يحظى إصلاح منظومة العدالة بعناية موصولة من طرف جلالة الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش، إذ ما فتئ يعطي توجيهاته السامية للنهوض بهذا الورش وجعله أحد أولويات التحديث المؤسسي والتنموي، الذي يقوده جلالته.
واستلهاما من هذه الروح الإصلاحية الملكية، تواصل بلادنا، مسار تفعيل ميثاق إصلاح منظومة العدالة، الذي تم إعداده بعد مشاورات وطنية موسعة ومتنوعة تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية في هذا المجال، وذلك من خلال وضع تحديث القضاء، وتخليقه وعصرنته، وترسيخ استقلاله، في صلب السياسات العمومية والبرامج الحكومية، بهدف إحقاق الحقوق ورفع المظالم، وتوفير مناخ الثقة، كمحفز على التنمية والاستثمار.
وفي حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أوضح الباحث الأكاديمي والمحلل السياسي، عتيق السعيد، أن بلادنا شهدت منذ تولي جلالة الملك محمد السادس العرش المجيد مسارا إصلاحيا شاملا وعميقا، يشمل في أحد أوارشه الكبرى إصلاح منظومة العدالة، باعتباره أولوية من الأولويات الرامية إلى بناء الدولة الحديثة القائمة على توطيد دولة الحق والقانون، ودعامة أساسية لتوطيد الشفافية والمصداقية في المؤسسات وبناء الديمقراطية، واعتماد حكامة جيدة في جميع المجالات يكون فيها القضاء مكونا فاعلا في تحقيق التنمية.
وأضاف أن استقلال القضاء ، وتنظيم جهازه، وتوحيد صفوفه، وكذا إعادة هيكلة مختلف أصنافه ودرجاته ، بما يضمن أعلى درجات تحقيق العدالة القضائية المتعارف عليها دوليا، شكل اللبنة الأساس التي قام عليها البناء الإصلاحي لمؤسسات الدولة ونماء المجتمع، مبرزا في هذا السياق أن الإصلاح ارتقى إلى مكانة بارزة دستوريا وقانونيا، لتضمن الوثيقة الدستورية لـ2011 مجموعة من المبادئ التي تؤسس لاستقلالية القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، بالإضافة إلى إحداث المحكمة الدستورية، ودسترة مجموعة من المؤسسات والهيئات القضائية والحقوقية، وفي مقدمتها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والمجلس الأعلى للحسابات، ومؤسسة الوسيط، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وغيرها.
وبهدف تفعيل مقتضيات ميثاق هذا الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، والذي تضمن مخططا متكاملا ومضبوطا يجسد العمق الاستراتيجي لهذا الإصلاح في محاور أساسية، تهم تعزيز ضمانات استقلال القضاء، وتحديث المنظومة القانونية، وتأهيل الهياكل القضائية والإدارية والموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية، وترسيخ التخليق، وحسن التفعيل، تم تحقيق نهضة تشريعية، من خلال اعتماد تعديلات، شملت مجموعة من مشاريع القوانين المؤطرة والمؤسسة.
وتهم مشاريع القوانين المؤسسة هذه، على سبيل المثال لا الحصر، التنظيم القضائي، وقانون المسطرة المدنية، والقانون الجنائي، وقانون المسطرة الجنائية، وقانون التحكيم والوساطة الاتفاقية، والقانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية القوانين، وغيرها من مشاريع القوانين ذات الصلة بخدمة مصالح المواطن.
واعتبارا لأهمية تعزيز حماية الحقوق والحريات وتحقيق الأهداف المنشودة من إصلاح منظومة العدالة الشامل والعميق، وكسب عدد من التحديات التي رفعتها الدولة، عملت وزارة العدل على تنزيل توصيات ميثاق الإصلاح المذكور، واتخاذ كل التدابير التشريعية لتحديث وتطوير المنظومة القانونية والتنظيمية المؤطرة لمنظومة هذه الحقوق سواء في المجال المدني أو الجنائي ومراجعتها، أو في مجال التجارة والمال والأعمال، وإصلاح سياسة التجريم والعقاب، والرفع من نجاعة أداء المحاكم، وإنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة، وإصلاح المهن القانونية والقضائية، وترسيخ التحول الرقمي لمنظومة العدالة، وفق مخطط تشريعي تم وضعه برسم الولاية التشريعية الحادية عشر (2021-2026)، منها ما صدر بالجريدة الرسمية، ومنها ما هو في طور مسطرة المصادقة التشريعية بالبرلمان، ومنها ما هو محال إلى الأمانة العامة للحكومة للمناقشة، ومنها ما هو في طور الإعداد والإحالة لمباشرة مسطرة المصادقة التشريعية.
وفي إطار نموذج من نماذج هذه المسارات الإصلاحية وتيسيرا لولوج المواطنين للعدالة، عملت الوزارة على اتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات، تهم تحسين ظروف استقبال المواطنات والمواطنين بالمحاكم وتعميم المعلومة القانونية والقضائية، وتطوير نظام المساعدة القضائية، والمساعدة القانونية المجانية، وتقوية القدرات التواصلية للمحاكم مع المواطنات والمواطنين، من خلال الأبواب المفتوحة المنظمة لفائدتهم لإطلاعهم عن قرب على عمل المحاكم وطرق اشتغالها.
كما همت عقلنة الخريطة القضائية للمملكة وملاءمتها مع التقسيم الإداري بإحداث عدد من المحاكم والمراكز القضائية الجديدة عبر مختلف جهات المملكة، وتأمين مجموعة من التطبيقات والخدمات الرقمية، لتعزيز روح الشفافية والثقة في المؤسسات، وتقريب المساطر والإجراءات القضائية من مغاربة العالم.
وبهذا الطموح والرؤية الاسترايتيحية يواصل المغرب إصلاح هذا الورش الاستراتيجي، الذي قال عنه جلالة الملك، في خطابه السامي بمناسبة الذكرى الـ 56 لثورة الملك والشعب، “إن الأمر يتعلق بورش شاق وطويل، يتطلب تعبئة شاملة، لا تقتصر على أسرة القضاء والعدالة، وإنما تشمل كافة المؤسسات والفعاليات، بل وكل المواطنين”، وذلك بهدف “توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية، وكذا تأهيله ليواكب التحولات الوطنية والدولية، ويستجيب لمتطلبات عدالة القرن الحادي والعشرين”.
< عزيز لمسيح (و.م.ع)