رواية “مذكرات مِثلية” للكاتبة المغربية فاطمة الزهراء أمزكار

الرواية تحكي قصة مذكرات فتاة مثليَّة في رحلة عبر حافلة الحياة؛ تركبُها في طريقها نحو المجهول، حافلة شبه فارغة؛ فراغ يُثير الاشمِئزاز؛ حافلة يركبها أصناف كثيرة من البشر. مذكرات كتبتْها البطلة بلغة مُقلَّمَة كأظافر فتاة من دائرة الميم كانت قد تُضاجِعُها.
إنها حكاية تيتيمة الفتاة التي تبلغ الآن 21 سنة، مجازة في الأدب، حاصلة على دبلوم في تدبير المكتبات، تتحدث الفصحى والإسبانية بطلاقة، تكتُب و تُجيد الرقص الشرقي، تنتمي إلى منظمة
” فيمنس/ عاريات الصدور”.
يطلِق عليها أبوها اسم محمد شكري فهي مثله تريد أن تُضاجع العالم في صفة المؤنَّث. توافقُ على هذه المُقارنة في الجانب النَّرجِسي عند محمد شكري وفي زندقته وفي حُبِّه للنِّساء. علاقتُها بأمِّها جد سطحيّة و جافة، وتعتقد جازمةً أنها تكرَهُهاو تحشر أنفها في كل شيء.
تعتبِرُ ولادَتَها خطيئة كُبرى؛ فقد خرجت من ظُلمة الرِّحم إلى ظُلمة الوجود، أراد الأب والأم معًا التَّخلصَ منها وهي رضيعة، و اتفقا أخيرا على تسليمها إلى أسرة تقطن إيطاليا. لكن الجدَّة رفضت صفقة البيع هذه؛ لتحملَها للعيش معه داخل بيتها القصديري البسيط؛ بغرفة واحدة وحصيرة متآكلة وسط كريان يقتسم سكانُه مرحاضا عموميا. ستترعرع بين جدَّة تمتهِن العمل في البيوت و الطَّهي في الأعراس، و جدٍّ يبيع الفواكه بالقرب من محطَّة بنزين، بعد أن أغلق مصنع “فليطوكس” الذي كان يشتغلُ فيه أبوابه، و بين الخال الأكبر الطاهر الذي يتسكع ليلا وينام نهارا.
في سن السادسة من عمرها ستتعرض إلى جريمة اغتصاب دون افتضاض بكارتها بالقرب من المرحاض العمومي.
ستقع في حب جنوني لرنيم ذات الجسد الكردشاني، ولذرء فضيحتها سيتم تزويجها غصبا عنها من ابن عمها، لتتعرَّض إلى مهزلة فحص العذرية، رغم زواجها ستمتنع عن التزاوج مع زوجها لمدة ستَّة أشهر، إلى أن حلَّت تلك الليلة التي بدا فيها كلُّ شيء مُقزَّزًا وسال دم أحمر منثورِ كقطرات ندى أحدث لوحةً كئيبة على سرير التزاوج. بعدها مدَّ لها الزوج ورقة نقديَّة زرقاء ” كبْياض” تفرضُه التقاليد. هدية خالها الطاهر سيكون عبارة عن كتاب يحمل عنوان ” فتاوي عامة للنساء” لابن العثيمين، من أجل تصير زوجةً صالحة!!
ستتعرض للضرب من طرف الزوج الذي لا يهمُّه من الحب سوى وضع” المِرود في المَكحلة” سيشترط عليها لبس الخمار إن أرادت استكمال دراستها. أحسَّت أنَّها وُلِدت في رُقعة تُؤَلِّه الذَّكر على حساب الأنثى؛ كانت جارية تخدم زوجها؛ قطعة لحم بثُقب صغير.
تيتيمة اتَّخذت من سطح المنزل ملجأً لها للهروب من الجدران الأربعة ومن زوجها فؤاد، هناك في ذلك المكان ستتعرَّف على جاراتها: خدوج المرأة العاقر؛ التي رأت نفسها كأرض بور تخلَّى عنها الجميع حتى من صاحبها، فلم تعد تُجدي نفعًا، و كأن المرأة خُلقت لتكون خصبة تلِد ولاغير. فالعاقر امرأة مع وقف التنفيذ. و فطومة التي تُعاني من سرطان الرحم، فطومة التي نجت من اغتيال السرطان، لكنها لم تسلم من اغتيال ألسنة الناس.
تيتيمة ستنتفض في وجه الزواج التي لم تجد فيه سوى الجحيم ورأت فيه اغتصاب جماعي يبدؤُه الأب حينما يُساوم ابنته كنعجة سمينة، ثم يلتقِطُها الزوج من بين فخدَيها ليتباهى برجولة وهمية و فحولة زائفة لا تتحقَّقُ إلا بظهور الدماء، و رمي خرقةِ عِفَّتها لأهلها الذين يطوفون بسروالها المُلطَّخ عبر الأحياء القذرة، لينتهي حال المسكينة في يد أهلِ زوجها كخادمة مُطيعة.
بعد الطلاق، تيتيمة ستخلع الحجاب بعد أن قرأت واقتنعت بما جاء في كتاب ” فليُنزَع الحجاب” فبدا لها الحجاب استعبادا، فرأت في يوم الجمعة وقتا مناسبا لنزعه.
في هذه الفترة سيزداد عشقها لأجساد النساء، وترى في الرجل صديقا تُقاسمه أسرارَها وسجائرَها مُقابل الوفاء، شرط عدم النظر إلى صدرها والتفكير في ألوان ملابسها الدّاخلية، فهي تُقاسمُه الشَّغفَ نفسَه: حبُّ النساء.
سيزداد عشقها لرنيم، بسببها ستلجأ إلى “شوافة” تقرأ في “اللدون”، وإلى طبيب الأمراض النفسيَّة؛ لعلَّها تُشفى من هذا الحب المجنون.
نصحها أستاذ صديق بالكتابة لكي تتطهَّر، فكانت هذه المذكرات التي بين أيدينا. جدَّتُها كانت تقول لنساء الحي، أن حفيدَتَها أصابها جِنٌّ عاشق للنساء؛ على إثر ذلك أدخلوها لضريح أقامت فيه ثلاثة أيام، فتيقَّنوا أن جِنَّها يعبدُ فروج النساء و يجري حبُّهُم في دمائه. سيعرِضونها على راقٍ كتب عبارة ” ثمن الزيارة 100 درهم” على باب داره التي تفوح منها رائحة المِسك، قادَها إليه خالها الطاهر المساند الرسمي للخرافة، سيُقِرُّ الراقي أنَّ لا جنٌّ يسكنها، فقط تعاني من السحر والعين!!
في رسالة إلى أبيها ستعترِفُ له بأنها مِثلية تُضاجعُ النساء، سيُخبرها بأنه يعلمُ ذلك؛ لتقرِّر الخروج من الدولاب و إعلان مثليَّتِها. ليقتنع الخال بذلك ويزيدُ في محاربَتِهِ لها، و ستُولول الأم، و ينتشر الخبر في المحيط.
في العمارة الجديدة التي تسكُنها ستتعرَّف على نادية؛ في الثلاثين من عمرها، امرأة تكره الرجال وتصفُهُم بأقذع النعوت، ستتعلَّمُ منها التجارة في الممنوعات والمخدِّرات، تتغيَّر حالُتها الماديَّة، لكن نادية سترحل فجأة عن العمارة دون سابق إنذار و دون وداع. في هذه الفترة ستنال الشهادة الإعدادية و تعود إلى بيت أسرتها لتكتشف أن الاسم الذي تحملُه “تيتيمة” كانت تحمله عشيقةٌ لأبيها قبل زواجه من أمها، قاسمها جسده و روحه، ستكتشف أيضا أن والدَها مُناضِل في حركة إلى الأمام المحظورة، لتحمِل عنه شعارات الثورة من أجل أن يستفيق الجميع من سباته. تخرج في مظاهرات 20 فبراير وتقف حائرة بين الوقوف بجانب الإسلاميين أو بجانب آكلي رمضان أو بالاصطفاف مع اليساريين، عند نهاية المظاهرة ستجد نفسها في مخفر الشرطة. انتهت فترة الفبراريات وخلُصَت أن من خرج إلى المظاهرات لم يكن يُناضل من أجل الوطن، الكل كان يناضِل من أجل نفسه، فالرفاق طالبوا بالحرية قبل الخبز، والإخوان طالبوا بالشريعة قبل الخبز.
ذات يوم ستُباغتُها حالة شرود، وستصرخ داخل مقهى بأعلى صوت ” حطِّموا رأسي، حطِّموا عقلي؛ فهو سبب كُفري”.
تيتيمة ستلِج رحاب الجامعة، كلية الآداب.. ستُلقّب بدودة الكُتُب، ستتعرّف من خلال الكُتُب على سيمون ديبوفوار، فاطمة المرنيسي، مي زيادة نوال السعداوي وغيرهن. بعدها ستصبح مُهرة صعبة الترويض و ستُطلِّق زوجها..
ستجد في الكتابة انعتاقٌ من اللامعنى، وبحثُ في ماهية المعنى والوجود وفي الذات المنكسرة، فعندما تكتُب تشعر بأنها تُتاجر بألمِها، تبحثُ عن خوض تجربة قاسيَّة، فقط لكي تكتُب حتى لا تختنِق، تنتظرُ سواد الليل حتى يسدُلَ ستارَتَه على الدّنيا كي تشرع في الكتابة، تتَّخذ من واقِعِها حبرا للكلمات، فيسيلُ الحبر دما قاتِمًا. وتتساءَل لماذا سيقرأ الناس لها؟ فهي مجرّد امرأة مِثليَّة نكرة تُصارع كي يُحلِّق قوس قزح بسلام.
الكتابة علَّمتها أن تعترِف، الا تكون جبانة، أن تُصرِّح بأحاسيسها كلَّما سنحت لها الفرص. في الليل يزورها مخاض البوح والاعتراف، قرَّرت أن تُهدي مُذكِّراتِها لمن علَّمها أنَّ الثورة أنثى، و أنَّ الزَّمن يشفي أوجاع القدر.
مرَّة كتبت ” وبشِّر العاشقين الذين كلّما ذُكر الحبُّ وجِلت قلوبهم، اولئك هم المخلصون”، قرأها مدرِّس التربية الإسلامية، واتَّهمها بازدراء الدّين بعدما رفضت الخروج معه في موعد غرامي. و تساءلت عن تلك المذيعة حين قالت: ” إن الوطنَ غفرٌ رحيم” فلم يتَّهمها أحد!!
أحد مدّاحي الحداثة سينبري للدفاع عنها وسيُساندها في نضالها لتكون امرأة مُتحرِّرَة تُكسِّرُ سلطة الجسد، تيتيمة ستثورُ في وجهه، و تطلُبَ منه أن لا يُكلَّف نفسَه عناء الدِّفاع عنها من أجل أن يستمتِع بما يُخفيه شَعر عانتِها، فهي لن تُصبِح عاهرةً باسم التحرُّر، فأوَّل ثوَراتها ستكون ضد أمثاله، فلا حقَّ لأحدٍ في الدفاع عن جسدها، ومطالبتِها بأن تكون ثورة لا عورة. فهي من يقوم بالتحكُّم في هذا الجسد الذي هو كيان، فكر، عواطف وليس نهدا و مُؤخرة و أردافا وبِظرا، تيتيمة ترفُض كلَّ مساندة مشروطة.
تيتيمة ستُعلِنُ أمام أعين خالها المتطرِّف؛ أنها مُرتدَّة، فيأتيها هذا الأخير بالشيوخ لمناقشتها و محاولة إرجاعِها للصَّواب، لكنَّها تزداد رِدَّة، خالُها سيُعلِن بدوره أنَّ دمَها مباح، لتفِرَّ مع والِدها، التي ستسمع منه للمرة الثالثة في حياتها عبارة “ابنتي”، الأم ستقبَل بها ككافرة فذلك بالنسبة لها أفضل من أن تكون عاهرة.
وحتى تنسى فراق جدَّتِها ستسهر الليّالي تُدخِّن سجائر الحشيش، تنفثُ فيه غضبَها، و تجرع قنِّينات الخمر. وتنام خلال النهار كي لا تفكِّرَ بها.
ستشتغلُ بمكتبة الحسن الثاني بالدار البيضاء، براتب لا يتجاوز 1800 درهم، بالرغم أنَّ لديها إجازة في الأدب وحاصلة على دبلوم في تدبير المكتبات، خلال هذه الفترة، ستعتنِق المسيحية وستتعرَّف على كلثوم التي اعتنقت بدورها الدين المسيحي. سيدخل حياتَها مؤمن مسيحي مصري، سيحاوِل اغتصابها… لتنسحب من المسيحية؛ فقد دنَّسوا صورة المسيح و أصبحَ الكل من تُجار الدين إسلاميا كان أم مسيحيًّا.
بعد تجربة الاشتغال بالمكتبة ستلج مركز تكوين الأساتذة، لتحصل على الدبلوم وعلى مهنة أستاذة.
ستضيع منها البطاقة الوطنية، لتتّجه إلى أقرب مخفر للشرطة للتبليغ عن ضياعها. لتجد نفسَها وسط ضباط وسيل من الأسئِلة حول انتمائِها لمنظمة “فيمن” “عاريات الصدور”، ستُجيبهم بأن المرأة إذا أرادت أن تُسمع يجِبُ أن تُرى، والمجتمع منافِق لا تهُمُّه المرأة إلا إذا كانت عارية. ستُوقِّعُ المحضر بعد تدخُّل ضابط، الذي سيلتحِق بها بعد ذلك حاملا المحضر المليء بالأخطاء الإملائية و ينال قبلة على الخد وأشياء أخرى…
عند تجديد البصمات لاستصدار البطاقة الوطنية، ستتعرَّف على سناء البوليسية، تنشأ بينهما علاقة غرامية، معها ستشعُر بلذَّة فائقة، كانت وهي تضاجعها و كأنها تنكح المخزن، ستعرِض عليها سناء الزواج، لينتقلا إلى غرفة في أحد الدور التي تُستَأجَر للعاهرات والخليجيين. بعد ليلة حمراء وعند قدوم الفجر؛ تُباغتان بطَرْق قوي ومتواصل على الباب. في اليوم الموالي سيُنشر خبر مدوّي على صفحات الجرائد الوطنية ” اعتقال أستاذة و شرطية بتهمة المثلية بإحدى الشُّقق التي تُؤجَّر لممارسة الدعارة”.
تيتيمة كانت قد حاولت الانتحار وهي طفلة في السّادسة من عمرها في أول يوم صيام لها، حيث كان من المفروض أن يُقام حفلٌ بهذه المناسبة.. لكنَّه انتهى بشجار بين الأب والأم أفسد الليلة المباركة.
بعد طلاقها، لم تُفكِّر في الانتحار، لكن بعد رحيل المحبوبة رنيم التي تُحيي عظامها، ستشرب فنجان قهوة ممزوج بسُمِّ الفئران، و هي تنتظرُ الموت تقرِّر التجمُّل لاستقباله في أحلى هيئة، وستعثر على أوراق بها قصيدة كانت قد كتبتها سابقًا. تقول الأبيات:
لا أحدٌ يُحبُّني
كنملة تائِهة
أبحثُ عن كفًني
أنادي من خَلْفِ صُخورِ الدَّمْع
إذا مِتُّ يومًا
مَنْ عساهُ يَرْثيني
بقصيدَة جافَّةٍ
تُشبِهُني

دنيايَ قصيرَة
و جسَدي العليل
يطفو فوق السّنابل
كأُرجوان ذابِل بل شِراع
ماتت تيتيمة، و سيُحمل نعشُها فوق أكتافِ نساء.

< عبد اللطيف شهيد

Related posts

Top