تناغم الحقيقة والخيال في ديوان “الغناء على مقام الهاء”

“الخيال أهم من المعرفة، لأن المعرفة والمعلومات يمكن لأي أحد أن يصل إليها لكن الخيال يوظف هذه المعرفة للوصول إلى الحقيقة”.  
                       
على سبيل البدء:

إذا كانت مداخل قراءة النصوص الشعرية، والأدبية والفنية عموما، قد تتعدد بتعدد زوايا النظر واختلافها، والمنهج المعتمد في كل قراءة، ونوعية الذخيرة المعرفية التي يمتلكها القارئ، وملابسات وسياقات وظروف تلقيه وتفاعله مع المقروء، فإن هذا الأمر لا يتحقق إلا مع النصوص الشعرية والأدبية الجيدة التي تمتلك نظاما دلاليا داخليا يؤطرها ويمنحها قوة التواجد عبر فعل القراءة في أزمنة أخرى مختلفة عن تلك التي أنتجت فيها.
 وانسجاما مع هذا الطرح نستدعي في هذه المقاربة النقدية تجربة شعرية غنية وبارزة ومشعة لا يمكن لقارئ الشعر الحديث أن يقفز عنها ويتجاوزها لأهميتها ورياديتها، وهي للشاعر المغربي عبد السلام بوحجر الذي أصدر، منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، عدة مؤلفات ودواوين شعرية أهمها (أجراس الأمل)1985، (إيقاع عربي خارج الموت) 1990، (الصخرة السوداء) 1993، (أزهار الحصار)1995، (قمر الاطلس)1999، (ستة عشر موعدا)2006، (الغناء على مقام الهاء)2013.  
 ولعل من يقرأ نصوص ديوانه (الغناء على مقام الهاء)، يحس، منذ اللحظة الأولى، أنه أمام قصائد شعرية تمتلك قوة تأثيرها من داخلها لأنها تمتلك نظاما دلاليا داخليا يؤطرها. ويدرك أنه أمام تجربة شعرية متفردة تكتسب شعريتها وشاعريتها من مكونات نصية مختلفة وعلى مستويات تعبيرية وأسلوبية متعددة، استنادا إلى طبيعة تبنين النص الشعري، من منظور الشاعر، فكريا وفنيا وجماليا.
في هذا السياق تأتي هذه القراءة لتبرر من داخل النصوص الشعرية قوة تأثيرها وتألقها وجودتها وذلك من خلال تحيين أهم البنى الفنية التي تحقق للنص الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر هذا السمو الذي يرقى بالشعر نحو مقامات تسعى إلى اقتحام عوالم راقية، يغدو الشعر فيها وكأنه النور والشلال والعطر وتغدو بلاغته وتناغمه سرا وضربا من السحر لا يكشفه الجَهْر:
يقولُ لي شاعرٌ: قدْ هزَّني السّحْرُ..!
   أقْــوى وأبْــلَغُ ممّا تفْعَلُ الْخَمْرُ..!
    مَا السّرّ في كُلِّ هذا؟ ما بَلاغَتُهُ؟
     مَا الأمْرُ؟ حَيَّرَ عَقْلي ذَلكَ الشِّعْرُ..  !

تناغم العتبات/الشكل:

يحيل عنوان ديوان (الغناء على مقام الهاء) على عنوان القصيدة الأولى في الديوان (عزف منفرد على وتر الهاء) إذ لا شك أن الشاعر عبد السلام بوحجر استوحى عنوان الديوان من عنوان القصيدة، ذلك أن العزف المنفرد على مقام الهاء ضرب من الغناء على مقام الهاء؛ وإذا كان المدلول الإيحائي للفظة (غناء) يحيل على الشعر، أي قصائد الديوان، فإن لفظة (مقام) لغة تدل على مَوضع القَدَمين وهي المَقَامُ والمجلسُ، كما تدل على السلَّم الموسيقي، من حيث تَسَلْسُل النَّغم درجة فوق أُخرى، والجمع (مقامات)، ويراد بها في منطوق الفلاسفة والمتصوفة حالات ثابتة ينالها السّالكُ بجهده الخاصّ، أهمها التَّوبة والورع والزُّهد والفقر والصَّبر والتَّوكّل والرِّضا. وكل هذه المعاني والدلالات التأويلية يستحضرها القارئ، في مستواه القرائي الأول، لتحقيق تفاعله مع قصائد الديوان. أما الهاء فهي أو هو الحرفُ السادسُ والعشرون من حروف الهجاء، وهو مهموسٌ ورِخْوٌ، ومخرجُهُ من أَقصى الحلق، وما يدركه القارئ أن الهاء في العنوان ليست حرفا جامدا لا معنى له بقدر ما توحي إلى دلالات تأويلية كثيرة كالشوق والتوق والعشق، وإلى مراقي طهرانية كالنقاء والصفاء والوفاء، وإلى مقامات غنائية كالعزف والنغم والشعر، وغيرها من المعاني التي تختلف باختلاف سياقاتها. ولا غرابة في ذلك مادام الشعر ضربا من العزف المنفرد على مقام الهاء!
وتعكس لوحة الغلاف للفنان محمد قنيبو مستوى من مستويات الغناء على مقام الهاء، انسجاما مع منطوق العنوان، إذ تجسد وضع جلسة حميمة لمجموعة من الأشخاص وقد تحلقوا بشكل دائري حول موائد وضعت فوقها أصناف من المأكولات والمشروبات وأواني وأكواب، ويبدو كل عنصر من عناصر المجموعة منخرطا في طقس احتفالي وفي جو مريح، توحي إليه عدة مؤشرات وتعكسه الحركات والأوضاع التي يجسدها كل شخص على حدة، سواء منهم من يبدو منهمكا ومتناغما مع العزف على آلة من آلات الطرب أو أولائك السمّاع المتكئين على جنوبهم يمنة أو يسرة، والمتأمل في اللوحة يثير انتباهه الشخص الواقف في مدخل الباب وكأنه يهم بالدخول للانضمام إلى المجموعة، إلا أن المتأمل في وقفته يبدو له وقد حفه البياض ورسم رأسُه على شكل مصباح يشع منه نور شمعة مضيئة. وكلها معاني تجعل اللوحة تتناغم مع مدلولات العنوان.
يتألف الديوان من قسمين، يحمل كل منهما عنوانا فرعيا، وكل قسم يضم بشكل متناغم ومتوازن عشرة نصوص شعرية، فيكون مجموع نصوص الديوان عشرين قصيدة؛ وسم الشاعر القسم الأول بعبارة (أرسم الحسناء بالإيقاع) ويسم القسم الثاني بعبارة (في سيرة الصعود دائما…). ويتبين أنه من الصعب على القارئ أن يؤطر مدلول النصوص المتعددة وأن يقبض على دلالاتها المتنافرة أو يصنفها ضمن تيار أو اتجاه محدد سلفا.
وعلى الرغم من هذا وذاك، نستطيع افتراضا واستنادا إلى العناوين الفرعية أن نهتدي إلى أن الحسناء التي يسعى الشاعر إلى رسمها بالإيقاع كما يلمح الشاعر إلى ذلك في عنوان المجموعة الأولى تتشكل فنيا من خلال ثلاث أبعاد هي الأنثى/المرأة والحقيقة/الأسطورة والمكان/المدينة، استنادا إلى عناوين القسم الأول: (عزف منفرد على وتر الهاء/ في أسطورة هيلين/ الخوف حبا/ في الجزائر/ من نافذة الشرق/ من مشاكسات امرأة/ طقوس الملكة/ مقام الحضور/ في فاس/ في الرجوع إلى وجدة).
وكما يحيل على ذلك عنوان المجموعة الثانية (في سيرة الصعود دائما…) يستمر الشاعر دائبا في رصده لسيرة صعود الذات وتألقها عبر ثلاث أبعاد هي الزمن/الإصرار والرفاهة/الغناء والجنون/الشعر، وفي هذا السياق نقرأ القصائد التالية: (وتر للرحيل/ من أسرار عازف الناي/ صوتها والجريدة/ في الطريق..!/ واصل غناءك يا صاحبي..!/ مقام الرهافة/ إن الرهافة موعدها النصر..!/ في حفل تكريم/ تمارين أولى في الجنون الأبهى/ يقول لي شاعر..!).
 
تناغم الأنثى /الأسطورة:

ورغبة في القبض على المنفلت المبهر، ترحل القصيدة عند الشاعر عبد السلام بوحجر، باحثة عن الجمال الذي تعتبر الأنثى تجل من تجلياته، كما قد يتجلى سحر الجمال في الكلمة الشعرية، وفي طريقة تشكيل الصورة الفنية، وفي مختلف مظاهر الطبيعة، وفي أسرار الذات وحقيقتها وعوالمها الخفية عندما تصبو إلى الرقي عبر التأمل في الأشياء واستحضار التراث الفكري والفلسفي والأسطوري من خلال اقتناص وتوظيف الإشارات والرموز والإيحاءات.
 ويتبين بأن الشاعر يخلق مخاطبا ليؤثث مقام الرؤيا الفكرية والفنية التي ينشدنها ويتمثل ذلك في خلق مخاطب على سبيل الالتفات  وليمنح للمدلول الشعري شحنة عاطفية ومسحة رومانسية يتخذ من الأنثى مخاطبا ومحاورا في كثير من قصائد الديوان تسكن النصوص وتحرك متخيلها وصورها عبر تقنيات بلاغية.     
وعلى هذا الأساس يلاحظ القارئ أن حضور الأنثى يشكل محورا مركزيا في كثير من قصائد الديوان، وهو حضور له إيحاءاته الدلالية البعيدة التي قد تختلف من نص شعري لآخر وقد تتقاطع مع بعضها البعض، مما يعني أن الأنثى قناع فني يوظفه الشاعر بمهارة عالية ودراية عميقة تمنح للنص الشعري جاذبيته لاسترفاده من معين العاطفي والوجداني والرومانسي وكلها عوامل تساهم بشكل فعلي وفعال في تحقيق الفعل القرائي على مستويات راقية.
ولا شك في أن بنية الضمائر المنفتحة على مضمرات تأويلية متعددة ومختلفة تكشف عن نسيج مدلول النصوص الشعرية، وفي هذا السياق يلاحظ القارئ حضور الهاء التي قد لا تدل تحديدا على المرأة بقدر ما تتعدد مدلولاتها وتتسامى متألقة عبر مقامات مبهرة، فلا المغني يدرك منزلتها، ولا القصيدة تستوعب حسنها أو رسمها، إنها صنع رباني رائق لا تُدْرَكُ حقيقَتُه. وتظل المرأة غير مكترثة بالعشاق من حولها ولا تعبأ بمن يطلب ودها، همها أن تتأمل ذاتها وتكسر كل المرايا من حولها إلى أن يرى وجهُها وجهَها وتدرك حقيقتها. وعندما يطلب الشاعر ودها ويتمنى ليتها تدرك تعلقه المطلق بها وأن عمره بدونها انتهى تتمنع وتظل نافرة. فمن تكون الهاء حسب منطوق الشاعر؟
مَا الَّذي قَدْ يَقولُ الْمُغَنّي لَنا أوْ لَهَا/ حِينَ تُدْرِكُ حَتّى النُّهَى/ أنَّهَا فَرْقَدٌ أوْ سُهى/ أنَهَا الْأمَلُ الْمُشْتَهى/ أنَّها؟/ مَا الَّذي قَدْ تَقولُ الْقَصيدَةُ/ وَهي تَرى رَبَّها/ قُرْبَهَا/ صَاغَهَا/ مِثْلَ لُؤْلُؤَةٍ مُنْتَقاةٍ/ وَفي قَالَبِ الْحُسْنِ قَدْ صَبَّهَا.
وتحضر الأسطورة في بعديها الواقعي/التاريخي والشعري/المتخيل ذلك أن الشاعر يسعى من خلال استلهام الرموز الأسطورية إلى تشكيل رؤياه الخاصة وتجاوز الواقع ومحاورة الأسطورة ذاتها التي ترنو نحو السمو بالحقيقة إلى المنتهى عبر مقامات الترنم والإنشاد والغناء وعبر لحظات النشوة الشعرية الجذلى.
 اَلنّايُ كانَ مَطِيَّتي الْأولى إلَى حُبّي/ وَقَفْتُ أمَامَ نَافِذَةٍ/ تُطِلُّ على “أبي حَجَرْ” و”تازةَ” الْعليا/ رَأيْتُ فمي يَقْطُرُ مَوْجَةً نَغَمِيَّةً/ مَبْحوحَة الدَّمِ والنّدَاء.
وفي قصيدة (في أسطورة هيلين) يعزف الشاعر على وتر الحنين للإبحار في التراث الإغريقي ويتخذ من (أثينا) نافذة يطل منها على عالم مليء بالأسرار والسحر والحب والجمال؛ وتتألف القصيدة من أربعة عشر مقطعا شعريا تم التأشير عليها بالفاصل الطباعي والرقمي، وتحقيق الانسجام بينها من خلال تكرار لازمة تتردد في بداية كل مقطع شعري(فِي أثِينا) مما يولد نبرة موسيقية تشد مسمع القارئ، وتقوده عبر لوحاتها الجذلى في رحلة الاستمتاع بمشاهد من آثار ومواقع تنعش الروح وتبعث في النفس عبر التذكر والتفكر والتأمل أوجاعا وأشوقا غريبة. فيتولد الحنين إلى الأصل الذي تجسده أسطورة هيلين في المقطع الحادي عشر من القصيدة والذي يطول أكثر من غيره  مما يجعله يمثل محور القصيدة. وتحاصر القارئ رموز أسطورية تتخلل القصيدة وتدعوه إلى اقتحام عوالمها المتاخمة المحفوفة بالأسرار، ويحرك الشاعر هذه الرموز الأسطورية ليجعلها حية، تجسد أدوارا من خلال عدة مشاهد تعكس موقفها ورؤيتها في الزمان والمكان:
فِي أثِينا/ يَصْعَدُ اللَّحْنُ حَزيناً/ يَرْتَدي أفُقَ الْمَدينَهْ/ حِينَ تُلْقي نَفسَها هيلينُ في النَّهْرِ/ وتَمْضي وَحْدَها في رِحْلَةِ الْحُبِّ الْكَبيرْ:/ يَا حَبيبي قَدْ طَعَنْتَ الروحَ/ فاخْتَرْتُ أنَا الْموْتَ حَياةً ويقيناَ/ مثل كُلِّ الْعاشِقينَ السَّابقينا! في أثينَا../ في أثينَا../ في أَثينَا..!!!
يسكن داخل كل نص شعري نفس قصصي يمنح للمدلول حركية وجاذبية مثيرة تنشأ عن اختلاف الأساليب واختلاف وتعدد مستويات التعبير والأحداث التي تناوشها كل قصيدة من قصائد الديوان، ويتشكل بناء النص الشعري وفق هذا المنظور الذي يكتفي بالإشارات والتلميحات ويلغي الكثير منها ليحتفظ بما هو دال دلالة مكثفة. وهو ما يجعل دلالة النص مختزلة وغير محددة تلزم القارئ بتحديدها وإتمامها وإرجاعها إلى صيغتها المباشرة والواضحة لغويا وفكريا وجماليا.
وتلاحق القصيدة صور تألقها في ذاتها وفي العالم من حولها فتغدو لوحة فنية متعددة الأبعاد ترصد تجليات امرأة تتأمل وجهها في المرايا لتكشف حقيقتها بعد أن  وقفت الوصيفات من حولها منبهرات يؤكدن أنها لوحة تنطق كلها بالبهاء.لكنها لا تعبأ بمن حولها وبمن يطلب ودها وتظل نافرة لأن مقامها أرقى من أن يُدرَك ولو بالغناء أو الفن إنعها أبعد مما تصفه الأسماء.
قَرأتْ رَسائِلَهُ الرَّقيقَةَ في الْغرامْ/ قرأتْ مشاعرَها الرَّقيقةَ/ ثُمَّ قالتْ:/ ما الذي يُقْصيهِ عنّي كالْيمامْ؟/ أعطيته حبّي وذاكرتي/ وأسرار الْخُضوع/ فَمَا أرَادَ ولو قليلا أن يُكاشفي/ بأزَهارِ الْقَصيدةِ/ أوْ يَمُرَّ إلى الْأمامْ.. !

تناغم المدينة/الفضاء:

ويجسد الفضاء، المكاني والمديني، عنصرا أساسيا مشكلا لنصوص الشاعر عبد السلام بوحجر باعتباره مكونا شعريا ونصيا أساسيا، إذ يطرد حضور الأمكنة في بعدها المتخيل لا كما هي في الواقع الماثل، إذ يتصورها خيال الشاعر ارتباطا بالزمان والمكان بين الماضي والحاضر بمختلف ايحاءاتهما الفكرية والوجدانية والتاريخية.    
وما يؤكد أهمية هذا العنصر في البناء الفني للنص وفي المتخيل الشعري عند الشاعر عبد السلام بوحجر كون نصوصه الشعرية تخلق من داخلها فضاءها الخاص، وليس من الضروري، وفق هذا المنظور، أن يذكر الشاعر المكان بالاسم والصفة كما تؤشر على ذلك بعض قصائد الديوان استنادا إلى منطوق عناوينها.
 وانسجاما مع هذا التصور تستلهم كثير من قصائد الديوان رؤاها من إيحاءات أسماء أمكنة ومدن حقيقية يذكرها بالإسم كما في قصائد (في الجزائر) و(في فاس) و(في الرجوع إلى وجدة) في القسم الأول من الديوان الموسوم ب (أرسم الحسناء بالإيقاع)؛ والملاحظ أن المدينة في ديوان الشاعر عبد السلام بوحجر تحضر كحسناء تتعالى عن الوصف والرسم والتجسيد لأنها تولد في الذات نغما جميلا يسكن القلب والخيال والوجدان ويتملك عواطف الشاعر ووحدها القصيدة تلاحق الحسناء الجميلة وترسم تجلياتها:
قَدْ رَآها عاشِقوهَا/ تَتَهَادَى فِي خُطاها/ بِجَمالٍ قَدْ تَناهَى/ وَبِقَدٍّ يَتَباهَى/ فَسَبَتْهُمْ يَا صَديقَيَّ/ عُقولاً وَقُلوباً/ وَعُيوناً وَشفاها..!
ويعتمد الشاعر أقنعة استعارية، رمزية وطبيعية وثقافية، كما لا يتوانى في الإعراب عن حبه للمدينة بشكل مباشر عبر ملفوظات صريحة بحيث  تعكس المحاكاة  لعوالمها ويمرر من خلالها أحاسيسه  وتصوراته ورؤاه نحو المكان كفضاء متخيل يتعالى عن والواقع المباشر الذي لا يلبي للذات الشاعرة نموذجها المثالي الذي تتفاعل فيه الحقيقة والأسطورة:
جِئْتُ الْجَزائرَ شاعِراً أمْ عاشِقاً؟/ مِنْ عادَتي يَا سادَتي/ ألاّ أحَدِّقَ في وُجوهِ الْفاتِناتِ إذَا حَضَرْنَ../ فَوَحْدَهُ بَحْرُ الْقَصيدَةِ يَحْتَويني ساعَةَ الإنْشَاد…
ويتبين أن الشاعر يخلق مخاطبا ليؤثث مقام الرؤيا الفكرية والفنية التي يتوخى رصدها وتصويرها وتجسد الأنثى دور المخاطَب في الغالب الأعم ليمنح للمدلول شحنة عاطفية وبعدا رومانسيا مقصودا وهو ما يجعل القصيدة عند الشاعر في حركية دائبة لا تعرف سكونا حتى نهايتها ويتم ذلك بتوظيف تقنيات تعبيرية وبلاغية محكمة معنى ومبنى.
إن عشق المكان/المدينة يؤطر في الديوان المقروء وفق مقامات مختلفة تتغير بتغيره من قصيدة لأخرى؛ إذ يحضر في قصيدة (في فاس) وفق مدلول شعري يجعل من المدينة معشوقة تبهر كل من رآها ويفتتن بها الجميع، ولا تبهر الشاعر وحده كما هو الحال في قصيدة (في الجزائر).
ومن خلال عنوان قصيدة (في الرجوع إلى وجدة) يتبين أن الشاعر ينزل مدينة وجدة منزلة خاصة إذ يأنس القارئ نهج الشاعر منظورا دلاليا مخالفا عما سلكه مع الجزائر وفاس ذلك أن الظرفية (في الرجوع) تركز على الرجوع والعودة مما ينم عن زمن الغياب والهجر والانفصام لكنه غياب ينتهي بالرجوع (إلى وجدة) والرغبة في الوصال ومد حبل المودة ولا غرابة في ذلك مادام الصدق دليل حب الشاعر لمدينته. ويتحول الإحساس ويتأرجح بين زمنين ترصدهما القصيدة زمن الاغتراب والنفي وزمن العودة والتضحية من أجل المدينة/الوطن.
 وإذا كانت نصوص الشاعر عبد السلام بوحجر تعلو على الواقع لأنها تمتلك مؤهلات تمكنها من ذلك وهو ما يجعلها تنفصل عن بنياتها الاجتماعية والتاريخية والسياسية فإنها تسعى من خلال هذا التجاوز والسمو على تأثيث عالمها الخاص وهو ما يتطلب من القارئ التعامل مع مكونات العالم الشعري من منظور فني لا منظور واقعي.
إن حب الشاعر للمكان يرقى إلى مستوى الوجد والعشق والهيام ويصل إلى مقام التوحد والتماهي والانصهار مع الهاء بمختلف مظاهرها وتشكيلاتها وتجلياتها؛ الأنثى، والمكان، والقصيدة، والتي تتفاعل جميعها مع الذات الشاعرة في علاقتها بالزمان المحدد والمطلق والفضاء الخاص والعام.

ـ تناغم الذات/القصيدة:

إذا القسم الأول من الديوان قد امتد عبر ثلاثة مقامات فإن القسم الثاني ينهج نهجا تصاعديا فينحو بالذات الشاعرة منحى تصاعديا عبر مقامات مغايرة يمكن تأطيرها أيضا ضمن ثلاث امتدادات هي الإصرار والرهافة والغناء، وتشكل في مجموعها قيما راقية يؤمن بها الشاعر ويسعى إلى تجسيدها سلوكا ونهجا وسيرة، ويسعى إلى تحقيقها في تجربته ورؤياه التي يسكنها التوق إلى مقامات الصعود والطهر والنقاء.
ويتخذ الشاعر القصيدة أنيسا في وحدته ومعينا في رحلة الصعود ومعبرا مكينا يسلك عبره فيعمد إلى حسن اختيار القالب والشكل البنائي الذي يلائم مدلول نصوصه الشعرية على اختلاف موضوعاتها. وفي هذا السياق تمتد قصيدة (وتر الرحيل) عبر أربعة وعشرين مقطعا شعريا تروم التوازن والتوازي التامَّيْن، إذ تألفت جميعها من بيتين شعريين تم توزيعهما عموديا على أربعة أسطر/أشطر شعرية، وتربط بين البيتين في كل مقطع علاقة منطقية تنشأ عن توالي السبب والنتيجة؛ ويأتي مدلول المقاطع على شكل بيانات شعرية تتضمن حقائق فكرية وآراء تعكس موقف الشاعر من الحياة وتصوره الفكري ونموذجه الأخلاقي والقيمي ينصهر فيها الذاتي والشعري والفكري بشكل تام:
 اَلشَّوْقُ باقٍ كالْـجبَلْ = والرّيح ُلَنْ تقْـضي عَلَيْ/ مَادامَ في قَلْبي الْأمَلْ = والْحِبْرُ يَخْرُجُ مِنْ يَديْ/ والشِّعْـرُ كانَ ولَمْ يَزَلْ = نَهْراً مليئاً بِـالْـــــخَيالْ/  يَمْتَـدُّ في جَبــَلِ الْأزَلْ = وَيَصُبُّ في بَحْرِ الْجَمالْ.
وعلى وتر الرحيل ينشد الشاعر قيم الحب الصادق من خلال الإصرار على مواصلة الطريق متحديا الألم ناشدا الخيال والجمال في كل شعر يكتبه، والإخلاص والوفاء للقصيدة وحدها وللوطن كله وللأنثى في أبهى تجلياتها، وللطبيعة في أهم عناصرها الصائتة والصامتة وللحقيقة في مختلف تشعباتها، بركوب البهاء والحلم والتحلي بالصبر واليقين والأمل.
ويسبر الشاعر أغوار الذات في قصيدة (من أسرار عازف الناي) حيث يكشف عن جملة أسرار تجعل يحيى الشخصية الرمزية في النص بين توقين/شوقين متناقضين، التوق إلى الغناء عبر إيقاع الحنين والغياب، والتوق إلى البكاء تعبيرا الخيبة والهزيمة، وعبر ثلاثة مقاطع شعرية متوسطة الطول يرسم الشاعر لوحات عشق تنم عن شعور الذات اتجاه الأنثى شعور يمتزج فيه معاني  الحضور والغياب ليشكل أنشودة عليا لوحدة الأضداد:
..مِنْ فَرَحٍ إلَى حُزْنٍ../ وَمِنْ ألَمٍ على أَمَل../ وَمِنْ وطَنٍ إلى مَنْفى../ وَمِنْ دُنْيا إلى رُؤْيَا..
وتسكن القصيدة الشاعر وتتملك مشاعره فيأسره سحرها دون أن يدرك الأسباب ويتساءل عن مكمن هذا السحر ومأتاه ويخاطب يحيى الشخصية الرمزية في النص الشعري، على سبيل الالتفات، ورغبة في اكتشاف أسرار الذات، وتشكيلا لهذا المعنى، يغدو سحر الناي الذي عشقه يحيى كناية عن الشاعر خيالا ليس مأتاه الهواء والتراب والسماء فحسب بقدر ما ينعكس كصدى للذات الجريحة.
ـ مِنْ أيْنَ يَأتي سِحْرُ هذا النَّايِ/ يَا يَحْيى؟/ ـ السَّماءُ تقول: يَسِكُنُ في بُروجي/ والْهواءُ يَصيحُ: يخرجُ منْ خُروجي/ والتُّرابُ يَبوحُ لي:/ هو مِنْ صَدى قَلْبِي أنا/ أمَّا أنَا فأراهُ يَصْعَدُ مِنْ هُنا:/ مِنْ آخِرِ الرِّئةِ الْجَريحَةِ.
 ويستمر الشاعر هائما ينشد الحقيقة منشغلا بالعالم وكلما تأمل ما حوله ليكشف ما يشفي غليله المعرفي والفكري والوجودي تشعبت السبل، فيرجع إلى الذات متخذا منها مصدرا للإلهام الشعري وللمعرفة وللحقيقة انسجاما مع مقولة سقراط (اِعْرِفْ نَفْسَكَ بنفسِك) ومع المقولة المأثورة (قلْبُ المؤْمنِ دَليلُهُ).
وتنفتح القصيدة عند الشاعر عبد السلام بوحجر على اليومي وتتناغم مع كل ما هو ذاتي لتقتنص منه ما يؤثث مقامها الفني ويؤطر شكلها الجمالي، ويتسرب عبر تقنيات وأساليب كثيرة تمنحه شعريته وقد يأتي على شكل نصائح كما في قصيدة (صوتها والجريدة) حيث يضمن نصه الشعري جملة التماسات وتوجيهات على شكل ملفوظات شعرية تُؤَطَّر ضمن أوامر (افعل) أو نواهي (لا تفعل):
لا تَنْكَسِرْ لغُرورهمْ..لا تنكسرْ..!/بالْكاف والنون انتصرْ..! فَجِّرْ صُراخَكَ في الْأمَلْ../ ورياضَةِ الْجَرْي الْخَفيفِ../ على حُدود الْفجْرِ/ تَنْسَ الإخْوةَ الأعْداءَ../ تَنْسى السّكَّري..!/حافِظْ على مِلْحِ التَّوازُنِ فيكَ..!/لا تَغْضَبْ على عَجَلٍ.
وعبر رحلة العمر يبحث الشاعر عن دواعي شجنه في ظلال الطفولة حتى اشتعال الكهولة، وقد تملَّكه نشيد السمو المعنوي والأخلاقي والروحي ولا يتوانى في توظيف إشارات دالة وموحية على هذه المعاني والدلالات تنبعث من داخل الشاعر على شكل بوح واعترافات تخلص الذات وتطهرها من النقائص والزلات والتعثرات وتقحمها في عالم التوق الدائم نحو السمو مع التواضع:
وَسَأمْضي على سُلَّم الاعْتِرافِ/ إلى أبْعَد الْحدِّ حَتّى أرى/ في عُيونِ الْمَدَى قَمَري/ صَافياً..كامِلا..
ويستمر الشاعر راقيا في سيرة الصعود لإدراك جوهر الأشياء أنيسه الناي ومركبه الغناء وحلمه اعتناق الجمال في أبهى صوره. وكلما تقدم في رحلته تجلت له الحقيقة التي تتفاعل مع الخيال ومع أسرار الذات في علاقتها بالعالم من حولها وهو مقام لا تدركه الذات إلا إذا تخلصت من شوائبها وتشربت قيم نبيلة: البساطة، الشكر، الاعتراف، الخفة، الحسن، العفة، الروعة، النشوة، المتعة، السحر، الحب…إن المعيار القيمي قائم على خلفية المقارنة والمفاضلة بين عالمين متناقضين الهُنا/الحضيض والهُناك/السُّمو، ويرصد الشاعر تجليات هذه الرؤيا قائلا:
 اَلْحمامُ هُنا../ وهُناكَ الْهَديلُ../ الْكلامُ هنا../ وهُناكَ الْهُيامُ../ الإِمامُ هُنا../ وهُناك الأَمَامُ/ الصُّراخُ هُنا../ وَهُناك الْخَيالُ../ الْجوابُ هُنا../ وهُناكَ السُّؤالُ../ الرّيالُ هُنا../ وهُناكَ الْقَصيدَةُ../ مَنْ منهما الأَثْقَلُ الأفْضلُ/ اَلْأجْمَلُ ـ المُبْتَغى/ عِنْدَما يُوضَعانِ على كَفّتَيْنِ أمَامَكَ يَا صاحِبي..؟
    ولا يتوانى الشاعر في الالتفات إلى الذات ودعوتها إلى الرجوع منها وإليها ناعتا مقامها المرتجى بصفات خاصة تصدر عن رؤيا الشاعر استنادا إلى السياق الذي تندرج فيه وتدل على ذلك قصائد منها قصيدة (مقام الرهافة) التي تشكل لوحة فنية مثيرة عمادها لغة شعرية انسيابية ترسم مقام الرهافة عبر ترويض الذات وتحفيزها على الامتثال لإشارات وعلامات ترسم خارطة الصعود إلى مقام الرهافة: سَبيلُكَ أنْ تَتَقدَّمَ يا كائني/ بِالرُّجوعِ إليك/ فترْنو إلى الْآخَرينَ بِعَيْنِ الرَّفاهَةِ.
وما دام الشاعر قد حسم في اختياره فلا رجعة عن الاستمرار في سيرة الصعود لأن الذات تدرك أنه أمر مبرر من خلال ومضات مشرقة تعي وتؤمن أن الرهافة موعدها النصر وأنها دالة، على سبيل الالتفات، على سيرة ونهج الشاعر نفسه ومصاحبة له في كل حال ومآل؛ ولا غرابة إذا ما كان البكاء دليل رهافة الشاعر في حفل تكريمه عندما رشق الحاضرون قلبه برهافتهم بتذكيرهم له بعشقه للعود والشعر منذ طفولته فوحده البكاء كان التعبير البليغ عن رهافته في رقي المقام وسمو الذات.
  يغدو الغوص في بحر الذات، في ديوان (الغناء على مقام الهاء)، رحلة نحو العالم الشعري الخاص بالشاعر عبد السلام بوحجر، ونبش في الزمان في بعده الوجودي، واستنطاق للمكان في بعده التشكيلي والفني والثقافي، إذ لا ذات خارجة عن الزمان والمكان.    
  إن استبطان الذات/القصيدة في علاقتها بالزمان بمختلف امتداداته والمكان بمختلف تجلياته ضرب من السمو عند الشاعر، مادامت الغاية هي الكشف عن الحقيقة، وعن أسرار مسار الحياة ورحلتها الشاقة، لتبدو واضحة وجلية في طبائع الذات الشاعرة الشقية، وطبائع العناصر المشكلة للعالم.
 ويغدو الخيال مدخلا أساسيا لاكتشاف الحقيقة والمعرفة والجمال، وهي محنة يعيشها الشاعر، إذ يصعب القبض على الحقيقة لأنها تظل دائما منفلتة وعصية وهاربة، ومن ثمة يعود الشاعر إلى الذات عبر الشعر/القصيدة لمراودة هذا الرهان الصعب وملامسته وتصويره فنيا وجماليا، ولا غرابة في ذلك مادام الشعر، في منظور الشاعر، ضربا من السحر والجنون والخيال:
والشِّعْـرُ كانَ ولَمْ يَزَلْ = نَهْراً مليئاً بِـالْـــــخَيالْ
يَمْتَـدُّ في جَبــَلِ الْأزَلْ = وَيَصُبُّ في بَحْرِ الْجَمالْ.
الهوامش:

 ـ من أشهر أقوال العالم الألماني “ألبرت أينشتاين” (1879م ـ 1955م).
 ـ الغناء على مقام الهاء، شعر عبد السلام بوحجر، الطبعة الأولى، مطبعة ومضة طنجة، يوليوز 2013، قصيدة، يقول لي شاعر..!، ص 146.
 ـ ن م، عزف منفرد على وتر الهاء، ص 10.
 ـ ن م،  من أسرار عازف الناي، ص 102.
 ـ ن م،  في أسطورة هيلين، ص27.
 ـ ن م، الخوف حبا، ص28.
 ـ ن م، في فاس، ص 72.
 ـ ن م، في الجزائر، ص 38.
 ـ ن م، وتر للرحيل، ص 86ـ87.
  ـ ن م، من أسرار عازف الناي، ص 99.
 ـ ن م، من أسرار عازف الناي، ص 100.
 ـ ن م، صوتها والجريدة، ص 109.  
 ـ ن م، في الطريق..!، ص 120/119.
 ـ ن م، واصل غناءك يا صاحبي..!، ص124.
 ـ ن م، مقام الرهافة، ص128.
 ـ وتر للرحيل، ص86.

بقلم: مصطفى الشاوي

Related posts

Top