرط التوفيق بين النهج العلمي والصيغ الجمالية  وعلى خلق توازنات بين التعبير عن الشكل والتعبير بواسطة الشكل، بين استنطاق المخبوء وتحرير ما هو بصري من قيد الإحالة على الهامش.
< ثم كونه فنانا عمليا يقدم الفعل ويتخذه حديثا واضحا جليا  يحمل بصمات الذات وهويتها الفنية ويطرح همومها وانشغالاتها  بلغة عميقة وصريحة لا تكتنفها ضبابية ولا تسودها فوضى الطلاسم، لغة تشكيلية ترفض الخضوع لما هو قسري إجباري لحظي ولكنها لا ترفض البساطة  من حيث هي أساس تعميق الحوار…
رحول، بعد هذا كله، وانطلاقا  من هذا كله، طبع الحركة التشكيلية الحديثة بالمغرب وصار معلمة من معالمها، ورمزا من رموزها فهو ممن تذكرك بهم أعمالهم وإن كنت لا تبصر ما خلفها من ضروب المعاناة ومراحل التوليد”.

منصف عبد الحق

Related posts

Top