بعد ديوانين شعريين : “ترانيم الرحيل” ، و”حصانان خاسران” ، ورواية: “شرك الهوى” يصدر محسن أخريف مجموعته القصصية الأولى : “حلم غفوة ” و لعلنا ألفنا كلما سمعنا إنتاجا أوليا نتخيّل أنّه يحتمل كلّ نقائص عمل البداية. إلا أنّ هذه المجموعة جاءت بخصائص مميزة، وكأنّها ليست أوّل مجموعة يكتبها القاص، وفضلا عن العنوان الرئيس قد جاءت تحت عنوانين: “نافذة مشرعة” و يضمّ عشرة نصوص. و”شيء من الحياة ” ويضمّ أربعة عشرة نصا. ولقد شاركت المجموعة في مسابقة عربية “جائزة الشّارقة للإبداع العربي” و احتلت الرتبة الثالثة. وهي من نشر دائرة الثقافة حكومة الشارقة دولة الإمارات العربية المتحدة ،الطبعة الأولى/2017
و حتّى نقف على ما لها وما عليها، لا بدّ أن نقف عند الخصائص والمميزات، والطرائق والسّياقات، التي شكلت بنية المجموعة في إطارها القصصي.
1 ــ خصائص السّرد في المجموعة :
1/1 السّارد العليم
اختار القاص في قصته الأولى: ” شاهد بعينين مغمضتين ” ساردا عليماً، وهذا النوع من السارد هيمن على القصة الكلاسيكية، و لكن مع ظهور مستجدات الدراسات النقدية الحديثة، وتطور النظريات السردية، أصبح الاهتمام بهذا النوع من السارد، يتقلص شيئا فشيئا، لأنه في الحقيقة يحيل بين المتلقي وعملية التخييل لما يأتي به من معلومات. ولكن القاص محسن أخريف ـ هل عن قصد أو عن غير قصد ـ احتال على قارئه المفترض، جاء بسارد عليم مشارك و لكن بصيغة “حكواتية ” خالصة. تجعل المتلقي يتابع النص بشوق، حتّى النهاية:
“ما حدث لا يمكن تصديقه. سأحكيه لكم كخرافة. صدقوها أو لا تصدقوها..”.
وتبدأ الغرابة السردية منذ البداية لتشد المتلقي:
“الحكاية لا تخصّني، لكنني كنت شاهدا عليها، على الرغم من أن عيني كانتا مغمضتين..”،
وتستمر غرابة السرد و سيل المعلومات و إن كانت عادية:
“لقد أتوا مع الفجر تماما كما هي عادتهم.. يأتون مع الفجر دائما والناس نيام يعتقلون من لهم به غرض “بعد ذلك يتبين أن الشرطة اعتقلت العم سليمان الطيب، الذي كان لا يمنع الصبية من لعب الكرة بجانب منزله، ولم يتسبب لهم بمشاكل مع آبائهم، ولمزيد من التشويق وحث على التأمل والتخييل تختتم القصة بجملة من الأسئلة حول اعتقال سليمان الطيب. ذلك الاعتقال الذي كان السارد شاهدا عليه بعينين مغمضتين: “لم أجرؤ أن أخبر الجميع أنني عرفت الخبر قبل ابن مقدم الحي، ولا أنني كنت شاهدا عليه بعينين مغمضتين”.
إذا وكما نلاحظ، القاص لم يقع في السرد المباشر الذي اعتيد في السارد العليم، وإنما وظفه واستطاع التّحكم فيه ، وأجرى على لسانه ما يثير الشوق وحب الاستطلاع، ومتعة القراءة. والنص من خلال قراءة عمودية نجد أنه لا يخلو من رمز وإشارة. ولقد تكرر السارد العليم ولكن غير مشارك في نص “ظهيرة قائظة ” وهو نص ممتع في طرح مسألة الفراغ والدردشة المستعادة، وفتح ملفات الآخرين، والكلام في كل شيء ( قتلا للوقت). كما أنه يتكرر في قصة “الشيخ المبارك” وبسارد مشارك: شيخ من الجنوب يحل بقرية في قمم الجبال الوعرة المسالك حيث لا زراعة إلا زراعة القنب الهندي، فبدل أن ينهيهم عن ذلك كما فعل من سبقوه في إمامة المسجد، فنفر منهم الأهالي فضل أن يغرس شتلات زيتون، وبعد خمس سنوات أعطت الغلة. فحين تجرؤوا وسألوه هل حراما ما يغرسون؟ تحدث لهم عن غراسة الزيتون، وكيف أن أرضهم صالحة لذلك، وقبل أن يغيروا رأيهم وينفضوا عنه رحل عنهم. ولكن القرية بعد عشرين سنة أصبحت قرية زيتون. وتكِنّ للشيخ السوسي بكل الفضل، وعظيم الامتنان بعد أن كانت قرية لزراعة نبتة تزرع فيهم الخوف البدي من الله ومن السلطة ..
1/2 السرد الذاتي
و نقصد به ما ينتجه ضمير المتكلم، ولعل نصوصا كثيرة جاءت نتيجة هذا السياق، بل لو جمعت، لاعتقد المتلقي أنها فصول من سيرة ذاتية، وضمير المتكلم يخلق هذه الألفة وهذا الشعور.. ويضفي ما يشبه المصداقية حول ما يقال سرداً .. وقد لمسنا هذا في تسعة نصوص : [ شاهد بعينين مغمضتين، الشيخ المبارك، مجيء متأخر، حميمية مفتقدة، نافذة مشرعة، يوم جنوبي طويل، حلم غفوة، أنفاس قطة بيضاء، سراح] ففي كل هذا بوح سردي، منه وبه تنسج القصة حبكتها، فتظهر أبعادها ودلالتها.. فهو ليس بالبوح التقريري المجرد، ولا بالاعتراف الصريح المحايد.. بل هو لبنة داعمة، في بناء صرح متماسك، يشدّ بعضه بعضا.
فتارة العودة إلى مدارج الطفولة واتخاذها أرضية خصبة لممارسة الحكي كما الأمر في النصوص التالية:
[ شاهد بعينين مغمضتين، الشيخ المبارك ، مجيء متأخر، حميمية مفتقدة] وتارة أخرى استعادة فترة الفتوة والشباب، والتطلعات المستقبلية، والأحلام الأثيرة، واستمراء طيبها والسخرية من إحباطاتها ، واستكبار معاناتها كما في النصوص: [نافذة مشرعة، يوم جنوبي طويل، حلم غفوة، أنفاس قطة بيضاء، سراح ]
1 /3 السّرد الموضوعي
وهو السرد بضمير الغائب. وهو الرائج في القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً بل و الرواية أيضا وبخاصّة الواقعية منها، يقول تودروف: (ضمير الغائب هو علامة على ميثاق واضح بين الكاتب والمجتمع، إلا أنّه أيضاً، بالنّسبة للكاتب الوسيلة الأولى للاستيلاء على القارئ بالطريقة التي يريدها): لذلك نجد اثني عشرة نصا ضمن السرد الموضوعي: [ظهيرة قائظة، نافذة مشرعة، عيون ماما دو، الوادي المالح، اضطرار، سانية الرمل سانية الحكايا، الشيخوخة، عارضة الأزياء، كامل الأوصاف، فاطمة و رولان بارت، حارس الجنرال فرانكو، خذلان].
1/4 ويخرج عن التصنيفين ثلاثة نصوص جاءت متشظية، فجمعت بين السردين الذاتي والموضوعي وهي: [حياة مشتركة، ثلاثية الوحدة، شيء من الحياة ].
1/5 شكل النصوص لم يأت موحدا، بل نلاحظ أن نصوصا جاءت عادية في شكلها مثلا نص “شاهد بعينين مغمضتين”.. وأخرى جاءت متشظية كما رأينا، أي في مقاطع مرقمة بالتّرتيب أو معنونة ومن ذلك: “حياة مشتركة، ثلاثية الوحدة، شيء من الحياة “.. ونصوص متضمنة لحوار مثلا: “ظهيرة قائظة ” و”بركة الشيخ ” و”عيون مامادو”.. وأخرى بون حوار كنص: “حميمية مفتقدة و”نافذة مشرعة” و”حلم غفوة ” ..
2 ــ اللّغة القصصية:
2/1 وظف القاص محسن أخريف لغة لا تميل إلى التكثيف بقدر ما تميل إلى الوضوح والبساطة في التركيب، والتعبير، كالذي نجده في النص الأول الذي حاول فيه القاص الاستفادة من نسقية “الحلقة” ومنطق الحكواتي: “ما حدث لا يمكن تصديقه. سأحكيه لكم كخرافة. صدقوها أو لا تصدقوها.. إن صدقتموها شعرتم بفضلها عليكم، وإن لم تفعلوا فلن تكون هذه الحكاية سوى حكاية مثل جميع الحكايات التي تمتلئ بها الكتب”.
2/2 يفضل القاص تطعيم السرد ببعض الجمل التفسيرية، أو بعض التعليقات، مثلا في نص “بركة الشيخ ” نجد هذا التوضيح: “.. فمن يصف القرية بهذا الوصف فهو لا بد يريد من خلال زيارته الخير والنفع لها. وفي هذا الكلام أيضا تلميح إلى أنه يلجأ إليهم من أجل إكرامه ومساعدته ..” ومثل هذا يتكرر في نصوص أخرى، وهو في الحقيقة ينبغي أن يكون من استنتاجات المتلقي لأنّ ما سبقه من سرد يلمّح إليه.
2/3 توظيف العامية الشمالية في الحوار بخاصة، وفي بعض النصوص دون غيرها، وقد ألحق بالعامية مدلولها بالفصحى بين قوسين. ربما لأن المجموعة كانت في مسابقة عربية وقد لا يفهم أعضاء اللجنة العامية الشمالية المغربية و من ذلك مثلا:
ــ أر المختار واحد جوج دالكسان دتاي وشحروم مزيان .
(هات كأسين من الشاي معدين جيداً)
ــ من يجرؤ؟ تعرف أن الأمين إنسان حْدودي .
(لا يحب الاختلاط كثيراً بالناس)
ــ سيروا بحالكم (اذهبوا إلى بيوتكم)
حقا ذلك لم يكن كثيرا، لأنّ أغلب النصوص لم تكن حوارية. ولكن الإشكال أن الشخصيات في النصوص أغلبها أمّي أو منحدر من البادية أو أطراف المدينة لا صلة له بالفصحى. ولكن أعتقد دائما أن المسابقة فرضت الأمرالواقع .
3 ــ الشّخصيات والوصف:
الشّخصيات في نصوص مجموعة “حلم غفوة ” شخصيات تكاد تكون مجردة لولا بعض الإشارات الوصفية التي لا تعنى بالشكل المظهري الفسيولوجي بقدر ما تعنى باللباس، أو الأخلاق بشكل مقتضب. وهي ظاهرة رائجة في القصة القصيرة جداً ، بينما القصة القصيرة كانت في الغالب تولي عناية للشخصيات من حيث الوصف الذي بطبيعة الحال يخدم الفكرة ولا يكون وصفا من أجل الوصف. في هذه المجموعة يتعامل المتلقي مع شخصيات، تعمّد القاص أن يأتي بها بملامح مجردة في الغالب لنتأمل ذلك في بعض النصوص:
ــ في “شاهد بعينين مغمضتين” الشخصية الرئيسية: العم سليمان، لا نعرف عنه كوصف إلا أنه طيب [لم يكن الطيب اسما له، وإنّما صفة التصقت به فأصبح جزءا من اسمه. فكان الجميع يناديه بسليمان الطيب] وحين يتحدث عن ابن مقدم الحي وهو شخصية ثانوية يقول:
[.. كان أحمد ابن مقدم الحي يسترسل في كلامه دون أن يقاطعه أحد، و من يجرؤ على ذلك؟ ] إذا نعته فقط بالثرثرة.
ــ في “ظهيرة قائظة” خمسة شخصيات، منهما اثنان رئيسان . لا وصف لهما. أما الزوجة وابنها فلم يكن لهما من الوصف إلا أن الزوجة تستقبل الضيفين بابتسامة بلهاء، وطفلها نصف عار: [ لالة اهنية لم تجد إلا ابتسامة بلهاء مصطنعة.. ] و[كان الصبي حافيا عاريا إلا من قميص يغطي صدره و بالكاد ثلثي بطنه ] أمّا الزوج فوصفه أحد الضيقين: بأنه قليل الكلام و التفاخر و”حدودي” وهكذا الأمر في جميع النصوص. الإكتفاء بذكر إشارات وصفية فيما يخص السلوك والمعاملات الأخلاقية.
ــ في ” بركة الشيخ ” قصة من ست صفحات لا نجد وصفا للشخصيات وبخاصة للشيخ الشخصية الرئيسة فكل ما وصف به: بشوش منشرح. و أن زوجته تلبس لباسا من ألبسة الجنوب/ سوس: [ حضر شيخ إلى قريتنا صحبة امرأة تلبس لباسا مختلفا عن لباس القرية قال عنه بعض العارفين إنه لباس أهل جنوب المغرب و سوس تحديدا ] أما زَوجها الشيخ، إمام المسجد فلا نعرف عنه كوصف إلا [ الفقيه البشوش على الدوام، الذي جبل وجهه على الانشراح.] و تستمر النصوص على هذا المنوال في وصف سلوك الشخصية بخاصة. دون التطرق للوصف الفسيولوجي ..الشيء الذي يثير بعض الأسئلة التقنية في كتابة القصة:
ــ هل الأفضل أن تكون الشخصية إلى حدّ ما واضحة الملامح يستطيع المتلقي تخيلها؟
ــ هل تبقى ملامح الشخصية، أو بعضها خفياً مخفيا وعلى المتلقي أن يتخيل ما يشاء؟
ــ هل ملامح الشخصة ــ ذٌكِرتْ أوأُغفلت ــ ليست أساسية في النص؟
أعتقد أن وصف ملامح الشخصية مفيد في تركيبة النص القصصي، وبخاصة إذا كانت هذه الملامح تخدم فكرة النص وتعمّق من دلالتها، وتمنحها بعدا في التخييل والتأمل وتعدد القراءات .. في مجموعة “حلم غفوة ” كان هناك اقتصاد واضح في الوصف، لدرجة أن بعض الشخصيات مجردة من كل وصف مثلا: “اضطرار” رغم أنها تتعلق بمهاجر سري وإجراء حوار معه، بعد أن التقطه زورق اسباني، وهو يعاني الغرق.. و كذلك “حياة مشتركة”، معاناة رجل فقد شريكة حياته فلا وصف له إلا وصف حزنه ودموعه باقتضاب. وكذلك نص “شيخوخة” أرملة تعيش على ذكرى رجل عقيم، كانت تتمنى منه أطفالا.. ولكن قد يكون هناك استثناء يشكل أقلية وندرة قياساً لنصوص المجموعة كالذي نجده مثلا في نص “سانية الرمل.. سانية الحكايا”، إذ يخص القاص “غيثة” بأطول وصف جمالي في المجموعة: [ “غيثة” كانت أجملهن على الإطلاق، كلّ النسوة يقلن عنها أنها مليحة الوجه. بعد زواجها وظهور علامات الهناء على جسدها ووجنتيها البضتين تخلى الأولاد عن تسلق شجرة الأجاص، ولم يعد الظفر بإجاصة شيئاً يذكر أمام كشف السر الكامن بين نهديها أمام البياض المشع من مفرقهما، أمام بياض ساقيها واكتنازهما الوارف. أمام كلامها الذي لا يخرج إلا همسا.. كلامها الذي لا تخلطه بكلامهن..رأفتها بيديها: شهران والحنّاء لا تريد أن تبرح كفيها و رجليها].
أخيرا، مجموعة “حلم غفوة ” و بغض النظر أنها شاركت في مسابقة عربية للقصة، فبوركت بالرتبة الثالثة مع الطبع . فإنها مجموعة مختلفة، بلغتها المشبعة بالحكي و البوح ، و برؤيتها السردية المختلفة، وارتباطها بالواقع المعيش،وإمعانها في التذويت ، دون السقوط في السّردالنّمطي. وهي بذلك تبشر بقاص موهوب و واعد، يكتب بحثا عن الجديد، و يسعى وراء التجريب. بغية تحقيق كتابة قصصية هادفة، و ممتعة، و رائقة، و حديثة..
> د مسلك ميمون