درس من بريطانيا

غابت الصحيفة البريطانية «نيوز أوف ذا وورلد» على خلفية فضيحة القرصنة التي تعرضت لها هواتف حوالي أربعة آلاف شخص ضمنهم ضحايا جرائم وشخصيات شهيرة وسياسيين، وبصدور عددها الأخير، والذي تضمنت صفحته الأولى عبارة «شكرا ووداعا»، يكون هذا النوع من الصحافة قد تلقى ضربة قوية، وبات كثير من المعلقين اليوم يتحدثون عن قرب نهاية إمبراطورية مردوخ (مالك الصحيفة)، الذي بقدر ما توسعت أملاكه عبر العالم، صار له كذلك مريدون ومقلدون في الأوساط الصحفية بعدد من البلدان.
إن الصحيفة المذكورة يصل عمرها إلى 168 سنة، وهي تبيع أزيد من خمسة ملايين نسخة في اليوم، والعدد الأخير طبعت منه خمسة ملايين، وورد فيه على سبيل الاعتذار للقراء: «لقد انحرفنا عن الطريق، واخترقنا الهواتف، والصحيفة تعتذر عن هذا التصرف كله».
وبالرغم من اختلاف المقامات وتباين القامات والأحجام والسياقات، فإن  فضيحة «نيوز أوف ذا وورلد» لا تخلو من دروس لنا أيضا.
أولا، إن الصحف الجادة والرصينة هي التي كشفت الفضيحة، ما يعيدنا نحن إلى الوعي بأن الإعلام الجدي هو الأكثر تأثيرا واستمرارا.
ثانيا، بيع ملايين النسخ يوميا (وليس الآلاف)، وإرغام كل المعلنين على الاصطفاف أمام الصحيفة بشيكاتهم وبخوفهم، وجعل كبار السياسيين والوزراء يرتعشون من صحفيي الجريدة ومحققيها، كل هذا لم يمنع السقوط والتورط في الفضيحة.
ثالثا، تصريح رئيس الوزراء البريطاني الحالي بأن «قادة الأحزاب ببريطانيا تجاهلوا أخطار علاقة الإعلام بالسياسة، بسبب التنافس من أجل كسب تأييد الصحف»، هو بمثابة اعتراف بكونه نفسه خضع للتجاهل ذاته عندما استعان برئيس تحرير الصحيفة السابق كمستشار لديه، وهو اليوم قيد الاعتقال على خلفية الفضيحة.
في بلادنا، نعرف نحن أيضا أن عددا من السياسيين والمسؤولين وجهات لا ندري كيف نعرفها تخترق بعض عناويننا الصحفية، إن بالرساميل المباشرة والغامضة، أو بالتسريبات وأخبار السبق أو بالإعلانات وعقود الإشهار الحصرية وطويلة الأمد، ويكون المقابل هو تلميع الصورة بالحوارات والبورتريهات والأعمدة المخدومة والمملاة، أو بتصفية الحساب مع الخصوم والبحث في خصوصياتهم وحياتهم الشخصية وزلاتهم، ونعاين كذلك كيف يطأ بعضنا بالأقدام على أخلاقيات المهنة وعلى القانون، ويعرف كثير منا حجم الفوضى والعبث في سوق الإشهار وفي كواليسه التي صارت مفضوحة.
ثمة اليوم إذن ما يستدعي التأمل في الدرس البريطاني، خصوصا من لدن بعض مسؤولينا، وفي الأول جعل العلاقة مع الإعلام واضحة ووفق القانون، ثم الوعي بحاجة المغرب ومستقبله إلى صحفه الجادة والرصينة وذات الوضوح السياسي والفكري والقيمي، ولذلك فإن النفخ في عناوين الفضائح وإن أرضت بعض النزوات الشخصية وتمكنت من «قتل» بعض الخصوم، فهي قد تتحول إلى مسيطرة على الساسة وعلى الفضاء السياسي والثقافي، ما سيشجع على الفساد وعلى الضحالة وعلى الانحطاط، وهنا الخطر.
لنقرأ الرسالة البريطانية، ولو أن الوقائع جرت في دولة عظمى.
[email protected]

Top