قالت مجلة “لوبوان” (Le Point) الفرنسية في تقرير لها إن الحمض النووي بدأ يفقد عرشه في تاريخ التطور البشري وفي تاريخ العائلات، معتبرة أن هذا التحول “ثورة حقيقية” تؤذن بنهاية استبداد الجينات الوراثية.
وذكرت المجلة -في تقرير لها- أن حججا عديدة باتت اليوم تؤكد أن التشابه بين الآباء وأبنائهم لا يعتمد فقط على نقل المعلومات الجينية، بل يشمل أيضا سلسلة كاملة من العمليات المتنوعة والمعقدة والمثيرة للدهشة.
الطفرات فوق الجينية
ويؤكد هذه “الرؤية المدمجة” للوراثة إتيان دانشان (Étienne Danchin)، مدير أبحاث في مختبر التطور والتنوع البيولوجي بمدينة تولوز الفرنسية، والذي يستشهد بعشرات الأمثلة التي يستحيل تبريرها بالاعتماد فقط على نقل الجينات ومبادئ “علم الوراثة التقليدي” من أجل إثبات صحة نظريته.
فمثلا النساء اللائي يعانين من سوء التغذية أثناء الحمل، لماذا هن أكثر عرضة من غيرهن لإنجاب أطفال يصابون لاحقا بالسمنة حتى ولو راقبن عن كثب نظامهن الغذائي؟
ولماذا يساهم تعرض الحامل للمواد الكيميائية ومضادات الغدد الصماء والإجهاد لاحتمال معاناة طفلها من مرض السكري أو انخفاض الخصوبة؟ ولماذا -وهو لغز محير- يصاب التوأمان رغم اشتراكهما بالضبط في الجينوم (المحتوى الوراثي) نفسه بأمراض مختلفة؟
بالنسبة إلى دانشان، كما هي الحال بالنسبة لعدد متزايد من الباحثين وخبراء علم الجينات، يتعلق الأمر بـ”ثورة في المجتمع العلمي” حيث لم يعد من الممكن دراسة علم الوراثة اعتمادا على البعد الجيني وحده.
ورغم أن سمات عدة مثل العيون الزرقاء أو الشعر الأشقر تنتقل وفقًا لقوانين الوراثة، فإن هناك العديد من الاستثناءات التي توضح وجود آليات وراثية أخرى، حيث قد تتوفر الجينات على مفاتيح كيميائية “لتشغيلها” أو “إيقاف تشغيلها” وفق نمط محدد مسبقا، ولكن أيضا -في بعض الأحيان- تحت تأثير الضغوط الخارجية مثل الخوف والتلوث وتغيير النظام الغذائي وغيرها، وهو ما يعرف بالتغييرات أو الطفرات “فوق الجينية” (Epigenetics).
الوراثة كما لم ترو لكم قط
المثير للدهشة خلافا للاعتقاد السائد -تضيف المجلة- هو أن هذه التغييرات يمكن أن تنتقل إلى الأطفال بوصفها طفرة جينية، يضاف إلى ذلك عامل “الوراثة الثقافية” الذي يؤكد علماء وراثة بارزون أن له تأثيرا أكبر من تأثير الجينات البشرية.
وعلى الرغم من هذه المعطيات، فإن العديد من علماء الأحياء لا يزالون يترددون في الجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة للوراثة (الجينات وعلم ما فوق الجينات أو علم التخلق والثقافة) تحت مظلة واحدة هي “الوراثة المدمجة”.
وقد طرح إتيان دانشان، أو “كاسر الشفرة الوراثية”، هذا الموضوع عام 2014 خلال مؤتمر علمي كبير حول علم الوراثة البشرية في مدينة “إسين” (Essen) الألمانية، لكن بعض المشاركين صدموا من طرحه ولم يكن زملاء له آخرون مستعدين لسماع تفاصيل نظريته.
لكن على الرغم من الشكوك السائدة، فإن دانشان أصدر كتابا مثيرا للجدل هذا العام تحت عنوان “الوراثة كما لم تُرو لكم قط”.
وقد تلقى دعم علماء بارزين منهم لويس كانتنا مورسي أستاذ علم الوراثة في معهدي فرنسا وباستور والذي يرى أن “نظرية التطور المدمجة أو الشاملة التي يدافع عنها إتيان دانشان وآخرون ليست فقط صائبة بل هي بديهية أيضا، فليست الجينات وحدها هي التي تحكم وتملي علينا هويتنا أو علاقتنا بالأمراض”.
بدوره يرى يورغ توست مدير “مختبر علم التخلق والبيئة” في فرنسا أن المجتمع العلمي “حاول إظهار أن معظم الأمراض كانت تستند إلى الاختلافات الجينية لكن تبيّن أن هذا الافتراض كان خاطئا.. 20 عاما من الأبحاث الجينية كشفت عن توارث مفقود بنسبة 20% إلى 30% تماما مثل الكتلة المفقودة في الكون”.