تيمة الغياب في الأغنية المغربية

قسم كبير من الأغنية المغربية المعاصرة يدور حول الحب بين الجنسين، باعتبار الحب إحساسا رقيقا، وفي سياق هذا الإحساس، تبرز عدة تمثلات، نجد من بينها على الخصوص، تمثل الغياب، غياب الكائن المحبوب والعزيز، المستعصي على اللقاء في كثير من الحالات، مما يخلق تلك الشحنة القوية التي تجعل المتلقي يتفاعل معها بشدة، سيما إذا كانت الكلمات جد معبرة ومؤثرة، وكان اللحن وثيق الصلة بهذا الإحساس، وبالأخص إذا كان الأداء الغنائي يمتلك تلك القدرة على تشخيص الحالة النفسية المتأزمة، أخذا بعين الاعتبار أن الغياب هو شكل من أشكال الحرمان.
العديد من المطربين المغاربة – ما دمنا نتحدث عن الأغنية المغربية تحديدا- أدوا أغاني يدور محورها الأساسي حول الغياب بكل أبعاده.
الغياب الذي يترك فراغا لا يمكن تعويضه، بالنظر إلى أن الغائب له محبة خاصة، قد يكون معشوقا أو واحدا من الأقارب أو الأصدقاء، أو قد يكون عبارة عن مكان أليف، الشيء الذي يمتزج فيه الإحساس بالحنين والفقد.
غير أنه عند القيام بجرد لقسم كبير من الأغاني المغربية المعاصرة، سواء كانت شعبية أو عصرية، باللغة العربية الفصيحة أو الدارجة أو الأمازيغية.. أو غير ذلك من اللهجات، هي أغاني ذات ارتباط وثيق بالحب بين الجنسين.
جاء في أغنية “غاب علي الهلال” وهي من كلمات أحمد الطيب العلج ولحن عبد القادر الراشدي وأداء المطربة نعيمة سميح:

“غاب علي الهلال
طال صبري والنوم يجافي
خبروني وقتاش يطلع
هلالي ونشوفو”

إنه بالقدر الذي طال فيه غياب المحبوب صار يبدو للحبيبة عبارة عن هلال، إنه كناية عن الغياب، فضلا عن أن هذا العنصر الطبيعي المتمثل في الهلال، يستقر في مكان بعيد عن الأعين، يصعب لمسه، عناقه، كما أنه لا يعدو أن يكون سوى عبارة عن جزء من الجسم بكامله الذي هو البدر، الشيء الذي يعمق الإحساس بالغياب، وبالتالي لا تجد الحبيبة من حيلة لمواجهة هذا المصير، هو النوم، إنه عن طريق النوم، تتحقق من خلال الأحلام أشياء خارقة، من قبيل مقابلة المحبوب الذي طال غيابه، غير أن هذا النوم في حد ذاته، يظل مستعصيا، النوم يجافي، كما جاء في الأغنية، وهنا يتفاقم الإحساس بالأزمة، أزمة غياب المحبوب، ولا يظل أمام الحبيبة من حيلة أخرى سوى الاستعانة بالغير لمقابلة المحبوب الذي يتجسد في الهلال، الذي يظل هو الآخر شبيها بالعيش في الأحلام.

****
للمطرب عبد الوهاب الدكالي عدة أغاني يدور محورها حول الغياب بصفة أساسية، مما يدل على أن لديه ولعا شديدا بهذه الموضوعة، بالنظر إلى أنها تتناغم مع الإيقاع الموسيقي الذي يبدعه بنفسه، يقول في مطلع أغنيته عيني ميزاني:

“هاد الغيبة طالت الفراق اللي بكاني
الناس دوات وقالت قلبي ما هناني
وخا شافوني ساكت
عيني عيني عيني عيني هي ميزاني”

الغياب هنا يخلف لدى الحبيب إحساسا فادحا بالحزن، وبالنظر لعجزه عن تكسير هذا الحاجز الذي يحول بينه وبين من يعزه ويتوق للقائه، لا يجد من وسيلة سوى البكاء، وهذا البكاء هو بمثابة ترجمة لضعفه وهشاشته.
يقول الدكالي في متن الأغنية نفسها:

” حالتي ولات غريبة
غاب غاب بلا ما يشوار
حتى لاين حتى لاين هاد الغيبة

القلب غير كيعثر عايش عايش بلا تجربة”
إنها تعابير تلخص الأزمة النفسية التي خلفها غياب المعشوقة، سيما وأن هذه التجربة التي يمر بها هي الأولى في حياته، الشيء الذي يجعله يفتقد للوسائل التي تمكن من مواجهة هذا المصير وتمده بالقوة لأجل تجاوزه. الغياب الذي يحدث بغتة دون أن يكون الحبيب مستشعرا له من قبل، إنه غياب ناتج عن أزمة العلاقة العاطفية بين الاثنين، حين تصل هذه الأزمة إلى ذروتها، تنفجر على شكل فراق بلا وداع، أو كما جاء في الأغنية: غاب غاب بلا ما يشوار بلا ما يشوار..

****
المطرب البشير عبدو بدوره له عدة أغاني تتمحور حول الغياب، لعل أبرز هذه الأغاني، هي أغنية: وانت دايز، وهي من كلمات: علي الحداني، ولحن: محمد بلخياط، جاء في مطلع الأغنية:

“وانت دايز طل علينا
وانت دايز طل علينا
  شوفنا واش احنا لاباس طل علينا
والمركب لين وصل لين وصل بينا
بحور الدنيا وسط الناس طل عليناطالبين سويعه لينا، طالبين
وايلي فوتي القياس
شوف اوكان وفكر وفكر فينا”

على خلاف النماذج الغنائية التي أتينا على ذكرها في السابق، فإن المطرب هنا يتوجه بخطاب مباشر إلى المحبوب، إنه خطاب استعطافي لمد جسور التواصل.
المطرب يشعر بنوع من الاغتراب والوحدة في غياب من يعزه ويتوق للتواصل معه، هذا الغائب هو بمثابة منقذ، إن مجرد إطلالة منه يمكن أن تكون بلسما شافيا، على اعتبار أن هذه الإطلالة تمنح الإحساس بالأنس وكذا الاطمئنان بأننا لسنا وحيدين في هذا العالم الذي توجد به عدة موانع تجعل اللقاء مستعصيا، وبالتالي يظل الغياب شيئا مزعجا، يقض مضجع الحبيب.

****
الغياب إذن في هذه النماذج الغنائية على الأقل، يشكل محورا رئيسيا، تتكرر عدة كلمات دالة عليه، كلمات ذات نبرة حادة: ” حتى لاين حتى لاين هاد الغيبة ” كما جاء في أغنية: عيني ميزاني، وهو كما يتضح سؤال استنكاري.
أو هذا التعبير الذي يترجم الإحساس بالغضب، على اعتبار أن الطرف الآخر بالغ في جفائه: “وايلي فوتي القياس” كما جاء في أغنية: وأنت دايز.
إجمالا فإن الغياب هو ذلك الإحساس الذي تم التعبير عنه بشحنة عاطفية قوية، إضافة إلى أن اللحن اتسم بحدة وبإيقاع احتجاجي، وفي أحايين أخرى كان ترجمة لإحساس باليأس، سيما في المواقف العصية على الحل.

> بقلم: عبد العالي بركات

Related posts

Top