“رمضان” في قصص مغربية وأجنبية

حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.

الليلة المقدسة

< بقلم: الطاهر بن جلون

كان ذلك خلال تلك الليلة المقدسة، ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، ليلة نزول القرآن، الليلة التي تكتب فيها أقدار الكائنات، حين استدعاني أبيـ المحتضر وقتذاك، إلى جوار سريره وحررني. لقد أعتقني مثلما كان يتم إعتاق العبيد في السابق. كنا وحيدين، وكان الباب مغلقا بالمزلاج. كان يتكلم معي بصوت خفيض. فقد كان الموت حاضرا، وكان يطوف في تلك الغرفة التي يكاد ضوء شمعة ينيرها. وبقدر ما كان الليل يتقدم، كان الموت يقترب، منضبا تدريجيا ما وجهه. كما لو أن يدا كانت تمر على جبينه وتغسله من آثار الحياة. كان مغمورا بالسكينة، فاستمر يحادثني حتى مطلع الفجر. كنا نسمع المآذن المنادية للصلاة وتلاوة القرآن. كانت الليلة موقوفة على الأطفال. فقد كانوا يعتبرون أنفسهم ملائكة أو طيور الجنة بلا حدود.. كانوا يلعبون في الأزقة، وكانت صيحاتهم تختلط بصيحات المؤذن الذي كان يستعمل ميكروفونا لكي يسمعه الله على نحو أفضل. ابتسم أبي كما لو كان يقول إن ذلك المؤذن لم يكن سوى رجل بئيس يتلو القرآن دون أن يفهم منه شيئا.
كنت جالسة على مخدة أسفل السرير، وكان رأسي بجانب رأس أبي. وقد أنصت إليه دون أن أقاطعه.
كان تنفسه يلامس وجنتي. ولم تكن رائحته الكريهة تضايقني. كان يتكلم ببطء:
ــ هل تعلمين أنه لا ينبغي في هذه الليلة أن يموت أي طفل أو أن يتألم. لأن هذه الليلةخير من ألف شهر. إنهم هنا لاستقبال الملائكة الذين أنزلهم الله تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. ليلة البراءة، لكن الأطفال لم يعووا قطعا أبرياء. بل إنهم أكثر من ذلك رهيبون. وإذا كانت الليلة ليلتهم، فستكون أيضا ليلتنا، ليلتنا نحن الإثنين. ستكون الأولى والأخيرة. إن الليلة السابعة والعشرين من هذا الشهر مناسبة للحساب وربما للغفران. لكن بما أن الملائكة سيحضرون معنا لإحلال النظام سأكون حذرا. أريد إعادة الأمور إلى نصابها قبل أن يتدخلوا فيها. إنهم يعتقدون أنهم صارمون تحت مظهر رقتهم الطاهرة. إحلال النظام هو بدء الإقرار بالمعصية، هذا الوهم الفظ الذي جلب اللعنة على العائلة بأسرها. ناوليني قليلا من الماء، فقد جف حلقي. أخبريني كم عمرك؟ لم أعد أعرف الحساب.
ــ عشرون سنة تقريبا..
ــ عشرون سنة من الكذب، والأدهى من ذلك أنني أنا الذي كنت أكذب، أما أنت فلا دخل لك في الأمر، لا دخل لك أو تقريبا. وأخيرا فإن النسيان لم يعد حتى عاطفة، فقد صار مرضا. سامحيني، لكنني أود أن أقول لك ما لم أتجرأ أبدا على الاعتراف به لأي كان، حتى لأمك البئيسة، آه. خصوصا أمك، هذه المرأة الجدية التي لا فرح الله، وذات الخضوع المبالغ فيه، أي ضجر. كانت دائما مستعدة اتنفيذ الأوامر، ولم تتمرد أبدا أو ربما كانت تتمرد في العزلة والصمت. لقد تلقت تربيتها من تقاليد ضرورة خدمة الزوجة لزوجها. وكن أجد هذا عاديا طبيعيا. ربما كان تمردها يكمن في انتقام معلن: كانت تحبل سنة تلو أخرى وتلد لي بنتا إثر بنت، كانت تغرقني بهذه الذريات التي لم أرغب فيها أبدا، وكنت أتحمل وأتخلى عن الصلاة وكل ما يأتي منها. وعندما كان يحدث لي أن أذهب إلى المسجد، كنت عوضا عن أداء إحدى الصلوات الخمس أعكف على إعداد خطط جد معقدة للخروج منذلك الوضع الذي لم يكن يسعد أحدا. أعترف اليوم بأنه كانت لدي غربات في القتل. وكان واقع حملي لأفكار شريرة في مكان مقدس، مكان الفضيلة والسلام، يثيرني. كنت أستعرض كل إمكانيات جريمة كاملة. آه. كنت شريرا لكن ضعيف. إلا أن الشر لا يطيق الضعف. الشر يستمد قوته من العزم الذي لا ينظر إلى الوراء، الذي لا يتردد. غير أنني كنت أرتاب. وفي لأمك وأخواتك التلقيحات والأدوية الأخرى التي كانت توزع علينا. أما فكنت أبتلعهما؛ إذ كان علي أن أظل حيا لأدفنهن وأغير حياتي. أي جبن، أي بؤس. لقد أبعدت الصدفة والقدر المرض عن الدار. كان التيفود يختار جيراننا القريبين من بيتنا ويتلافى دارنا مواصلا عمله المميت. آه يا ابنتي. أنا خجل مما أقوله لك. لكن الحقيقة في هذه الليلة المقدسة، تتجلى فينا بموافقتنا وبدون علمنا. وعليك أن تنصتي إلي حتى لو كان هذا يؤلمك. لقد حل بالعائلة نوع من اللعنة. كان إخوتي يكيدون ما وسعهم الكيد، فقد كانوا يكنون لي كراهية شبه مقنعة، كانت أقوالهم وصيغ مجاملتهم تحنقني. لم أعد أتحمل نفاقهم. في العمق، عندما كنت أنزوي في المسجد، كان ذهني يفرز نفس الأفكار مثلهم، ومن المرجح أنني لو كنت مكانهم لكانت لي نفس الأفكار، نفس الرغبات، ونفس أشكال الحسد. لكنهم لم يكونوا يحسدونني على ثروتي، لا على بناتي. صبي لي قليلا من الشاي، فالليلة ستكون طويلة. أسدلي الستائر، يجب أن يعاش الدين في صمت وتأمل، وليس في هذه الجلبة التي تكدر صفو ملائكة القدر. هل تقدرين جسامة العمل الذي عليهم إنجازه في بضع ساعات؟ التنظيف. إحلال النظام. إنهم على أي حال فعالون. أحس بأنهم حاضرون في هذه الحجرة، وأنا أساعدهم على التنظيف. أود أن أرحل نظيفا، مغسولا من كل هذا العار الذي حملته بداخلي طوال شطر كبير من حياتي…
كم الساعة الآن؟ كلا، لا تخبريني، فقد عرفت الوقت دائما حتى وأنا نائم، إنها حوالي الثالثة وبضع دقائق. لقد أنجز الملائكةنصف عملهم. إنهم يمضون دوما مثنى مثنى. خاصة لأخذ الروح. في الواقع، يحط أحدهما على الكتف الأيمن، والآخر على الأيسر، وبنفس الحماس، يأخذان الروح بحركة بطيئة ولطيفة، إلى السماء. لكنهما في هذه الليلة ينظفان. لا وقت لديهما للانشغال بشيخ في رمقه الأخير.

< إعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top