جدلية التخلف والقهر

بادئ ذي بدء
الإنسانُ المتخلف، إنسانٌ مقهور

يقول الدكتور مصطفى حجازي: “الإنسان المتخلف، هو في النهاية الإنسان المقهور أمام القوة التي يفرضها السيد عليه، أو المتسلط، أو الحاكم المستبد، أو رجل البوليس، أو المالك الذي يتحكم بقوته، أو الموظف الذي يبدو وكأنه يملك العطاء والمنع، أو المستعمر الذي يفرض احتلاله”.
تعاني العديد من مجتمعات العالم الثالث، والعديد من الفئات الاجتماعية والطبقية والمهنية لهذا العالم، قهرا على عدة مستويات بحيث إنها محرومة من أبسط حاجياتها الأساسية: طعام جيد، أمن جسدي ووظيفي وصحي، حرية التعبير، الخ. ونحن، في هذه المحاولة للفهم، نفترض أن السبب في هذا القهر هو التخلف الذي نقصد به عدم تَحَوُّز الشخص لمستوى تعليمي جيد، يُمَكنه من امتلاك قدرات على الفهم والتحليل والتفسير، ويؤهله لاتخاذ موقف أو رأي أو رؤية حول ما يقع حوله، بدل أن يفعل ذلك شخص آخر في مكانه. الإنسان المتخلف، مَن لا يعي ولا يتفاعل مع الوضع الذي يحيا فيه، سواء مجتمعه الصغير، أو العالم بصفة عامة. ومَن لا يقدر على مجابهة ذلك الوضع كما سنرى لاحقا. يحيا مفعولا به لا فاعلا.
إن الإنسان المتخلف، إنسان مقهور لأنه لا يعي وضعه، أي قهره الذي يعتبره أمرا عاديا، بل مقدرا له! ولأنه لا يقدر على الخروج من وضعه ذاك حتى إن وعى وأراد. فهو لا يملك الآليات الكافية لمجابهة قهره، الأمر الذي يجعله دائم الشعور بالعجز على التغيير والتطور، ودائم الخوف إزاء وضعه الوظيفي أو الاجتماعي أو الروحي.
لا شك أن المتتبع للشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلد كالمغرب مثلا، يلاحِظ أن أغلب الفئات المقهورة هي فئات لم تتلقَ تعليما جيدا يجعلها تمتلك وعيا تاريخيا أو سياسيا أو فكريا أو دينيا… فاعتقدت – خطأً – أن القهر مصير أو قدر لا قدرة لها على تغييره. ويلاحِظ، كذلك، وجود فئة يُفترض فيها الوعي، لكنها تقبل القهر وتعيشه! والسبب في نظرنا أنها حاملة لشهادات عليا، لكنها غير حاملة لوعي يجعلها تدرك أن كرامة الإنسان أسمى وأنبل من أي شيء آخر. لذلك فهي تقبل القهر والذل والمهانة لشعورها الداخلي بعقدة النقص، وبدل أن تنتفض، تلجأ إلى بعض السلوكيات من قبيل التزلف، التملق، النفاق، تعظيم السيد، الغش، الاتكالية، الخ. هذه السلوكيات، نلاحظها عند الموظف ضعيف الشخصية والمعارف والقدرات في علاقته برئيسه أو بالمؤسسة التي توظفه، وعند الطالب “الكسول” في علاقته بأستاذه، وعند المواطن الضعيف، ماديا ومعنويا، في علاقته بالأجهزة الأمنية والإدارية على اختلاف مشاربها.
لا يقبل الإنسان المتخلف القهر ويتعايش معه فحسب، بل يعمل على تبريره كذلك!

حلولٌ تُبرر القهر وتَخدمه

والحال هاته، حيث تعيش الذات قهرا لابد أن يكون له أثر نفسي عليها مهما أظهرت العكس، لابد لهذه الذات أن تلجأ لبعض الحلول التي من شأنها أن تُبرر وضعها ذاك، وتعيد بعض الاعتبار لنفسها، وتُريح ضميرها وتَشعر بشيء من الاطمئنان والتوازن النفسيين.
من هذه الحلول، ما يسميه الدكتور حجازي بـ “القدرية”، أي استسلام الذات المقهورة للظروف التي تعيشها دون أن تحاول تغييرها. فالقدرية ملجأ الإنسان المقهور حين لا تسعفه إمكانياته في مجابهة التسلط، فيجد فيها حلا يريح ضميره ويجنبه الشعور بعقدة الذنب. يقول الدكتور حجازي: “عندما يستفحل القهر، ويستشري الحرمان والجهل، ويفلت المصير كلياً من السيطرة الذاتية، كي يرتهن بقوة خارجية، يستجيب الإنسان بالقدر”. بمعنى أنه حين يصل عجز الإنسان المقهور مداه، يرى ذلك قدرا مكتوبا عليه، بل حكمة ربانية لا قدرة للذات على فهمها أو تفسيرها!
إننا هنا أمام مُبرر غَيبي لمسألة القهر، وهو المبرر الذي تعمل القوى القمعية -العربية بالخصوص – على ترسيخه في عقول الناس منذ ظهور فِرقة الجبرية مع الدولة الأموية. وما أكثر الأقوال والحكم والأمثال الشعبية الذائعة في مجتمعاتنا العربية بهذا الخصوص، والتي ترى في القهر أمرا مقدرا ومكتوبا: “زينةُ الفقير القناعة”، “الحرُ عبدٌ إذا طمع، والعبدُ حرٌ قنع”، “الإنسان الراضي بقدره لا يعرف الخراب”، الخ…
غير أن عقدة النقص التي يعيشها الإنسان المقهور، وإن كانت تريح ضميره، فهي لا تُبعد عنه شر سيده المتسلط، لهذا يلجأ إلى حل آخر يجعله يتعايش مع واقع القهر بشيء من السلم والاطمئنان النفسيين. يعمد إلى التماهي مع المتسلط بمحاكاته في سلطويته من جهة، ومحاكاته في نمط عيشه وأسلوب حياته من جهة أخرى. فالمقهور، جماعة أو فردا، يُقلد المتسلط حين يمارس سلطة – مادية أو معنوية – على من يقله قوة وقيمة: أبناء، زوج، تلاميذ، حيوانات… فيتحول إلى متسلط صغير يدعي القوة والشجاعة اللتين يراهما عن سيده.
ولا يقف التماهي بالمتسلط عند تَبَني بطشه، بل يصل حدّ الإعجاب به وذلك بتقليد نمط عيشه وأسلوب حياته، محاولا أن يظهر بوجاهته وشياكته. لهذا، فليس غريبا –مثلا – أن يحاول الشخص في دول العالم المُسْتَعْمَر تقليد الشخص الغربي المُسْتَعْمِر حين يتحدث بلسانه (لغته)، معتبرا ذلك معيارا للوجاهة والأبهة والشموخ! والحال أنه يستبطن ضعفا يحاول تغطيته بمحاكاة الأقوى منه. يحاول أن يكون غَيره لا هو نفسه.
لا شك أن هذه الأشكال من المحاكاة للسيد المتسلط ظاهرة في المجتمعات المتخلفة. نلاحظ التقليد في التسلط عند رجل الأمن الذي يُصَرِّف تسلط رئيسه على مواطن أعزل، ونلاحظها عند الموظف الذي يقلد سلطوية سيده على خادمة أو مياوم، ونلاحظ التشبه بالمتسلط القوي في شكله ولباسه وطريقة أكله: جعلُ الشعر أشقرا، والعيون زرقاء أو خضراء، الخ.
أمام هذا الوضع، تُخلق ذات اتكالية لا ترى الخلاص أو التغيير بيدها، بل بيد قوى خارجة عنها: قوة غيبية أو زعيم مُخلص.
نظرا لشعوره الدائم بالنقص، ينطوي الإنسان المقهور على ذاته منتظرا الخلاص من وضعه من غيره. فيرى في الزعيم – مثلا – الملاذ أو الخلاص أو الأمل في التغيير، لذلك يعمد إلى تعظيم هذا الزعيم فيصنع منه طاغية. بالتالي، فبدل أن ينتفض الإنسان المقهور ويتمرد على وضعه، يغرق نفسه في قهر جديد. ولعل هذا ما حصل لبعض الشعوب العربية التي علقت آمال التغيير على زعماء فإذا بهم يتسلطون عليهم. صنعوا طواغيتهم بأنفسهم.
تتكل الذات المقهورة كذلك على قوى غيبية، كـ “الله” مثلا، جاعلة منه ملاذها الوحيد. ولعل خير مثال لهذا الأمر، ما نسمعه في أغاني أشهر فريقين مغربيين وأكثرهما شعبية. فجماهير فريق الرجاء البيضاوي تصدح حناجرها قائلة:
“فهاد البلاد عايشين في غمامة
طالبين السلامة
انصرنا يا مولانا
صرفوا علينا حشيش كتامة
خلاونا كيف اليتامى
نتحاسبوا في القيامة”
أما جماهير الوداد البيضاوي، فتقول:
“فبلادنا القانون راه حكار
وعلينا راك ما تقدار
يا ربي تغير المنكر”
تكمن خطورة الاتكالية في كونها بدل أن تخرج الإنسان من قهره، تزيد على قهرهِ قهرا.

عود على بدء

يتضح أن لجوء الذات إلى مثل هذه الحلول، ليس بغرض الخروج من حالة القهر، ولا حتى محاولة الخروج منه، فهي لا تقدر على ذلك لشعورها بعقدة النقص، بل الغرض منها هو “التأقلم والتلاؤم مع الوضعية الراهنة [أي القهر] بشكل يخفف من وطأتها، ويكفل شيئا من الانسجام الوجودي، كما يكفل نوعاً من تحقيق الذات الظاهري”. وعليه، فنحن أمام حلول استسلامية نكوصية تزيد الإنسان قهراً على قهرٍ. بل وتبرره كما هو حال القدرية مثلا.
في الأخير، نقول إن التخلف ليس سبباً للقهر وحده في مجتمعاتنا المتخلفة، بل سببٌ لعدد لا حصر له من الأعطاب التي نعيشها اليوم: سبب العنف ضد الغير المُخْتَلِف، وضد الطبيعة والجمال والفن، وسبب تلوث الفضاءات العمومية، وسبب انتشار التفاهة، وسبب الجرائم المرتكبة باسم الدين والعِرق والشرف، الخ.
وإذن، فأن يعيش الإنسان بِحق، لابد له من محاربة تخلفه، جهله.

 بقلم: محمد بدازي

 كاتب مغربي

Related posts

Top