تمثلات الليل والنهار في الكتابة الأدبية

(غالبًا ما أعتقدُ أنَّ الليلَ أكثرُ نشاطًا وألوانًا من النهارِ)
الرسام فنسنت فان غوغ

في قصيدتِهِ (شَفَـقُ المساءِ) يرسمُ الشاعرُ (تشارلزْ بودليرْ) خُفـوتَ نور النهار، ليحُلَّ الليلُ، الذي يُحوِّل البشرَ إلى وحوشٍ ضاريةٍ، فيصبح ((صديقًا حميمًا لكلِّ المجرمين)) يستــيــقــظ فــيــه الأبالسةُ والشياطينُ ليُطوِّقوا المدينةَ بأنشطتِهِمُ المشبوهةِ. يقصدُ بهم بائعاتِ الهوى، الساقياتِ، اللصوصَ، المقامرين، المحتالين، المعربــدين، المتسكِّعـين، القتلة، الجواسيس.
وفي الرؤيةِ الوصفيةِ ذاتِها، يذهب البعضُ بعيدًا، كأنه يصفِّي حسابَاتِهِ مع الليل، فيراه (وحشًا) يبدو في أشكال متنوعة، كالتنين، يَعملُ على تنشيط الهواجسِ المختلَّةِ بين الشعراء، أكثرَ من الكُتاب، من (روائيين وقصاصين ونقاد…) وهكذا نلحظُ (الليل يلد الوحوشَ الضاريةَ) أو الحيواناتِ الرمزيةَ أو المجازيةَ، يستغلها الشعراء كوسيلة لتمثيل (الذاتِ الشعريةِ الــمــتــمــرِّدةِ).
هل الليلُ، حقًّا، كما يَصِفُهُ بودلير في (أزهار الشر)؟!.. وهل يُمَثِّل انحرافا وانجرافا وتشويها للحياةِ في النَّهارِ؟!..ما الذييعرفه الكُتابُ عنِ الليلِ..والليلِ البهيمِ بالضبط؟..هل هو مجردُ فترةٍ زمنيةٍ تُقابل النهارَ، أم حصةٌ يوميةٌ، نخلُد فيها إلى النومِ العميقِ، لنأخُذَ قسطا وافرًا من الراحة الجسدية والنفسية والعقلية؟..أظنه أكثرَ من ذلك، ففيه أمورٌ يخشى الإنسانُ أنْ تظهرَ جَلِيةً للعِيان، لأنَّ الظلامَ يُغَــلِّــفُها، ويتستَّر عليها، أو بتعبيرٍ أدَقَّ هو لباسٌ للإنسان، بالتعبير القرآني الجميل : ((جَعَلَ لَكُمُ الليلَ لباسًا، والنومَ سُباتًـا)) فيه يحلم بما يعجز عن بَوْحِهِ في النهار، ويزاولُ أعمالا يرفضها المجتمعُ جُملةً وتفصيلا!..فالدَّلالاتُ السلبيةُ المفترضةُ، تشهد على الثَّراءِ المجازي لليل، الذي وظفه الأدبُ في كتاباتِهِ، شكلا فنيًّا ومضمونا فكريَّا . لكنْ، علينا ألا نُغْفِلَ قَصْدًا أو عَمْدًا، أيضا، الدَّلالاتِ الإيجابــيةَ لليلِ، التي تـتجاوزُ الــنَّهـارَ.
إنَّ الليلَ والنهارَ، أو الظلامَ والــنورَ، يشكِّلان عالَمَنا، أحبــبْــنا أم كرِهْنا، فهما حياتُـنا التي نعيشُها ونجتازُها، ونخضع لها طائعينَ ولشروطِها راضينَ.

فالنهارُ في الكتابة الأدبية، نورٌ يرمُزُ إلى العلم والمعرفة، والحــقــيــقــة الــعــاريـة فــي أجْـــلــى صورها وأنصعِــها . واللــيــلُ ظــلام دامسٌ، يوحي بالموتَ (القبر) والخوف والجهل والشر والخطر، وحارستُهُ المشؤومةُ (البومةُ)!..الليلُ هو الموت المؤقت للحياة، غالبًا ما يخافه المُسِنُّون، لشعورهم بقُرْبِهِمْ منه، بحُكْم السِّنِّ، كما يخشاهُ الصغار. فغريزيًّا يحسون بالتهديد الذي يحمله الناس، منذ عصور سحيقةٍ، عندما كانتِ القبائل تهاجم أخرى في الليل، فتُسْبي الأطفالَ والنساءَ . وهو فضاءُ الكوابيس والأحلام المزعجة، والحركات السرية، والعمليات الخفية…!
والنتيجةُ لهذا التمييز غير المتكافئ، بين الليل والنهار، هي أنَّ هناك إجحافا في الـتـقـيـيم والمقارنةِ، فهما معًا يؤلفان طرفي جسدٍ أساسيـين، لا ينفصمان عنه . فإنْ كنا نرى النهارَ نورا لنشر الوعي والعلم والثقافة في كثير من النصوص القصصية والشعرية والروائية، فإنَّ الليلَ، وإنْ كان مشحونا بالكوابيس المرعبة، نجد مساحتَهُ أحلاما وطموحاتٍ وآمالا . وإنْ كنا نقرأ في رواياتٍ وقصصٍ مُجْرمين يمارسون أنشطتَهم في الليل، فإننا نقرأ، كذلك، عشاقا ينتهزون فيهِ فرصةً سانحةً للقاء، ومبدعين للتفكير العميق، وكُتابًا للتأليف، ومنهم الروائي مارسيلْ بروستْ، الذي كان يُمْضي النَّهارَ نائمًا، والليلَ قائمًا، يرتدي بَدْلةً بيضاءَ، ويتجرَّعُ قَهْوةً سوداءَ، يقرنُ الأبيضَ بالأسودِ، ثم يكتب ويكتب إلى أنْ يصيحَ الديكُ (في تلك الحقبة، لم تستغْنِ باريسُ عنِ الديكِ، قبل أنْ يُصْبِحَ رمزًا للفرنسيين)..وشعراء للتـنفـيس عن ذواتِهِمُ
المكلومةِ، وعن أنفسِهِمْ من آلامٍ مُمِضَّةٍ، تنخُرُ صدورَهُمْ، ومنهم الشاعرُ الكِـــنْــدي امــرُؤُ القيس:
ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَــه
عَـــلَـيَّ بِـــأَنْـــوَاعِ الـهُــــمُــــوْمِ لِـــيَــــبْــــتَـــلِـي
فَـــقُـــلْـــتُ لَـهُ لَــمَّـا تَـــمَــــطَّــى بِـصُــلْــبِـــهِ
وأَرْدَفَ أَعْـــــجَــــازا وَنَـــــاءَ بِـــــكَـــــلْــــكَــــلِ
ألاَ أَيُّهَـا الـلَّـــيْـلُ الطَّـوِيْـلُ ألا انْـجَـــلِـي
بِـصُـبْـح وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ
فَــــيَـــا لَــكَ مَــنْ لَــــيْــــلٍ كَـــأنَّ نُـــجُــومَــهُ
بـــكــل مُـــغــار الـفـــتـــل شُــدّت بــيــذبــل
وكان الشاعر الإنجليزي (جــون مــــيلــتــون) يرى الليلَ(عروسَ الفوضى) في ((الفردوس المفقود) الفوضى التي تسبقُ الخلقَ والإبداعَ، أي في هدوئه وسكونه، يشتغل العقلُ، فيفكر ويتخيل المواقفَ المتعارضةَ، وينسِّق الأفكارَ المتضاربةَ، والرؤى المتنوعةَ والمختلفةَ، وتأتيهِ طَوْعًا الألفاظُ والتعابيرُ التائهةُ، التي ينشُدُها . ويرى بعضُ الفلاسفةِ أنَّ رؤيةَ النور (النهار) تقتضي الخروجَ من النفق المظلم (الليل) والطريقَ إلى نور المعرفةِ والرقي، يبتدئ من دائرة الجهل والتخلف . فلا يوجد شعبٌ أو بلدٌ، انطلق من نور التطور، ليتبوَّأ قمةَ الحضارةِ والتقدم . لا بدَّ من الظلامِ الدامس، الذي يتولَّد عنه النورُ، في دورةٍ يوميةٍ حلزونيةٍ دؤوبةٍ . لكنَّ الأصلَ هو الظلامُ، لأنَّ الإنسانَ أتى من عالمٍ غــامـضٍ، ويعودُ إليه في آخر حياتِه !
وغالبا ما يرتبط الليل بالمرأةِ أكثرَ من الرجل، ففيه تجد فرصةً مواتيةً لتتحرر من العادات والتقاليد، وفيه تُـنْسَج العلاقاتُ وتُحاكُ المؤامراتُ، وتُدَبَّر الحيلُ والْخُدَعُ…ألم تُشَنَّ الحروبُ الناجحةُ بين الدول في الليل؟..إذن، الليل بما يشمله من ظلام حالك، وسكون وهدوء، وخُلُوِّ من الأعين الــنَّــفَّاثةِ بالْعُــقَــدِ، يُغْري بممارسة كلِّ الأنشطةِ المشروعةِ وغيرِ المشروعةِ، وهذه أكثرُ من الأولى!..ألم تخترْ شهرزادُ الليلَ لتنويم شهريار بالحكي، فــتــنجُوَ من الموتِ الزُّؤامِ؟!..ألم تكنْ جداتُنا وأمهاتُنا، وما زِلْــنَ في أوروبا وأمريكا، يروين قصصا على أطفالهن، قبل النوم؟!.. فهو الوقتُ الملائمُ لسرد القصص والنوادر والأحاجي والألغاز، أي الوقت الذي يُغَذِّي الخيالَ، ويتيح له المجالَ ليجولَ بكل حريةٍ، لا تكــبِّلها قــيودٌ، ولا تَحْجُمُها حــدودٌ.
وفي العديد من الدراسات، نجد النهارَ يشبه عمرَ الإنسانِ، ففي بدايته (الطفولة) وفي نهايته (الشيخوخة) ليصل إلى الليل (الموت).. كما أنَّ النهارَ يرتبط بالذكورية، والحالةِ الواعيةِ للإنسان، فيما الليلُ يرتبط بالأنثويةِ واللاوعي. ولهذا قال الشاعر اليوناني (هسيود) إن الليلَ (أمُّ الآلهة) لأنَّ الإغريقَ يعتقدون أنَّ الليلَ بظلامِهِ، يُمَهِّد لخلق الأشياءِ جميعِها، مثل الماءِ، يعبر عن الخصوبةِ (وجعلنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حَيٍّ) ..وإذا كانتْ إيقاعاتُ النَّهارِ سريعةً، فإنَّ إيقاعاتِ الليلِ تأمليةٌ، فيه يُسْنَحُ للعقل بالتفكير، وللخيال أنْ يـتـمدَّد، دون أنْ يخضع لضغط الوقت، ولا لأية سلطةٍ أو رقابةٍ أو مُحاسبةٍ . وبهذه الخاصيةِ، أصبح الليلُ وقتا للحكي والقصِّ، ونستحضر مثالا (ألف ليلة وليلة) و(حكايات جريم) اللتين كان الليلُ زَمَنَهُما. وغالبا ما يُحَفِّز الليلُ على سَرْدِ القصص الرومانسية، بالنسبةِ للكبار، والخيالية للصغار (سندريلا) لأنَّ أحداثَها الحاسمةَ تقع في الليل!
ولعل هذه الخصائصَ الليليةَ، هي التي حَفَّزتِ الشاعرَ والمسرحيَّ الإسبانيَّ (فيديريكو غارسيا  لورْكا) على كتابة مسرحياتِهِ المعنونة بـ(ساعاتُ الليلِ الميتةُ) وفيها يُجَسِّد علاقةَ المرأةِ بالتغيراتِ التي تطرأ في الليل، دون حسيبٍ أو رقيبٍ . وفي الوقتِ نفسِهِ، يُبْدي تعاطفَهُ مع المهمشات والمعنفات والمضطهدات والمغتصبات، اللواتي لا يجدْن إلا الليلَ لممارسةِ حريتهــن، ولحصولهــن على اللذةِ والمتعة . كما ألَّــفَ (ثلاثيةُ الريفِ) وأطلق عليها هذا الاسمَ، لأنها تُعْرَضُ في القرى والبوادي فقط، ولا علاقة لها بالقضايا التي تُباشرُها!
ففي المسرحية الأولى، تُغافل العروسةُ عريسَها، فتلجأ ليلا إلى عشيقِها، لتُطفِئَ ظمأها الجنسي . وفي الثانية، تُدْفَعُ امرأةٌ إلى ممارسةِ الجنس في طقوس ليليةٍ، لتُنْجِبَ لها طفلا، لأنَّ زوجَها عقيمٌ، فُرِضَ عليها من قِبَلِ والديْها أنْ تـتزوَّجَهُ وتُحبَّهُ وتُخْلصَ له، وهي تكرهه وتنفرُ منه . إلا أنَّ هذا الإرغامَ على الْحُبِّ والوفاءِ، سينتهي بخَنْقِها له، ذاتَ ليلةٍ . وفي الثالثة، تقضي نساءٌ سنواتٍ من الحزن على والدِهِنَّ المتوفَّى، في حين، تضطر أختُهنَّ الصغرى، أنْ تشاركَ في أنشطةٍ ليليةٍ، تــؤثِّــر في مصيـرهِــنَّ ومستــقبلِهِــنَّ…!
وكان لوركا، بمُجَرَّدِ ما يُسْدَلُ السِّتارُ على عروضِهِ، يُناقش المتفرجين لمسرحياتِهِ، في وقتٍ متأخر من الليل، ويؤكِّد لهم أنَّهُ لا ينسى آلامَ وعذاباتِ هؤلاء النساء، وما يُعانينه من تهميش ومعاملات قاسية، ضريبةً ثقيلةً يؤدينها على ممارسةِ حريتهن، وحقّهنَّ الطبيعي في الحياةِ الإنسانيةِ التي يطمحنَ إلى تحقيقِها مثلَ الرجال !
هذا الوضع الجهــنمي، تعيشه المرأةُ في المسرحية، وهو شعــور أطــلــقــتــه (أنجستياس) الابنة الكبرى في عائلة ألبا : (لحسن الحظ، سأغادر هذا الجحيمَ قريبًا)…تقول في تحدٍّ علنيٍّ، ثم تنتقي الليلَ زمانا لحياتِها الطليقة !
وبصفــتــه من أبــنــاء غــرنــاطــة، فــإنَّ فــــيــديــريكو غــارثــــيا لــوركا يعترف أنَّ (المغاربــيــيــن الذين لدينا يسكنون نفوسَنا) هؤلاء المغاربيون، أبناء وأحفاد مَنْ نزحوا (ليلا مُخْــتَــفــيــنَ) من غرناطةَ وإشبيليةَ وقرطبةَ وسواها، إلى أهمِّ المدن العتيقةِ بدول المغرب العربي، منها طرابلس، والقيروان وتونس، وتلمسان ووهران، ووجدة وتازة وفاس ومكناس وسلا والرباط وتطوان وشفشاون، وسواها من المدن المغاربية.. فضلا عن السود والغجر الذين فقدوا أراضيَهم وأوطانَهم، ومقوماتِهمُ الاجتماعيةَ، وقيمَهُمُ
الثقافيةَ والعقيدية، ورُحِّلوا قهْرا ليشتغلوا عبيدا في العالم الجديد.
في إحدى قصائد الشاعر (روبرت فروست) موسومة بـ: (تَعَرَّفِ الليلَ) تحكي عن رجل تعوَّد أنْ يتخذ له الليلَ صَديقا، فكان يلتقي به، ويسير معه تَحْتَ نور القمر، حتى يصل إلى منطقةِ الْعَتَمةِ . وعند تشريح اللغة التصويرية، نلحظ حُزْمةً من الاستعارات والرموز التي تثوي فيها . فالرجلُ هو الشاعر نفسُهُ، مرَّ بظروفٍ قاسيةٍ، عانى فيها من عزلة قاتلة، تعكسها ظلمةُ الروح، بقدر ما في الليل من غربة ووحشة . وكلما نأى الشاعر عن نور المدينة، إلا ولَفَّهُ الليلُ بدياجيهِ، فنشعر بما يقاسيه من أحزانٍ وآلامٍ وكآبةٍ، كــأنه يــرسم لــنا الــمسافةَ التي يــقــطــعها من الــنور إلى الظلــمة، وبالتالي، نجد أنفسَنا، نحن القراءَ، نجتاز معه تلك المسافة الحزينة!
تأثيرُ الليلِ في بعض الشعراء، جعلهم يُــؤَسْطِـرونَهُ ويحمِّلونَهُ كلَّ أفراحِهِمْ وأتْراحِهِمْ . منهم الشاعر الإنجليزي (بيرسي بيش شيلي) الذي حظي بإعجابِ وتـقـديرِ كبار السياسيين والمؤرخين العالميين، ككارل ماركس وبرتراند رسل . كان يرى الليلَ يسكن في كهْـفٍ مظلمٍ، ويقضي النَّهارَ كلَّهُ في نَـسْج أحلام البشر وآمالِهِمْ، حتى إذا أتى المساءُ، وبدأ الظلامُ يخيم على الكونِ، يملأ الأرضَ والسَماءَ، ليجعل الإنسانَ ينتقي من تلك الأحلام ما يروقه . وكان شيلي ينظر إلى الليل كأخٍ للموتِ، وأبٍ للنوم . لأن الموتَ يأخذ الإنسانَ إلى منطقةٍ مظلمةٍ مجهولةٍ، والنومَ طفلٌ يداعبُ جُفونَ الإنسانِ، فيُخْرس فيه كــلَّ شعورٍ ووعي بالحياة . ويا للمفارقة!..كأنَّ الشاعرَ كان يَحْدُس بنهايتِهِ المؤلمةِ، فقد باغته الموتُ (ليلا) على مَتْنِ قاربِ، فزهقتْ روحَهُ بعاصفةٍ قــويةٍ، وهو في الثَّلاثين ربــيــعًا، إلا شهــرًا.

< بقلم: العربي بنجلون

Related posts

Top