شهدت البلاد استحقاقات ثامن شتنبر، وعرفت نتائجها، واستخرجت كل الأطراف الخلاصات التي تلزمها، وربما سيستمر الحديث حولها خلال الشهور، وحتى السنوات المقبلة، وذلك لمعرفة ما إذا كانت موازين القوى الحزبية والانتخابية التي أفرزتها ستكرس موازين قوى مماثلة وحقيقية داخل المجتمع أم لا.
وفي كل الأحوال، لقد طويت الآن صفحة اقتراع ثامن شتنبر، وأعلن عن النتائج، وتم تعيين رئيس الحكومة بموجب ذلك، ووفق ما يقتضيه الدستور.
الموعد الانتخابي لثامن شتنبر تميز بإقامة انتخابات جماعية وجهوية وتشريعية مرة واحدة وفي اليوم نفسه، وهذا مستجد بارز في ممارستنا الانتخابية الوطنية، كما أن الاقتراع جرى ضمن سياق ظرفية وبائية وصحية ليست سهلة إطلاقا، وهو ما فرض عديد تقييدات، منها شكل الدعاية والحملات الانتخابية، وكل هذا يمثل انتصارا لبلادنا، حيث نجح المغرب في إنجاز التزامه الديمقراطي وكسب هذا التحدي في احترام للمواعيد الدستورية، ولم يرجئ الاستحقاق أو يكيف القوانين بسبب الجائحة أو غير ذلك.
هذه الاستحقاقات الاستثنائية تميزت كذلك بنسب مشاركة لا بأس بها من طرف الناخبات والناخبين، كما نجم عن نتائجها المعلنة تنامي تمثيلية النساء، وبروز أساليب جديدة في الحملات الانتخابية والتواصل الحزبي مع الشعب، وهي كلها تعتبر اليوم مقدمات إيجابية بالإمكان البناء عليها لتطوير ممارستنا السياسية والانتخابية والحزبية مستقبلا.
في مقابل ما سبق، لا يجب أن نغفل أيضا لجوء أطراف حزبية إلى استعمال مفرط وفاضح للمال، وذلك بغاية شراء الأصوات، وأيضا الضغط على المرشحين، وبسبب ذلك، برز سوق حقيقي حوالي العملية الانتخابية برمتها، وتعددت الحكايات التي انتشرت بخصوص ذلك.
وبرغم كل ما قيل ونشر وعرف حول رشاوى الانتخابات ومختلف الضغوط على المرشحين والناخبين، فقد لوحظ نوع من «الحياد السلبي» للسلطات في المناطق، وحتى الخروقات التي سجلت يوم الاقتراع نفسه في محيط مكاتب التصويت لم تتم مواجهتها بالحزم الضروري من طرف السلطات، كما نقل أن عددا من ممثلي المرشحين داخل مكاتب التصويت ولجان الفرز، إما لم تعط الأهمية الكافية لأدوارهم أو أنهم لم يتوصلوا بكل المحاضر اللازمة، علاوة على تعقد تقنيات احتساب الأصوات، والتأخر المسجل في إعلان عدد من النتائج أو تدقيق بعضها.
وكل هذا قد يعتبره البعض نقائص أو أخطاء في الشكل أو من حتميات إعمال مقتضيات قانونية وتنظيمية جديدة، ولكن حجم الخروقات التي اقترفت ضمنه يجعله باعثا على الارتياب والخيبة لدى الكثيرين.
وبقدر ما اعتبر العديدون بأن النسبة العامة للمشاركة الشعبية في اقتراع ثامن شتنبر كانت لا بأس بها، واعتبرت إيجابية ضمن السياقات الوطنية والعالمية الراهنة، وبقدر ما سجل المراقبون أيضا كثافة مشاركة الناخبين بأقاليمنا الجنوبية، ووصفوا ذلك بكونه استفتاء حقيقيا من لدن المواطنات والمواطنين هناك انتصارا للوطن والوحدة والسلم والاستقرار، فإنه كان واضحا كذلك استمرار لامبالاة وعزوف فئات مهمة من الطبقات الوسطى والشباب والنخب المتنورة عن المشاركة في الانتخابات، والإقبال على التصويت، وهو ما يطرح ضرورة تقوية التوعية والتأطير من أجل الوصول إلى جعل انتخاباتنا تمتلك معنى سياسيا واضحا.
لا شك أن عددا من المحللين في الداخل والخارج، توقفوا أساسا عند عنوان إعلامي وسياسي واحد لاقتراع ثامن شتنبر، ويتصل بتبدل صدارة ترتيب النتائج، وهزيمة الحزب الذي ترأس الأغلبية خلال العقد المنصرم، ومن ثم ربط ذلك بتحول سياسي أو ظرفية إقليمية أو دولية.
ولئن كان الأمر يتطلب بعض الوقت لتبين حقيقة ذلك وأثره الواقعي، ويقتضي أيضا استحضار الطبيعة الفعلية لموازين القوى، المومأ إليها أعلاه، فمع ذلك، تكاد النتائج تعيدنا إلى واقع ما قبل تشريعيات 2011، مع استثناء واحد يهم ما حققته قوى يسارية وديمقراطية من تقدم عددي في النتائج وعدد المقاعد بمجلس النواب الجديد.
وعندما نتأمل خريطة وطبيعة الفائزين والناجحين لعضوية البرلمان، فلا شك سنسجل أن الأمر ساهم فيه أيضا اختيار نوعيات المرشحين وامتلاكهم قدرة نيل المقعد في مناطقهم وتحقيق الفوز، ثم توفير ميزانيات هامة لتمويل الإعداد للاستحقاق وتنظيم الحملات وأشياء أخرى ذات صلة، إضافة إلى الاستثمار في الدعاية الرقمية، وإن كان تأثير ذلك ليس جوهريا، ثم هناك مستوى التغطية الوطنية في الترشيحات، حيث أن الأمر لم يكن متيسرا لتوفير مرشحات ومرشحين لمختلف الاقتراعات دفعة واحدة وبكل أقاليم وجهات المملكة…
في الخلاصة، لا شك أن كل حزب سيستخرج المواقف التي تلزمه من مجريات استحقاق ثامن شتنبر ونتائجه، وسيحدد موقفه على ضوء ذلك، واعتبارا لتصوراته السياسية، كما أن مؤرخي الحياة السياسية سيقدمون القراءات المتعلقة بالخلفيات والنتائج والوقائع والامتدادات، وسيبقى في الأجندات النضالية والترافعية مطروحا على بلادنا وشعبنا، العمل لتقوية شروط تحقيق نزاهة الانتخابات ومصداقيتها، ومحاربة استعمال المال لشراء الأصوات والضغط على المرشحين وابتزازهم، وانخراط بعض أعوان السلطة في المناطق في عمليات تسهيل الفساد الانتخابي، كما يجب أن يستمر النضال الديمقراطي من أجل توعية شعبنا وتأطيره وتعبئته للمشاركة المكثفة في الانتخابات، وأساسا في العمل السياسي المنظم، وتوسيع القاعدة الشعبية، وإعادة العازفين للاهتمام بالشأن الانتخابي والعام، والتقليص من اليأس والخيبة والإحباط وسط شعبنا وشبابنا.
تحقيق النزاهة والديمقراطية لا يتم منحه على طبق الفضة ولكنه ينتزع بالنضال المستمر طيلة العام، وخلال مواعيد الانتخابات وخارجها، وبالعمل الحزبي والسياسي والترافعي والتأطيري اليومي والمستمر.
لقد نجحت بلادنا فعلا في تنظيم انتخابات ثامن شتنبر في موعدها، وانتصرت على اشتراطات الظرفية الوبائية الصعبة، ولعبت السلطات الإدارية دورا هاما في إنجاح الجوانب التدبيرية والعملية والإعدادية والتنفيذية لإنجاز هذا التحدي الديمقراطي الكبير، ولا بد أن نسجل هذه المنجزات الإيجابية، مع استحضار ما أشير إليه من سلبيات وتجاوزات حدثت في عدد من المناطق.
والآن، انتهى يوم ثامن شتنبر، وتتوجه أنظار شعبنا إلى الحكومة الجديدة، وإلى تركيبة مختلف المؤسسات الأخرى التي أفرزتها نتائج الانتخابات، وبالتالي إلى المرحلة القادمة، حيث تطرح على بلادنا اليوم كل الأوراش التنموية والديمقراطية والوطنية والإستراتيجية المعروفة، ومن أهم هذه الرهانات أن فضاءنا المؤسساتي يجب أن يمتلك معناه السياسي الواضح، وأن يخوض المغرب تحديات المستقبل، وهي ليست سهلة إطلاقا، اعتمادا على قواه الوطنية، وعلى الديمقراطية والانفتاح والتعددية…
<محتات الرقاص