سندان التهميش ومطرقة الفقر
مسالك طرقية وعرة غير معبدة تحبس الأنفاس، تمتد على عشرات الكلمترات، قطعتها بعثة بيان اليوم لتصل إلى القرى والمداشر التي تعرضت للهزة الأرضية على مستوى إقليم تارودانت.
هذه البقع الجغرافية المتموقعة بين قمم الجبال الشامخة، والتي يتطلب قطع كلمترات قليلة إليها ساعات طويلة، فقدت المئات من أبنائها جراء الزلزال، في مشاهد تدمي القلوب وتحرك حتى الحجر، ليس فقط لما خلفته الفاجعة التي أنهت كل آثار الحياة هنا إلا فئة قليلة من النفوس البشرية وعدد محدود من الأغنام وانقبضت لها قلوب كل العالم، بل جراء ما تعيشه من “زلزال” التهميش والعزلة ولا مبالاة المسؤولين.
السكان الذين لا زالوا متشبثين بإرث أجدادهم الممتد على مدى قرون طويلة، رافضين النزول من الجبل والتخلي عن المكان الذي فتحوا أعينهم عليه، أصبحوا يعيشون اليوم تحت وطأة مطرقة الزلزال المدمر الذي محى كل شيء في دقائق معدودة، بعد أن عانوا لسنوات طويلة كأنها الأمس من سندان الفقر الذي زاد من حدته التهميش والإقصاء والعزل والحرمان؛ الآن هم بين مطرقة زلزال الطبيعة المدمر وسندان “زلزال” الهامش القاتل.
“إن الوضع كارثي هنا، كان كارثيا قبل الزلزال، والآن ازداد سوءا، الأسر هنا تعيش على ما يرسله الأبناء الذين يشتغلون بالمدن، وأيضا على تربية الماعز وما تجود عليهم به الطبيعة من الأركان واللوز الذين تراجعا بشكل كبير بسبب الجفاف”، يحكي رشيد من قرية إيرك نوفلا ضواحي جماعة إذو وكماض، إقليم تارودانت.
وفرة الغذاء ونذرة الخيم
رغم حدة الألم، وفداحة الفقد، إلا أن الساكنة تحتفظ بابتسامة ذابلة تقاوم الفاجعة، وتعبر عن امتنانها من المساعدات المقدمة لها من قبل السلطات والمحسنين.
في هذا السياق، قال أحد أبناء الدوار ذاته: “تلقينا المؤونة من المحسنين، شكرا لهم وللسلطات، هناك وفرة في الغذاء”، مستدركا: “نحن الآن بحاجة ماسة للسكن، أو على الأقل لخيام تأوي لها الأسر، لا زلنا بدون مأوى”.
وشدد المتحدث ذاته على أن المؤونة متوفرة، إلا أن الدوار لم يتوصل بخيام، وهو ما يجعل خمسين فردا منه متكدسين في خيمة واحدة.
في سياق متصل، أبرز يوسف حدو، فاعل جمعوي وموظف في جماعة اداوكماض أن العديد من القوافل توافدت على المنطقة من مختلف أقاليم المملكة ‘الناظور، بركان، الدار البيضاء، أكادير، سلا، اسا الزاك، الداخلة، المحبس، تيزنيت، تارودانت، العيون..، وكذا الجماعات المجاورة التي لم تتأذى جراء الزلزال.
وشدد حدو في تصريح لجريدة بيان اليوم على أن المؤونة الغذائية كافية جدا، مستطردا: “إن ما ينقصنا هو الأفرشة والأغطية والخيام، فجميع ساكنة اداوكماض سواء الوسطى أو القاطنين بالجبال، أو قرب واد سوس، ينامون في العراء”.
وتابع يوسف قائلا: “تلقينا وعودا من قبل قوافل بتوفير الغطاء والأفرشة، نرجو من المحسنين أن يلتفتوا للمناطق الجبلية، لأن الشتاء مقبل، ويحتاجون الأغطية والخيام”.
تعد مسألة توفير الخيام وإيواء المتضررين من الزلزال أكبر تحد مطروح على مستوى إقليم تارودانت كما عاينته جريدة بيان اليوم، حيث إن التغذية متوفرة وبوفرة، إلا أن مئات الضحايا لا زالوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، في وقت يتكدس في عشرات الأفراد داخل الخيم باعتبار أن عددها لا يتجاوز رؤوس الأصابع على مستوى بعض القرى والمداشر.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعيش فاطمة رفقة 12 أسرة في خيمة واحدة قامت الساكنة بتشييدها على جدار متشقق معرض للانهيار في أي لحظة، يختبئ تحتها أزيد من 50 فردا، فيما يلتحف الرجال التراب ويتخذون السماء غطاء في انتظار التوصل بخيام تأويهم.
ويظل الشتاء هو الخطر المحدق بهذه المناطق وفق ما أورده أيضا احمد المنحدر من دوار أيت سليمان ضواحي تارودانت، مشيرا إلى أن “القرى الجبلية أصبحت قرى أشباح، تدمرت عن آخرها، والساكنة لا تجد ملاذا تحتمي فيه من برد الليل، وكلما تذكرنا قدوم فصل الشتاء ترتجف أطرافنا، كيف سنحمي الأطفال من قساوة المناخ ونحن لا نتوفر على الخيام حتى؟”.
تشرد ومستقبل قاتم
لا تزال أعين مختلف ساكنة أقاليم تارودانت مشدودة على مشاهد الدمار والخراب الذي حل بهم، ولا يعدو بذلك “المستقبل” سوى كلمة معلقة في الهواء، فارغة من المعنى.
بقلب يعتصره الألم، حاول رشيد في حديثه مع بعثة بيان اليوم تلخيص واقع الحياة بهذه البقع الجغرافية المعزولة، قائلا: “بدأت الأزمة قبل الزلال، والآن ازدادت حدتها، فالساكنة التي كانت تعيش على الأركان وزيت الزيتون فقدت هذا المورد سابقا مع الجفاف، وحتى البهائم التي كانت مصدر دخلها الوحيد ردمت ونفقت تحت الأنقاض، ولا يمكن التعويل على الفلاحة البورية، خاصة وأننا في فترة جفاف، أي مستقبل إذن لهذه الساكنة؟”.
وتابع رشيد وهو يشير بأصبعه إلى نساء يطبخن بجانب حائط مشقوق متبق من منزل منهار: “تصور لو سقط هذا الجدار المليء بالشقوق، على ماذا ستستند هؤلاء النسوة؟ الطرق هنا وعرة والوصول إلى المنطقة صعب جدا، وإن توقفت الإعانات لن نجد حتى ما نأكله، تركت أسرتي الصغيرة وعملي في كلميم، وأنا هنا منذ أسبوع مع والداي وإخوتي، لا أدري ما الذي علي فعله، ولا يمكن أن أتركهم في هذه الحالة، يعيش الأطفال والأسر في حالة تشرد تام”.
يرى رشيد المستقبل بنظارة سوداء: “لا معيشة لنا هنا بعد الآن، أصبحنا كمن يعيش في مخيم، ننتظر الإعانات، بينما الشتاء على الأبواب”، مضيفا: “لقد فقدنا مصدر عيشنا، جميع البهائم نفقت، ولا تزال تحت الأنقاض، كيف سنعيل أنفسنا مستقبلا؟ وأين سنبقى في الفترة المقبلة إلى حين إعمار المنطقة”.
رشيد لم يكن بالمنطقة أثناء وقوع الزلزال؛ وفور وقوع الفاجعة، تنقل من كلميم إلى هنا، تاركا عمله وأسرته، ليتفقد وضع أبيه الكهل ووالدته وإخوته: “أتيت مباشرة بعد الزلزال لأتفقد أسرتي، ورغم أنني لم أعش تلك اللحظات إلا أنني لا زلت أشعر بالخوف الشديد، فعندما وقعت هزة ارتدادية أمس خرجت أركض حافي القدمين إلى الخارج، وها نحن ننظر الآن لمنزل يفوق عمره 200 سنة وقد انهار عن آخره”.
من جهته قال علي الذي لم يتبق له من أسرته المكونة من ستة أشخاص إلا طفلته الرضيعة التي لا تزال في قسم الإنعاش: “كيف سأنظر للمستقبل، لا زلت أستفيق مفزوعا من نومي عندما أتذكر مشهد الركام، لا أستطيع فتح عيني جراء الدموع”.
في وضع غير مختلف كثيرا، يرى إسماعيل الذي يقيم بتطوان لأجل إعالة أسرته، والتي فقد منها ستة أفراد، هم والده وزوجة أبيه وعمه وزوجته وابنتيه، أنه من الصعب الحديث الآن عن مستقبل، “كنا نعاني أساسا قبل وقوع الزلزال، أما الآن فـ”كلينا العصا كثر”، ولست أدري كيف سنستطيع تدارك وضعنا بعد هذه الفاجعة”.
رعب وخوف
بلسان أمازيغي، ولثام يغطي جل وجهها، يكشف فقط عن عينان نال منهما الفزع والحزن، تحكي لنا فاطمة المنحدرة من دوار اركنوفلا، اداواكماض، إقليم تارودانت، دائرة اولاد برحيل، عن لحظات الزلزال والصدمة: “هرعنا للخارج بسرعة عندما بدأ السقف ينهار علينا، كنا في حالة صدمة، ولا ندرك ما يقع تحديدا، لا نزال إلى الآن نعيش في حالة رعب، وكلما سمعنا صوتا مرتفعا سواء لشاحنة أو هزة ارتدادية نظن أنه الزلزال مجددا فنجري مبتعدين عن كل ما قد يسقط علينا”.
لا يزال سكان كل القرى والمداشر هنا بإقليم تارودانت كما هو الحال بإقليم الحوز الذي زارته أيضا بعثة بيان اليوم، يعيشون الرعب والخوف، خاصة أنه لا زال يتم تسجيل هزات ارتدادية، عايش منها فريق بيان اليوم ثلاثة، اثنين بإقليم الحوز فيما كانت الثالثة حوالي الساعة الواحدة زوالا من أول أمس السبت، والتي كان وقعها كبيرا في نفوس كل المتواجدين من أسرة الإعلام والمرافقين لهم من السكان، حيث كانوا لحظتها فوق أنقاض قرية أكاديل، جماعة تيزنتاست، قيادة تافنكولت، والتي محاها الزلزال عن آخرها.
واستشعرت بعثة بيان اليوم على مستوى قلب مدينة تارودانت كما هو الحال بباقي كل الإقليم حجم الفزع والخوف الذي يخيم على الإقليم، حيث لا زال الكل ينام في الشوارع والساحات العمومية والحدائق، ومظاهر الخيام باختلاف أحجامها تغلب على كل الفضاءات خاصة خلال الليل.
الأطفال والنساء في وضعية نفسية صعبة جدا هنا ضواحي تافنكولت، فعدد الأيتام والأرامل مرتفع جدا، يعيشون على وقع آلام متعددة، ألم الفقدان وألم الخوف وألم المستقبل المجهول وأيضا ألم صعوبة العيش…
في صورة وردية تكسر السواد السائد بمنطقة أنزال ضواحي تافنكولت يجتمع عشرات الأطفال الذين فقدوا أسرهم حول بهلواني يعيدون وراءه الأناشيد ويقلدون حركاته البهلوانية، فيما تحاول مختصات غير بعيد عن المكان الاستماع إلى الأرامل، في محاولة للتخفيف من روع نفوسهم ومساعدتهم على اجتياز الأزمة والتغلب على الخوف، فيما لا يزال أطفال ونساء القرى الأخرى يصارعون خوفهم وألمهم بمفردهم.
هول الألم والفقدان..
اشترك الناجون من الزلزال في مختلف القرى التي حلت بها جريدة بيان اليوم، في وصف الواقعة بالكارثة المؤلمة، من ضمنهم عبد المجيد، ذو 16 ربيعا، والمنحدر من قرية أكادير جام، والذي تحدث إلى بيان اليوم وهو يرتجف: “لحظة وقوع الزلزال كنت للتو قد عدت للبيت بعدما كنت رفقة أصدقائي، وبينما كنت أشاهد هاتفي داهمنا الزلزال، لم أستوعب ما حدث إلا بعدما وجدت نفسي عالقا تحت الركام ولا أقوى على التحرك”.
وهو مستلق على سرير متهالك ويضع بجانبه عكاكيز وضمادات حيث تعرض لكسور متفاوتة الخطورة على مستوى كافة جسده الطفولي الصغير، واصل عبد الكريم سرده للحظات الزلزال مقاوما العبارات التي تخنق صوته بعدما فقد كلا من عمه وزوجة عمه وابنهما: “تمكنوا من إخراجي عند الفجر، وقاموا بحملي إلى المستشفى في اليوم الموالي على الساعة 11 صباحا، ولم أعد منه حتى مساء أمس الجمعة، أستعين حاليا بهذه العكاكيز، حيث أعاني من كسور في جسدي بأكمله، ولا أستطيع التحرك إلا قليلا”.
لم يعش لحسن المنحدر من دوار أكاديل، جماعة تيزنتاست، قيادة تافينكولت، لحظة الزلزال رفقة أسرته إلا أنه لم يسلم من آثار ما وصفه بالفاجعة العظمى: “كنت خارج الدوار وعندما عدت مع مطلع الفجر رأيت الدوار وقد تحول إلى ركام، توفي 39 شخص، منهم 9 من أفراد أسرتي، هم والدي، والدتي، أخي الأكبر وأطفاله الثلاثة، أخي الصغير مع ابنيه، وأخي الأصغر”.
“لم يتوان لحسن في البحث عن أسرته رغم الغياب التام للمعدات، مستعينا بيديه إلى أن تمكن من إخراج أخيه الأصغر وقد فارق الحياة، ليتوجه بعدها إلى أخيه الذي كان يستنجد وهو عالق رفقة زوجته تحت الركام”، يحكي لحسن والإنهاك باد عليه، مضيفا: “قمنا بتزويد أخي وزوجته بقطرات من الماء عبر أنبوب، ولم نتمكن من إخراجهم إلا عند ظهر اليوم الموالي، أخي توفي في مستشفى تارودانت، وزوجته لا تزال في قسم الإنعاش بمستشفى أكادير، وعندما زرتها اليوم وجدتها تقوم بتصفية الدم لأن كليتيها تأذت جراء الزلزال، فضلا على أنها أجرت عملية جراحية على مستوى رجلها، وستجري عملية أخرى”.
نفس المعاناة سردها على مسامعنا علي المنحدر من ذات الدوار، وعيناه تبكيان أسرته: “عندما عدت إلى الدوار بعد الزلزال، لم أجد سوى 4 ناجين، ثم بدأت أسمع صراخ العالقين أسفل الركام”.
انفطر قلب علي على صدى صراخ العالقين تحت الأنقاض، ليتوجه بدوره دون آليات، وبيدين تشهد جروحهما الآن على ما قام به؛ يحفر بقوة محاولا إخراج زوجته وطفلته الصغرى اللتان كانتا لحدود تلك اللحظة على قيد الحياة، مستطردا: “حاولت إنقاذهم، حاولت إزالة الركام، ولم أتمكن من إخراجهم إلا بحلول التاسعة صباحا، إلا أن زوجتي توفيت فور وصولها للمستشفى، ولا تزال طفلتي البالغة من العمر خمس شهور تقاوم في غرفة الإنعاش، فيما توفي أطفالي الثلاثة ووالدتي تحت الركام، ردموا بشكل كامل”.
وتابع علي: “لا زلنا نعيش في حالة خوف، وكلما رأيت طفلا صغيرا أتذكر أطفالي، ولا أستطيع السيطرة على دموعي”.
لا يزال إبراهيم ينظر بعينين شاردتين إلى الأنقاض حيث فقد تحتهما ابنه وزوجة ابنه وأحفاده، ويصف ما وقع قائلا: “إنها فاجعة، كنا في تارودانت، وعندما عدت صباح السبت، وجدت هذه المشاهد التي تدمي القلب، فقدت وعيي من هول الصدمة إلى أن أسعفتني الساكنة، قمت بعدها بإخراج ابني الذي كان يشتغل فقيها بهذا الدوار من تحت الأنقاض، وأخرجت بعدها باقي أفراد أسرته، وتوجهت صوب الدرك الملكي لأحصل على موافقتهم لأجل نقلهم لمسقط رأسي ودفنهم”.
وأردف إبراهيم الذي سيطر التعب والحزن على ملامحه، مختزلا ألمه في عبارة “لا إله إلا الله”.
كوميديا سوداء
في صورة لا تخلو من الكوميديا السوداء للأقدار، خرج عز الدين لبضع لحظات من أجل أن يدخن سجارته احتراما لأسرته وحماية لهم من آثار التدخين، ليجد بعد ذلك نفسه الناجي الوحيد من أسرته المكونة من زوجته وأطفاله الأربعة، ويحكي عز الدين هذه اللحظة بأسى بالغ: “احتراما لأسرتي الصغيرة خرجت لأدخن السجارة أمام بيتي، ليداهمنا الزلزال بعدها ويتحول البيت الصغير أمام عيني إلى أنقاض، ويحرمني من أسرتي الصغيرة، تمنيت لو كنت بينهما”.
**********
سائق سيارة إسعاف لـ بيان اليوم: خرجت من تحت الأنقاض وتوجهت مباشرة لحمل الموتى والجرحى
قال سائق سيارة إسعاف والموظف بجماعة اداوكماض، عمر ليركي، إن منزله سقط عليه وتم إخراجه من تحت الأنقاض، مؤكدا أنه مباشرة بعد إخراجه توجه إلى العمل وشرع في نقل الجرحى والموتى.
وأضاف ليركي في حديثه مع بيان اليوم: “عشنا مأساة كبيرة جدا، فاجعة بمعنى الكلمة، خرجت من تحت الأنقاض بعدما سقط منزلي، لأتوجه مباشرة للعمل، جازفت بحياتي، وحاولت استخراج الناس من تحت الركام ومن منازل شبه مهدومة، كان خطر سقوطها وارد بقوة”.
وتابع المتحدث نفسه: “لحسن الحظ أن أبنائي لم يكونوا بالمنزل، نظرا لتواجدهم وأهل القرية في عرس كان مقاما بالدوار، لم يبق في المنازل إلا بعض الشباب والكهول. توفي جاري وزوجته، وطالب يدرس بالكلية، وفقيه الدوار الذي عاش معنا أزيد من 20 سنة”.
واستطرد المتحدث نفسه مرتجفا: “بمجرد أن نجوت من تحت الأنقاض، انطلقت بملابس نومي ودون حذاء، وتوجهت إلى العمل، أحمل الموتى إلى الدرك، يجرون تحقيقاتهم ثم أعيدهم صوب الدوار، وندفنهم بعد الحصول على الأمر من وكيل جلالة الملك؛ فيما نقوم بحمل الجرحى إلى المستشفى”.
“كلما تذكرت تلك المشاهد أشعر بنفس الخوف، وحتى إن مرت 3 أشهر سيظل نفس الشعور؛ يقشعر بدنك فور تذكر تلك اللحظات؛ فارقنا أناس جمعتنا بهم نفس الحياة، كانوا معنا ذات اليوم، ثم إذا بهم ماتوا”، يضيف ليركي.
وأردف ليركي وهو يقف بجانب سيارة الإسعاف: “نتشبث بالإيمان لنتجاوز ذلك الرعب، في تلك اللحظة الكل يسعى لإنقاذ نفسه، لكننا نحن موظفو الدولة ملزمون بإنقاذ الضحايا، ليس نحن فقط، الجيش والدرك والشرطة ورجال الإنقاذ، نسمع صوت الصراخ والبكاء في كل مكان”.
وأوضح ليركي أنه يعيش رفقة أسرته كباقي المتضررين في خيم، ويتوصلون بالإعانات، مؤكدا أن الناس يعيشون في خوف، ودون مأوى، ويعيشون على إعانة المحسنين بالخيم.
**********
متطوع للبحث عن الضحايا: لا أستطيع النوم والأكل من هول ما رأيت
قال عبد الله أعراب من سكان جماعة إذا وكماض، الذي تطوع بعد وقوع الزلزال لإنقاذ الضحايا الناجين وإخراج الموتى، إنه: “عندما وقعت الكارثة اتجهنا صوب قرية “أمزال” بمجرد أن بدأ نور النهار يظهر، وصلنا بصعوبة حيث وجدنا الطرقات مغلقة”.
وأضاف أعراب الذي لا زال لم يتجاوز هول صدمة المشهد: “قمنا بإزالة التراب بأيدينا، وجدنا القرية انمحت عن آخرها، توفي العديدون، وضاعت المنازل والأموال والبهائم، قمنا بإخراج الناس، هناك أطفال سحقوا تحت الركام، ونساء حوامل ماتوا”.
وأردف المتحدث نفسه في حديثه لجريدة بيان اليوم: “إحدى المنازل سقطت على ساكنتها، وظل يفصل بين حطام السقف ورؤوسهم 20 سنتيم فقط، بينما أجزاؤهم السفلية سحقت تحت الركام، وجراء الزلزال أزيل أنبوب الغاز، فتسرب الغاز داخل المنزل، ما تسبب في اختناق أهله، قمنا لمدة ساعتين بحفر ثقب في الحائط لتوفير الهواء، نصف هذه الأسرة أصيب بالشلل وأخرجنا أحد أطفالها وهو في حالة غيبوبة، قاموا بتزويده بالأوكسيجين لكنه توفي”.
وتابع أعراب: “وجدنا إحدى النساء تصرخ بعد أن علق نصف جسدها تحت الركام، كانوا في حالة يرثى لها، قلبي يعتصره الألم، استمرينا في إخراج الناس إلى أن عجزت قدمي عن حملي، أخرجنا 120 شهيدا يوم السبت، قمنا بصلاة جنازة واحدة ودفناهم في قبر مشترك، حفرنا خمسة حفر ووضعناهم داخلها”.
واستطرد المتطوع نفسه: “هناك أطفال نجوا، وآخرون كسرت أضلعهم وهناك من كسر رأسه وهناك من ظل ينزف، عمت رائحة الجثث المكان، لأنها ظلت تحت أشعة الشمس وداخل الأغطية ما تسبب في انبعاث الروائح.. لا يمكن أن تنظر لتلك الأبواب التي كنا نحمل عليها القتلى بسبب الدماء ورائحة الجثث”.
عندما وصلنا ل”أنزال”، لم نجد حتى قنينة ماء، وجدنا شخصين يقومان بإخراج الناس، والناجون جالسون قرب النهر في حالة كارثية، خائفون، يرتجفون من البرد ويبكون، هناك أيتام وأرامل، وهناك عجزة فقدوا كل أسرتهم، وجدنا أشخاصا مصابين بالشلل ولم يستطيعوا التحرك عندما بدأ الزلزال، فسقطت عليهم منازلهم، وجدنا رجلا كبيرا في العمر وقد انهار منزله، بينما عكاكيزه بقربه، سمعنا صوت الصراخ من أسفل التراب، ينادون أبي أبي، عندما أسمع صوت الأطفال الصغار أستجمع قوتي وأحفر أكثر، إلى أن فقدت القوة تماما، سقطت على ركبتي وبدأت بالبكاء وجدني صديقي قرب النهر منفجرا بالبكاء بمفردي” يحكي عبد الله أعراب.
ويرى أعراب أنه “على من يود المساعدة عليه أن يتوجه للمستشفيات حيث يرقد الجرحى فهم في حالة يرثى لها، هناك من يتجه صوب هذه الدواوير ويقوم النصابون بتوجيههم صوب دواوير أخرى، وهناك من يخزن المساعدات في مخازنهم”.
يرفد المتحدث نفسه: “لا زلت لا أستطيع الأكل رغم مرور أسبوع من هول ما رأيت، لا اتجه للنوم حتى الثانية صباحا، لست أملك موارد مادية كي أساعد هؤلاء الناس لذلك أساعدهم ب”سواعدي، نحن عشنا الرعب رغم أن منازلنا لم تسقط، نعيش في العراء الآن، لكنني أفكر في القاطنين بالجبال والذين يضعون الخيم قرب النهر، فإذا ما هطلت الأمطار ستقع كارثة، هنا أطالب بأن يتم اجلاؤهم من تلك المناطق”.
في وقت لم يعد يتمالك عبد الله نفسه ويمسكها عن البكاء أنهى حديثه مع فريق بيان اليوم قائلا: “أكابر نفسي كي لا أبكي، لا أستطيع الإكمال الآن، لا زالت تلك اللحظات تمر أمام عيني وكأنني لا زلت أعيشها. أتذكر تلك اللحظات فيعتصرني الألم”.
صديق عبد الله الذي رافقه في العملية التطوعية، يقول: “كنت في المنزل، بعد العشاء سمعت صوت الزلزال، خرجت للخارج، والجميع فعلوا نفس الشيء وبتنا خارج المنزل إلى حدود السابعة صباحا، ثم توجهنا إلى أمزال، فقد سمعنا بأن امزال لحقها الأذى بشكل كبير”.
يضيف محمد: “فور وصولنا وجدنا الدواوير جميعها منهارة، كل المنازل منهارة، ورائحة الجثث تنبعث من بعيد، وصلنا للمنطقة يوم السبت على الساعة العاشرة صباحا، وكانوا قد استخرجوا ثلاثين أو أربعين شخصا، وبقينا نعمل إلى حدود صلاة المغرب، وتمكنا من استخراج 120 من القتلى، في قريتنا لم يقع شيء، لكن عندما توجهنا إلى ذاك الدوار كان المنظر لا يحتمل ولا يتقبله العقل، ترى الجثث متناثرة في كل مكان، وترى شخصا وقد هشمت عظامه، لا يمكن أن أصف لك تلك اللحظة، لا إله إلا الله”.
وتابع محمد: “لا زلت متأثرا بشدة، وكلما تذكرت تلك المشاهد… لا أعرف ما أقوله، لا استطيع النوم، أنام نوم التعب فقط لساعتين أو ثلاثة ساعات فقط، تلك الساكنة في وضع كارثي وبحاجة للمواكبة النفسية، فقد رأوا كل شيء يذهب من بين أيديهم، أحبتهم، مالهم ومنازلهم…”.
واستطرد محمد: “كنا نحمل الموتى باستخدام الأبواب والأغطية، واستعنا في نقلهم لأماكن الدفن بسيارات الإسعاف والسيارات من نوع بيكاب، كان هناك ستة سيارات إسعاف ولم تكن كافية، وساعدنا المحسنون في عملية الدفن، وتم الدفن بشكل جماعي، كان المظهر رهيبا، كان الموتى بأعداد كبيرة، وقام المتطوعون بتأدية صلاة الجنازة”.
مبعوثا بيان اليوم إلى الحوز: عبد الصمد ادنيدن- تصوير: أحمد عقيل مكاو