“رمضان” في قصص مغربية وأجنبية الحلقة2/2

حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.

الصائمون

< بقلم: الكاتب الصيني جو يوان

كانت خطوات الأستاذ “يانج” سريعة وقصيرة، سريعة حقا وكأنها خفقان قلبه الذي أصبح على أشده. قبل شهر رمضان، عاد إلى بيته الواقع خلف الجبل، وتحدث معه والده الإمام “دادا” عن أخيه الأكبر الذي يعمل سائقا قائلا: “نريد أن نخطب له فتاة من قرية “سونايبا”، وبعدها بعدة أيام أوقفه أخوه الأكبر بجانب الطريق السريع للقرية المطلة على فناء بيت “ليان ليان” وهو يتطلع إليها من بعيد، ثم صحبه للمسجد وتحدث مع والده الإمام “دادا”، وسألاه: “هل يمكن أن تسأل لنا عن هذه الفتاة؟ وهل تقدم أحد لخطبتها؟”.
يذهب الأستاذ “يانج” في موعده لبيت “ليان ليان” لتلاوة القرآن، لكنه لم يحاول النظر مرة واحدة ليراها، فهو لا يجرؤ على التطلع في وجهها.
عند تلاوته، تتمنى “ليان ليان” أن تقدم له طبق فاكهة؛ فتضع بالفعل البلح الصيني الأحمر، وفاكهة عين التنين وسكر النبات، ثم تتذكر فجأة وهي تحملها إليه أنه شهر رمضان، ولا بد من الانتظار حتى موعد الإفطار. تسرح “ليان ليان” بخيالاتها وتحدث نفسها قائلة: “عندما يأتي للبيت لتلاوة القرآن، سأقوم..”، ثم يتورد وجهها خجلا.
في شهر رمضان هذا العام يمتلئ البيت بالفراغ، بعد أن يغادر الأستاذ “يانج”، يعود للبيت هدوؤه الشديد. في رمضان تشعر دائما أن قرية “سونايبا” قرية صامتة وكأنها خالية من سكانها.
فوق الجرف القابع خلف منازل القرية تأكل بعض الماعز السوداء في صمت أيضا، ثم تهب ريح من بين أشجار الصفصاف ذات البراعم الطرية، فتهتز معها رقاب الماعز، بينما تثبت ”ليان ليان” الناظرة من شرفتها عينيها الزائغة دائما في عيون الماعز الرقيقة المتلألئة بما يشبه الدمع، وتشعر أن هذا الدمع تذرفها روحها؛ فتتقهقر مغلقة شباكها.
في الليالي التي ينيرها القمر، تنام الأم في غرفتها، وتصلي قيام الليل، حيث علقت على الحائط الغربي للغرفة صورة للكعبة. تسجد الأم على السجادة العتيقة المخملية المزخرفة التي أتى بها الأب من مدينة “قارمو”، وفمها يتمتم بالذكر دون توقف، تحت أضواء الليل الشاحبة، تستشعر “ليان ليان” من طيف أمها أنها مغمورة تماما في نوع من الاشتياق لله، إنه اشتياق لن ينقطع حتى آخر نفس لها. ذات مرة رأت “ليان ليان” فم أمها يرتعش بعد الانتهاء من الصلاة، فاقتربت بكفيها من وجهها، وارتجفت يداها أيضا، وبعد أن سلمت الأم منهية صلاتها اعتدلت في جلستها بخشوع، وضغطت بقماشة بيضاء بجانبها تحت محجريها. ضحكت “ليان ليان” فجأة؛ فمدت الأم رأسها للأمام قليلا، كمن يتمدد على السرير محاولا رؤية من على الأرض، تلك النظرة المتحيرة التي تبحث بها عن شيء جعلت “ليان ليان” تقع على الأرض من كثرة الضحك. في الأخير عدلت الأم قامتها، وأمسكت بالمسبحة قائلة: “أيتها الفتاة البلهاء، حقا بلهاء، علام تضحكين؟”.
ضحكت “ليان ليان” قائلة: “أمي، كنت تبدين كأنك خائفة من شيء ما، لقد كنت ترتجفين”.
قالت الأم بصوت خفيض هادئ: “بالطبع خائفة، لقد كبرت أمك، ماذا أفعل إذا لاقيت الله؟”.
عندما قالت الأم هذا الكلام بدت أيضا مرتجفة؛ مما أشعر “ليان ليان” بالخوف من رأسها حتى أخمص قدميها.
في ذلك الوقت، ظلت “ليان ليان” صامتة دون أن تتفوه بكلمة، ومدت يديها برفق داخل الدولاب، وأحضرت الكاكي المجفف والزبيب وبعض قطع البسكويت الهش الذي أتى به أبوها، ووضعته في طبق أمام أمها؛ فأخذته الأم منها، ووضعته بجانب قدميها، ولم تتكلم، فقط أمسكت بالمسبحة في يديها وأخذت تردد التسابيح والأذكار بسرعة.
تبللت عينا الأم مرة أخرى، وصارتا غائرتين، وحينها بدت الأم أكثر نحافة مما هي عليه.
أحيانا تنظر الأم إلى “ليان ليان” وتتأملها بلا حديث.
قالت لها “ليان ليان” ذات مرة:
ــ أمي، هل تسمعين الأستاذ “يانج” حين يتلو القرآن؟
“ماذا به؟”ـــ
ــ إنه يتقن التلاوة بشكل رائع.
تمتمت الأم: “امم”، ولم تعقب.
حين قالت الأم: “امم”، لم تلتفت إلى “ليان ليان”، فقد كانت تتدبر في الحياة الآخرة.
في المساء هبطت أشعة الشمس بخجل تعلن قدوم الغسق، وصوت الطير على الأشجار بجانب الطريق يبدو بعيدا نوعا ما، وكبار السن يسعلون وهم في طريقهم للمسجد. يسمع سعالهم باهتا أيضا، حينها كان ضوء مصباح الغرفة الصغيرة خافتا، و”ليان ليان” جالسة بهدوء على الكرسي وسط الغرفة، خُيل إليها أنها رأت ذلك الوجه الحليق النظيف، حيث حملقت بشدة في هذا الشاب الذي يرتدي عباءة طلاب الدين وهو يمشي على عجلة من أمره ليمر على الجسر الحجري في “سونايبا”.
بدت قبعته البيضاء التي يعتمرها مع آخر خيوط الشمس الذهبية وقت الغسق كأنها سحابة ناصعة البياض، كانت عينا “ليان ليان” رقيقة جذابة، شعرت أنها تريد أن تكون عيناها مثل الماء لتبلل هذا الشاب فوق الجسر الحجري. أطبق الشاب شفتيه ورمقها بنظرة صارمة وأكمل سيره مرة أخرى في حزم. بدا الجسر الحجري عاليا جدا، كأنه ارتفع بالشاب ناحية السحب المهيبة، والشاب ينظر لها من فوق طبقات السحاب. شعرت “ليان ليان” برغبة في دندنة أغنية، تغنيها لهذه العيون الوحيدة الصافية؛ فتتلألأ عيناه بالدموع متأثرا بالنفس الحار الذي سيتسلل عبر صوت الغناء، بعد ذلك حتما سيتأثر الشاب فيهبط متهاديا من السحاب، فينظر بعينين مليئتين بالجرأة ومشاعر الحب ويأخذها معه.
لم تضيء “ليان ليان” المصباح. ظلت جالسة في هدوء الغرفة المظلمة، والكرسي الخشبي، كأنها تشاهد بحيرة جميلة تنعكس فوقها أشعة الشمس المشرقة.
مرت أيام شهر رمضان تتوالى، تغرب الشمس كل يوم ثم يذهب رجال القرية للمسجد، يحملون تحت إبطهم طبقا يضعونه بعد دخول المسجد فوق لوحين خشبيين أمام غرفة الإمام. تملأ صفوف الأطباق المكان، فترى أطباقا بيضاء، سوداء، زرقاء، مزركشة، خضراء أو سماوية اللون، فتبدو كلوحة جدارية ذات خطوط عريضة، متلاصقة. يستخدم القائمون على توزيع الطعام أطباق الغسيل أو الجرار الحمراء القاتمة في طعام الإفطار، ويضعونها بجانب اللوح الخشبي، ويقوم أحد مسؤولي المسجد باستخدام مغرفة حديدية طويلة، لملء تلك الأطباق للصائمين. يقول إمام المسجد: “آمين”، وحين تدق مقرعة الإفطار، يسرع الناس بالدعاء، ويمسحون على وجوههم مرتين، ثم يتجمعون ليبحث كل منهم على طبقه. دائما ما تكون رائحة الإفطار داخل الطبق شهية. تتصاعد رائحة الطبخ مع ضباب المساء بين الأشجار، فتنساب متخللة الأبواب الخشبية السوداء التي أبلتها يد الدهر، تتجاوز الروائح تلك الأعشاب الخضراء إلى البيوت القديمة ذات صفوف القرميد، والجدران الكثيرة المبنية بالطين الأصفر، تلك الأبواب المقوسة المبنية من الطوب الأحمر، حتى هؤلاء المتسكعون الذين لا يؤدون الصلاة يحضرون أطباقهم ليتناولوا الإفطار فرحين، ويلحسون أطباقهم بعد الانتهاء من الأكل؛ فيبتسم حامل المغرفة، ويملأ أطباقهم مرة ثانية. أثناء تناول هؤلاء المتسكعين للطعام، يرون الكبار يرفعون أكفهم بالدعاء داخلين للمسجد لأداء الصلاة التالية؛ فيحملون أطباقهم وبها بعض الطعام المتبقي، ويرجعون لبيوتهم، حين يرتفع صوت الإمام: “لا اله إلا الله”.
بعد ستة وعشرين يوما من الصيام، تأتي ليلة القدر، يقوم الناس بالاغتسال، ويقوم الكبار ليؤدوا صلاة الليل، وهم يتلوون بصوت خاشع سورا طويلة من القرآن، ويقوم بعض الشباب بقلي بعض الفول السوداني وبذور عباد الشمس، ويظلون يقضمونها طوال الليل، وهم ينتظرون هالة من نور شديد البياض والإشراق تأتي من مكان بعيد فتدور فوق رؤوسهم.
في يوم وقفة العيد، عاد الأب “لاو باي” من مدينة “قارمو”. بعد عودته طلب من الإمام وطلابه أن يأتوا لقراءة ختمة القرآن في منزله، ثم تجاذب الإمام “دادا” أطراف الحديث مع “لاو باي” قائلا: “ابني سالم ولد مهذب، وبعد طول تفكير، نريد التقرب منك بالنسب، فما رأيك يا لاو باي؟”.
رد “لاو باي” معقبا: “يا إمام، هذا الأمر يخص الشباب فقط، يجب سؤالهم عن رغبتهم”.
قال الإمام: “كلامك صحيح”.
قال “لاو باي”: “انتظرني عدة أيام، سأكلف أمها بسؤالها، فإذا رغبت البنت، فسيكون خيرا”.
كانت “ليان ليان” ترتب الغرفة المجاورة وسمعت كل شيء وهي تنظف بجانب الباب؛ فجرت إلى غرفتها الصغيرة، ودقات قلبها تتسارع، وقالت محدثة نفسها: “سالم، اسمه الديني سالم”، وابتسمت بخجل. انقضى شهر رمضان وحل العيد؛ فعم الفرح أنحاء القرية، وغمرت السعادة كل الناس. بعد صلاة العيد، ذهب البعض لزيارة قبور أسلافهم وتلاوة سور من القرآن، وركب البعض الآخر دراجاتهم نحو البلدة للتسوق. أرادت “ليان ليان” الذهاب لشراء المكسرات، استعدادا للاحتفاء بالضيوف من الأقرباء في العيد. عند حافة جسر كبير مدهون باللون الأبيض بنى حديثا بجنوب البلدية، رأت “ليان ليان” الأستاذ “يانج” يدفع دراجته بتمهل، حيث بدا وحيدا جدا بجانب دراجته وهو يمر بجانب الجسر الكبير، كما بدا أن بعض الهموم تعتريه؛ فقد ظهرت عليه ملامح الإرهاق وشدة التعب. لكن رؤية الأستاذ “يانج” جعلت عيني “ليان ليان” تلمعان وأشعرتها بسخونة في يديها.

< إعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top