تيمة الهجرة في رواية “ليال بلا جدران”

حسن المَددي، شاعر، كاتب، خطّاط، و رسّام مغربي. كان أيضاً مُخرجاً لبرامج إذاعية بإذاعة اكادير من سنة 1989 إلى سنة 2002.
مساره حافل بالمشاركة في مهرجاناتٍ شعريّةٍ و ندواتٍ ثقافيّةٍ داخل المغرب و خارجه، و هو مسار لا يخلو أيضا من البحث بنشره العديد من المقالات بالصّحف المغربيّة، البحث الذي توّجه بإصداره هذا العمل الروائي الأول له “ليال بلا جدران”.

هي رواية عن دار نشر مغربيّة، زين غلافها الأمامي بصورة لفنّان غربي، تقـع في 285 صفحة من الحجم المتوسـّط.. تبكـي و تتحسّـر – رغم كلِّ شيء – على مغرب بُعْيَد الاستقلال، مغرباً و مغاربةً استفاقوا ذات بزوغ لا يدرون ما يصنعون.
رواية اختار لها الكاتب تيمة الهجرة، تيمة لا أوْضَح منها لتصوير (صورلوجيا) أدقَّ ملامح المرحلة، و لا أغْزَر منها لانسياب روافد للمحكي و توليد مكوِّناتٍ و معطياتٍ خطابيَّةٍ متعدّدة الأبعاد و المنطلَقات (عتبات، ألسُن، إيرُوس، شعرنة، غرائبيّ، جغرافيّ، عقائديّ، سياسيّ،…).
فمن يقرأ هذه الرواية؟
أمُهاجر الستّينات و بداية السّبعينات؟ عجوز اليوم، الأميُّ – في الغالب- الذي يَحمد “الفْرَنْسِيس” أن منَحوه تقاعداً يَعفيه من الشَّحاتة في آخر أيّامه. و الذي يراهن على أنَّ قصّتك حاقدة و تافهة بالمقارنة مع قصّته التي خرج منها بطلاً: ” هؤلاء النّصارى لن يَضرُّوك بشيءٍ أبداً، خَفْ فقطّ من بني جِلدتك أصحاب السّحنات السّمراء و الشّعور السّوداء.” ص 63.
أم شباب اليوم؟ ههه، و أنت تقول له أنّ “المسافة بين المدينة الحمراء و أكادير تستغرق أكثر من خمس ساعات”. ص 275.
أو تقول “روحي هي روحك و روحك هي روحي” ص114.
و “مدّت خدّوج يدها اليُمنى و شبكت أصابعها مع أصابع أحمد”. ص 118
من ذا الذي يجرؤُ الآن و هنا على قوْل و فِعل هذا؟
ما كان حقيقةً أضحى “حلُما في الكرى أو خلسة المختلس”. ص 119
لقد تناول الكاتب موضوعة الهجرة مخترقاً بها حدودها الإقتصاديّة كما حدَّدها المهاجر أو أرادها كذلك، إلى تخوم إنسانيّة، اجتماعيّة، حقوقيّة وجدانيّة و وجوديّة، من خلال قرية جنوب المغرب، كانت نَسياً مَنسيّاً، هادئةً على بُركان، إلى أن حلَّ بها ذاتَ زمنٍ حرجٍ المَلاَك الشيطان فيليكس مورا على غرار مئات القرى المغربيّة.
إنّها قرية أيت همّان، تلك التي دُوِّنت في السّجلاّت الفرنسيّة و أبى الكاتب – و قد عاودها النسيان- إلاّ أن يَصدَح بها في النصّ 23 مرّة. استهل باسمها أكثر من مقطع (3-6-10).
خلال هذه المرحلة بدأت تبرُز في القرى المغربيّة طبقة جديدة أخذت تعتلي شيئاً فشيئاً و أساساً مكانة اقتصاديّة تُحسَد عليها، و إنْ بالسّواعد القويّة و الصّمود أمام كثير من العنصريّة : “و قد كتبت إحدى صحف اليمين المتطرّف: “إنّ هؤلاء المهاجرين الأفارقة و العرب القادمين من بلدان أكلة لحوم البشر، لا يستحقون الحياة، يجب جمعهم و إلقاءهم في البحر، أو إرسالهم إلى ما وراء الشمس…” “.ص 248
و لمواجهة هذه الطبقة الجديدة و للانسجام مع ما بدأت تُحدِثه من تغيير، استنفر رموز القرية التقليديّة، كلّ من موقعه، حفاظاً على مصالحه، مكانه و مكانته، إمّا بإشغال الفكر (المُعلِّم) أو استثمار الورع و التقوى (الفقيه) أو إذكاء السلطة (المقدم) أو التملّق و التزلّف و الولغ و مسح الجوخ لمن لا حيلة له (حلاّق القرية،…).
فكان أن انفرطت سَبحة الفقيه ذات ليلةٍ عاريّة بهروبه من سرير الخيّانة: “و أخذ يعدو عاريّاً خارج البيت، محاولاً إرتداء ملابسه قطعة قطعة”. ص 234
و ارتقى معلّم القرية إلى أعلى المناصب أستاذاً في القانون العامّ بكليّة الحقوق، و خلَّف الإبن أباه في مشيَخة القرية و ردّ كيد الظالمين في نحورهم. و كانت كُبرى ضحيّة هذا التحوّل.. المرأة.
“… كلّما أويت إلى فراشك، تستحضرين حياتك التي تضيع سدى بين جدران هذا البيت في وحدة قاتلة؟ لقد تزوجت منذ مدة دون أن تنجبي طفلا من زوجك الذي لا يعود من فرنسا إلا في شهر غشت…كان وضعك خانقا رغم أنك تعيشين في رخاء…إلاّ أنّ الوحدة و الحرمان العاطفي جعلاك ساخطة على اليوم الذي فكرت فيه أن تقترني بمهاجر إلى فرنسا… لقد غدوت حائرة تسائلين نفسك : هل أنا متزوجة أم مطلقة أم أرملة؟” ص 206.
كانت قرية أيت همّان هي المبتدأ والمنتهى، منها بدأت الإنطلاقة عبر محطّات ذات يوم : تالبورجت أكادير، باب دكّالة مراكش، بن جديّة البيضاء، وصولا إلى مناجم “السيليكوز”، ثمّ أيضاً سوربون باريس كما في أيّام طه حسين و حيّ يوسف إدريس…
ففي لحظات استرسال، وصل السارد إلى تحديد حيِّ السوربون كما لو كان يعتزم تحفيظه: “هذا الحي العريق الذي يحدّه نهر السين من الشمال، و شارع سان ميشيل من الغرب، و من الجنوب شارع سوفلوت و شارع دي فوسي سان جاك و شارع ليستراباد، و يحيط به سان فيكتور و حيّ جاردان دي بلانت و حيّ دو فال دوفرانس.” ص 241
و خلال تنقّله بنا عبر هذه المحطّات، ذكَّرنا السارد بسجائر المرحلة (فافوريت، جيتان…)، و بسيّاراتها (بوجو 403)، و أطايب المأكولات، و أيضاً الطرائف و الأمثال و التشبيهات المنقرضة: “دخل مبارك تتبعه أمّه وهي تعرج و ترسم شكل فاصلة كبيرة وهمية في الهواء برجلها اليسرى قبل أن تضعها على الأرض.” ص 134
كلُّ ذلك بعربيّةٍ فصيحةٍ كان يَشُدُّ عليها بالنواجذ وطنيُّوا بُعَيْد الإستقلال. و هي لغة و إن كانت بعيدةً عن ابن أيت همّان الأمازيغيّ، فإنّ الكاتب عرَف كيف يسترفد منها ما يناسب بيئته..
فإذا كان ابنُ القرية ساهماً فهو “يرعى قطعان أغنامه” ص 171.
وإذا كان مرتبكاً فإنّ “مشاعره تنق و تتنافر كالضفاضع المتناسلة في بِرك و مستنقعات ايت همان.” ص 173
و هو إلى ذلك متفرِّد في عاداته و تقاليده، و متمسِّك بدِينه، و منخرط أيضاً في قضايا أمَّته العادلة: “بكى الرجال والنساء [هزيمة 67] في ربوع هذه القرى المعزولة دوما عن الفرح…عزَّ على النفوس أن يَحتلَّ الصّهاينة الأراضي العربيّة و تنتهك حرمة الاماكن المقدّسة من طرف الصّهاينة ..” ص 191
و سوف ينتقل السّارد ببراعةٍ و سلاسةٍ إلى معجم المدينة المغربيّة و كذا الفرنسيّة حين يَحطُّ بها الرِّحال – دون أن يتخلّص كليّةً من معجم نقطة الإنطلاق- و قد إلتقى الشرق بالغرب في قصَّةِ حُبٍّ مجنونةٍ بين إبراهيم و جاكلين، قضى إبراهيم بسببها عشرُون سنةً سجناً.
و لقد وظّف السّارد هذه المدّة التي قضاها المهاجر إبراهيم في سجن فرنسيّ ليَفضح الدونيّة التي يُتعامَل بها مع المهاجرِ الأمازيغيِّ و العربيِّ و إنْ داخل السّجن، مقارنةً مع السّجينِ الفرنسيِّ و السّجينِ المُجنَّس، و سُجناء أمريكا اللاّثينيّة!
و وظّف السّارد أيضاً، تاريخيّاً، هذه المدّة الطويلة لينتقل بنا بَعدها إلى وضعٍ آخر مغايرٍ سيَؤول إليه المهاجرُِ المغربيُّ بفرنسا و أوروبا الغربيّة: “عشرون عاماً غيّرت وجه فرنسا جذريا يا إبراهيم !” ص 250.
فأكثر المناجم قد اغلقت و شركة رونو سرّحت العمّال في إطار المغادرة الطوعية و وظّفت الروبوتات و بذلك” فرنسا لم تعد محتاجة إلى العضلات، إنّها بحاجة إلى الأدمغة.” ص 242
و على مضض، حلََّ بها وافدون جدد، دون عقود عمل، يقضون لياليهم بلا جدران، يطلق عليهم تنكيلاً بهم SDF (بدون سكن قارّ).. “عجباً…كانت فرنسا و بلجيكا و هولندا تستجدي اليد العاملة من المغرب و الجزائر و باقي الدول الإفريقيّة، و اليوم انقلبت المعادلة… صار المهاجرون يبذلون كلّ جهد من أجل الوصول إلى الأراضي الأوروبيّة و بكلّ الطّرُق”. ص 263
وكان السّارد، قبل ذلك، وبين هذا وذاك، قد وظف توظيفا بارعا عملية الحصاد في القرية ليتسلّل من خلالها إلى مكنونات أهْلِها و شِغاف القلوب: “في مثل هذه اللقاءات الجماعية يتم التعارف بين الفتيات والفتيان، وخلف أكوام الحصيد تنطلق شرارات قصص الحب الجميلة.. ” ص 67.

Related posts

Top