إن دراسة المكان في الخطاب السردي بصفة عامة، تستدعي منا الغوص في إيحاءاته الرمزية واستكناه معانيه المضمرة التي تشكل تعالقات مع ذات الشخصية المتخيلة، بل تكشف للقارئ عن وعيها بالواقع الذي تعيشه فمن خلال تمظهرات المكان، تتجلى سمات الشخصيات وسيكولوجياتها داخل المنجز الأدبي، فالبحث في تمفصلات وتمظهرات المادة المكانية، لا يجب أن يقف عند حدود الوصف، بل يلزم تجاوزه إلى الكشف عن العلاقات الدامغة بين المكان والشخصية… «فالإنسان وهو ينظر إلى الأمكنة لا يمنع نفسه من إضفاء فكره ومزاجه وعواطفه عليها…».(1)
من هذه الزاوية، يمكننا تناول المكان في قصة “من نافذة القطار” المضمن في المجموعة القصصية “أتراك تشرقين غدا..؟”(2) للقاصة فاطمة الزهراء المرابط، وعلاقته بالذاكرة، التي اكتسبت أهمية بالغة في اللحظة الراهنة لارتباطها الوثيق بكل أشكال الفكر الإنساني وتجاربه «سواء على مستوى اشتغال الذاكرة الداخلي أو على مستوى صلتها بقضايا لا تقل عنها أهمية مثل.. انشطار الأمة ومهمة السرد وفكرة التاريخ… إلخ. إننا نعيش قضية الذاكرة وطغيان الذاكرة والكل ذاكرة… الشاعر ذاكرة والمكتبة ذاكرة والمدينة ذاكرة والحضارة ذاكرة والسجن ذاكرة…».(3)
1 – البناء الشكلي للقصة
قبل الشروع في تحليل قصة “من نافذة القطار” يمكننا أن نقدم ملاحظة أولية، ننطلق فيها من الشكل الخارجي للقصة، إذ نلاحظ أن الكاتبة قسمت منجزها الإبداعي إلى ستة أقسام، في كل قسم تعيد تكرار العنوان كلازمة موسيقية تفصل بين مقطع وآخر، أو بمعنى أدق يمكن القول إن هذه النافذة عبارة عن شاشة سينما تقدم مشاهد مختلفة، متقاربة في حين ومتباعدة في حين آخر، تقول الساردة: «تخلصت من شاشة الهاتف، لتتابع الشاشة التي تتحرك أمامها الآن داخل المقصورة الضيقة..».(ص.113) كما لو أن القاصة في هذا السياق تدعم هذا الطرح. وهنا نتوافق إلى حد بعيد مع ما قاله الناقد السينمائي عبد الكريم واكريم «بحكم اشتغالي في النقد السينمائي أسمع كثيرا من المخرجين المغاربة يشتكون من عدم وجود نصوص سردية مغربية صالحة لكي تحول لأفلام سينمائية، لكني وأنا أقرأ المجموعة القصصية الأولى لفاطمة الزهراء المرابط، لاحظت أنها تكتب بالصورة وأن أسلوبها في الحكي قريب من أسلوب الحكي السينمائي، ويمكن لأغلب قصصها أن تحول لأفلام بسهولة».(4) وهذا الأسلوب تصر الكاتبة فاطمة الزهراء المرابط على نهجه في معظم قصصها القصيرة.
2 – الفضاء وتداعيات الذاكرة
يشكل العنوان مدخلا مكانيا نعبر من خلاله إلى دهاليز الحكي، ونستشف أهمية المكان داخل هذه القصة، من خلال القطار الذي يعد إطارا مكانيا يعج بالأحداث التي تستمد فاعليتها تارة من الماضي المسترجع وتارة من الحاضر المعاش، أي أن القطار يشير إلى الحركية التي تعيشها الشخصية بين ماضيها وحاضرها، بين ذكريات الماضي الطفولي، التي تتجسد أمامها من خلال تطلعها للنافذة، وبين حاضرها الذي تسرج أبنيته من مشاهد أفرزت في داخل الشخصية حالة من النفور والاستفزاز، ولذلك نلاحظ نزوع الشخصية الساردة إلى احتواء ماضيها الجميل عبر فعل التذكر، «إن تشغيل الذاكرة الوجدانية في المجموعة القصصية تشغيل للمهيمن، وهو ما يجعل من الحكي إثارة للوجدان وتشغيل له على مستوى التلقي ينطلق من مرحلة الطفولة إلى الحاضر/ اللحظة. ليتداخل الزمن ويختزل للكشف عن مكونات القصة».(5)
إذ نجد أن اللحظات الماضية تنبعث من جديد لتزيح اللثام عن دواخل الشخصية وعن تداعياتها العالقة في مسارب الذاكرة، تقول الساردة: «كم كان يحلو لي وأنا طفلة، أن أرقص فوق أكوام التبن الصفراء، على إيقاع الموسيقى المنبعثة من مذياع الراعي الجالس تحت ظل شجرة كبيرة؟ كم كنت أعشق الحرية وأنا أعانق الطبيعة كل صباح؟ وها أنا أطرد شبح الذكرى الآن، وأتحسر على المساحات الخضراء، التي سيجها الإسمنت بجبروته».(ص.111) إذن هنا تبرز العلاقة القائمة بين النافذة والقطار باعتبارهما فضاء ماديا، والذاكرة باعتبارها منحى حسي، إذ تزاوج الساردة بين سرد الماضي وحمولاته الدفينة في أعماق الذاكرة، وبين الحاضر الذي يزج بها في حالات متفاوتة من التحسر، وها هي تراقب الواقع وهو يطمس معالم طفولتها كما عبرت عن ذلك في قولها: «وأتحسر على المساحات الخضراء، التي سيجها الإسمنت بجبروته»،(ص.111) بل يجاوز ذلك إلى محاولة تقييد حريتها، ونستشف ذلك عندما تقابل بين الحرية وفعل التسييج، ولكنها وفي ظل هذا التخبط بين نور الحرية ونار التقييد، تلوح لها فكرة التحرر من كل القيود والأغلال والهروب إلى رغد الحياة الممثلة في المساحات الخضراء التي تشكل مظهرا من مظاهر السلام لدى الشخصية الساردة، بل الملجأ الذي تود أن تهرب إليه من ضنك الواقع المر. تقول الساردة: «أحاول تجاوز فكرة مجنونة استقرت في خيالي الآن، وأنا أمسح العرق من جبيني، ماذا سيحدث لو فتحت باب العربة، وألقيت بنفسي هناك فوق أكوام التبن، قد أستعيد طفولتي المنسية، وأتخلص من الحر الخانق الذي يداعب أنفاسي المتلاشية، هل أملك الجرأة لذلك..؟ أبتسم لنفسي وأستدير إلى الجهة الأخرى».(ص.111)
هنا وإذا أردنا الغوص أكثر في معاني هذا النص، فإننا يمكننا طرح سؤال عن ماهية هذا القطار، ولم اختارت الكاتبة القطار بالذات من أجل سرد أحداث القصة؟ انطلاقا من فكرة «أن سيرة المكان لا تنفصل بشكل من الأشكال عن سيرة الكائن، بل لا نستطيع أن نفهم تلك السيرة إلا إذا أدركنا العمق الآتي لسيرة الكائن الذي يطلق روحه وذاته في المكان…».(6) نلاحظ أن صورة المكان بمثابة مرآة تعكس لنا ذات الشخصية الساردة، وهذا القطار يسري بسرعة ليقذف بها بعيدا عن براءة طفولتها، وعوالمها الساحرة، عن أحلامها البسيطة التي صارت في الوقت الراهن بعيدة المنال، أي أن الذات تعيش حالة من الانشطار والحيرة، وما يؤكد لنا ذلك هو سؤال الجرأة «هل أملك الجرأة لذلك…؟».(ص.113)
إن هذه النقط الثلاث تلي السؤال، تدفع القارئ إلى استنباط المسكوت عنه من قبل الكاتبة، والحالة السيكولوجية المتذمرة للشخصية، إذ رغم محاولاته في الهروب إلى زمن الماضي والاحتماء بدفء الذاكرة، إلا أنها فشلت في تحقيق مرادها، عندما استدارت وتركت المشاهد تتوالى من نافذة القطار.
وانطلاقا مما سبق نستنتج أن القاصة فاطمة الزهراء المرابط، جعلت من الذاكرة منفذا للإبحار في عوالم الذات وعلاقتها بالآخر من خلال التطرق إلى مجموعة من التساؤلات والقضايا المواراة في عمق المجتمع، بتناقضاته المتباينة التي تؤيد تبعية المرأة وهامشيتها في ظل تمثيلات جوهرانية تقصي صوت المرأة وكينونتها. إذ يستدغم فضاء القطار في طياته دلالات مكانية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالشخصية الساردة، التي تترنح بين سرد ماضيها الجميل عبر تقنية «فلاش باك»، وبين حاضرها المجسد من خلال مجموع من الصور الواقعية التي تتناغم وطبيعة المجتمع، إذ أضحت ذاكرة الطفولة في هذا السياق ملاذا تهرب إليه الشخصية متجاوزة بذلك ضنك الواقع ومرارته، فنلاحظ هنا معالجتها لسؤال الهوية الأنثوية وتعالقها بالقضايا المجتمعية والإنسانية الماثلة في واقعها الخارجي.
***
هوامش:
(1) حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي (الفضاء، الزمن، الشخصية)، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1990. ص. 53.
(2) فاطمة الزهراء المرابط، أتراك تشرقين غدا..؟، منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة، ط.1، 2019.
(3) يحيى بن الوليد، السرد.. الاعتراف والنسيان (أبحاث في ذاكرة الاعتقال السياسي)، دار الفاصلة، طنجة، ط.1، 2019، ص. 19.
(4) عبد الكريم واكريم، “الكتابة بالصورة في قصص “ماذا تحكي أيها البحر…؟” لفاطمة الزهراء المرابط”، ضمن كتاب “الحكي وكتابة الذات في قصص “ماذا تحكي أيها البحر…؟” للقاصة فاطمة الزهراء المرابط، منشورات جامعة المبدعين المغاربة، الدار البيضاء، 2020، ص. ص. 30-31.
(5) مجلة عيون السرد، العدد الأول، دجنبر2018، ص. 104-105.
(6) بهيجة مصري إدلبي وعامر الدبك، السيرة الذاتية في الخطاب الروائي، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، الأردن، ط1.، 2011، ص. 103.