شكلت إقالة مسؤولين كبار في الحسيمة، بتعليمات من جلالة الملك، مؤشرا على صرامة واضحة تعلنها الدولة في محاربتها للفساد، وفي الإصرار على تكريس دولة القانون. بالنظر إلى طبيعة مناصب ومسؤوليات الأشخاص المقالين، وبالنظر أيضا إلى كون الإعفاءات شملتهم دفعة واحدة، فإن العملية تجسد، بحق، انتفاضة ضد لوبيات الفساد، ليس فقط في الحسيمة، إنما في كل مناطق المملكة، وإعلانا ملكيا قويا بأن التنمية والتقدم والديمقراطية لا يمكن أن تتحقق من دون القضاء على الريع والارتشاء واستغلال النفوذ.
إن ما جرى في الحسيمة، يؤكد بجلاء ما تتناقله باستمرار أحاديث المواطنين وشكاواهم، وما تورده الصحف يوميا، وهو أن العديد من المشاريع التنموية في جهات مختلفة من البلاد، بما فيها تلك التي يشرف عاهل البلاد على تدشينها، تتوقف وتتعثر جراء تكالب لوبيات الفساد، وبعض المسؤولين المحليين، كما أن مواطنين يعرضون مئات الحالات التي يقعون فيها ضحية استغلال نفوذ أو ابتزاز من طرف مسؤولين في الأمن أو الدرك أو القضاء أو الإدارة الترابية، ومن ثم تضيع مصالحهم، وينزل عليهم الظلم والإجحاف، وتتحول عدد من المناطق، جراء ذلك، إلى محميات لهؤلاء المسؤولين، وتستباح حقوق الناس، ويغيب القانون.
وهذا الواقع نبهت إليه قوى سياسية ومنظمات حقوقية، وكان بارزا في التقرير الأخير للهيئة المركزية للوقاية من الرشوة، وقبله في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، واليوم ليس من حق المغرب أن يجعل من القرارات الملكية المتعلقة بالحسيمة، خطوة موسمية أو إجراء روتينا من دون تبعات.
المتورطون في الفساد في الحسيمة يجب أن تتم إحالتهم على القضاء، وتؤمن لهم كل قواعد المحاكمة العادلة، ليكون القرار درسا دالا على قوة إرادة الدولة في محاربة الفساد، وترسيخ دولة القانون في مختلف المجالات.
قرار جلالة الملك جاء إثر تلقيه شكاوى وتظلمات عدد من المواطنين في الحسيمة ونواحيها، خلال زياراته إلى المنطقة، وهذا يضيف للزيارات الملكية قوة أخرى تتمثل في اقتراب جلالته من الناس وحرصه على الإنصات إليهم والتفاعل مع قضاياهم ومع نبض شعبه، وهذا بقدر ما يجعل سكان كافة المدن والقرى يتمنون أن يزور جلالة الملك مناطقهم ويرفع عنهم ظلم مسؤوليها، فإنه يحيل على واجب كافة المسؤولين المركزيين والولاة والعمال للاقتداء بنهج عاهل البلاد والخروج من المكاتب الوثيرة والاتصال المباشر بالناس والإنصات لهواجسهم ومشاكلهم والتدخل لحلها، والحرص على إعمال القانون ومحاربة الفساد والمفسدين.
من جهة أخرى، إن درس الحسيمة يجب أن يدفع في اتجاه تكريس المنظومة المؤسساتية والقانونية والعملية لمحاربة الفساد في البلاد، والتذكير هنا بتوصيات هيئة الرشوة وبخلاصات تقريري الخمسينية وهيئة الإنصاف والمصالحة يبقى واجبا، ولابد من تمكين شعبنا وشبابنا من الثقة في بلدهم وفي مستقبله الديمقراطي والتنموي، ومحاربة اليأس والإحباط.